المقنَّعون

 

جولان حاجي

       

"عائلة"، و"هذا هو الإنسان" لـ جورج غروتش.

 

"بدت لنا رسوم جورج غروتش الساخرة تقريرًا واقعيًا، لا أهجيات فحسب؛ كنا مدركين إن كل هذه النماذج تحيط بنا"، تقول حنة أرندت. ويذكر غروتش إن كاريكاتيراته ورسومه، تلك التي صوَّر فيها ساسة وعسكريين قبل استلام النازيين للسلطة في ألمانيا، مستمدة من رسوم الغرافيتي على جدران دورات المياه العامة في برلين.

لا نعرف شيئًا عن أولئك الملهمين المجهولين، بينما لا تزال تفاصيل بالغة الصغر تظهر أمامنا في الصحف وشاشات السينما والتلفزيون ينبشها المنقبون في سير الخالدين ويدقِّقون في تحليلها. من الصعب مصادفة إنسان لا يرى في بقاء اسمه بعد موته أمرًا ضروريًا وطبيعيًا. المؤرخون القدامى خصّوا قلة قليلة بالخلود الشخصي، وشاعر مثل لوكريتيوس يصف رجلاً يشكو دنو موته، متحسرًا لأن المستقبل لن يتذكره، ولن يُنقص موته شيئًا في هذا العالم، فيجيبه الشاعر بسؤال عمَّن يتذكر الذين ماتوا في قرطاج وطروادة، ومن أبِه بموتهم؟ ويقول: لقد خسرت الماضي اللامتناهي، فماذا في الأمر إذا خسرت المستقبل اللامتناهي؟

الخلود، وأحد مرادفاته الشهرة، تمنحه للفنانين المؤسسات والمتاحف، وليس بالطبع متاحًا إلا للصفوة. مثل هذه الهبات النادرة تخلو من أي إيمان، إذا افترضنا أن السعي إلى ترك أثر، كتوقيعٍ أو اسم على الأقل، قد يحمل في طياته دوافع دينية وأملاً بحياة أخرى غير هذه الممنوحة لنا. ربما يخاف الإنسان أن يُنسى، وإذا غاب أوهم نفسه بمواصلته العيش في ذاكرات الآخرين. نرى الوجود اللامسمى يستمر من دوننا، ونحن نستخدم كل هذه الكلمات التي استخدمها الموتى، فكيف إذن لا يعيشون داخلنا؟ لا تزال تعلو في الصحراء الكبرى أكوام صغيرة من الأحجار حيث قضى مسافرون مجهولون دفنتهم القوافل. محض أحجار تغطي عظامًا، لا تحمل أية علامة على أسماء الموتى أو أسباب الموت أو تواريخه، ولا يلبث ركامها أن يزول، يبعثره ضبٌّ أو ريح أو رمال تتحرك.

المتاحف شأن آخر. يضع خبراؤها القفازات والكمامات، ويعاملون اللوحات معاملة الألغام أو المرضى شديدي الهشاشة أو جثامين العظماء. أبنية الخلود تلك معقمة كالمستشفيات ومحروسة كالبنوك، وفي ثلاثتهم يسود الصمت أو الهمس والحذر وتتحشرج النبرات تحت كاميرات المراقبة. الحياة خارجها تضج بفنانين يسمون أحيانًا أولاد شوارع، بعضهم يظهرون كالأشباح في ليل الأزقة خفافًا مسرعين، يعملون بنزق النزوات ولا يعنيهم التقييم والنقاد ولا يسمعون التأفف من انعدام المقاييس الفنية، لا يبالون بالثقافة لأنهم يصنعونها بطريقتهم. قد يبدو الغرافيتي شكلاً حزينًا من البراءة، أو على العكس فنًا ملعونًا ومنفِّرًا، كريهًا ومعيبًا يسبُّ ويقذع، وقد يراه المرفَّهون ضربًا من الشناعة فتشتكي ملائكة البرجوازية من أن أصحابه يقبِّحون جمال الانسجام والتوازن. إن مرحه وخفته وسرعته تجعله فنًا شعبيًا يعيد الفن إلى الجدران التي بدأ منها في الكهوف، لهوًا وتسلية، تذكرًا واحتجاجًا، ارتجالاً وأحيانًا مخاطرة بالحياة. إنه فن العراء ولا يلزمه منزل أو رعاة مقتدرون، فن منذور للزوال كالأكواخ أمام القلاع والقصور. فما شأن فنانيه بادعاء التواضع وبالتنافس والتزلف والمجاملات؟ ما همَّ إذا تذكرتهم الأبحاث والمراجع في المستقبل، وسُميت الشوارع بأسمائهم ونصبت تماثيلهم في الساحات؟ نرى الرسوم والكلمات المنفوخة الضخمة على أسوار المعامل المهدمة وعربات القطارات المعطلة وفوق حاويات القمامة، تلوِّن الخرائب والأماكن الموحشة، لا يحصِّن فقرها شيء، ولا شيء يصونها أمام مرور الزمن والريح والشمس والمطر ودخان المركبات.

الأكاديميات تستوعب الثوريين فيما بعد، فتتوسَّع وتثري نفسها بالثقافات المضادة لسياساتها، تجدد دماءها على حساب خصومها القدامى، المنشقين الذين تمرَّدوا على السطوة والاستئثار بالامتيازات. الأكاديمية الفرنسية تفتخر ببودلير الآن، وألن غينسبرغ دخل إلى مناهج التعليم في الولايات المتحدة. المتاحف والأكاديميات سلطة صريحة تبيح وتحظر وتكرِّس وتروِّج وتطرد من الفردوس، فتبارك بقرة هيرست وكلاب كونز. سدنة الخلود يضعون المراتب لرفعة الذوق، ممثلو الأسياد والمالكين والحكومات والمقتنين الأثرياء الغامضين في المزادات. فليجرب من يشاء ما يشاء في فوضى العصور، وليرتجل أي كان ما يريد وليسمِّه فنًا، وليغضب المحرومون والشبان ويعبروا عن أحقادهم وحرياتهم، فلن يعرفوا السر ولن يستطيعوا تحديد قيمة ما يفعلون وما ينجزون، ولن يهتدوا إلى الطريق المعبد نحو مجمع الخالدين، لأنهم كجوعى إلى الشهرة بعيدون عن المجد المتخم بنزلائه. هناك دائمًا متمكنون يأتون ويقررون أخيرًا ما هو الفن المحكم الرصين وما هو الجميل والأصيل، ولن يُسمَح لأحد أن يمزق بطيشه بيت العنكبوت الذي غزلته عبر القرون، فاصطادت فيه ما اصطادت، وكفَّنته بالحرير وحنَّطته.

*** *** ***

عن صفحة الكاتب على الفيسبوك

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني