الصفحة السابقة                    

الزمان والآخر: الجزء الرابع

 

إيمانويل ليفيناس

 

IV

كنت قد انطلقت في المحاضرة الأخيرة من المعاناة كحدث تكتمل فيه عزلة الموجود، أي، كامل حدَّة علاقته مع ذاته وكامل قطعية هويته. أيضًا، انطلقت من المعاناة كحدثٍ يجد الموجود نفسه في علاقة مع ما لا يمكنه الاضطلاع به، ويكون إزاءه مجرد سلبية مغايرة تمامًا لا يمكنه إزاءها الإمكان. إنَّ مستقبل الموت هذا يحدد بالنسبة لنا الآتي؛ الآتي على اعتبار أنه ليس حاضرًا. إنه يحدد ما يتباين في الآتي عن كل استباق أو استشراف أو وثبة. إنَّ الانطلاق من فكرة كهذه عن الآتي لفهم الزمان يعني عدم فهمه أبدًا كـ "صورة متحركة لأبدية ثابتة".

عندما ننزع عن الحاضر كل استباق يفقد الآتي كل طبيعة مشتركة مع الحاضر. فهو ليس مدفونًا في قلب أبدية موجودة مسبقًا لنتناولها نحن فيما بعد. الآتي آخرٌ وجديدٌ بشكل كلي. وبهذه الطريقة نستطيع فهم الحقيقة الواقعية للزمان، أي، الاستحالة المطلقة لأن نجد في الحاضر معادِلاً للآتي. لا قدرة للحاضر على الآتي.

لا شك في أنَّ تصور برغسون للحرية عبر المدَّة يتجه نحو الهدف نفسه. لكنه يحتفظ للحاضر بقدرة على الآتي؛ فالمدة خلق. لا يكفي لنقد هذه الفلسفة – من دون موت – أن نُدرجها في تيار الفلسفة المعاصرة التي جعلت من الخلق الصفة الأساس للمخلوق، بل يجب البرهنة على أنَّ الخلق ذاته يفترض انفتاحًا على لغز. هذا الانفتاح لا تستطيع هوية الذات منحه. لتعزيز هذا الطرح، ركزّنا على الوجود الغفل اللارحيم كعالمٍ ممتلئٍ، وعلى الأقنوم الذي يبلغ مستوى يسود فيه الموجود على الانوجاد. لكن، وفي الوقت ذاته، هذا الأقنوم ينحبس في قطعية الهوية التي لا يشكل التعالي المكاني إخفاقًا لها. فالأمر لا يتعلق إذن بمعارضة فعل الاستباق الذي عودتنا عليه توصيفات برغسون عن المدة، بل بإظهار شروطها الأنطولوجية. هذه الشروط هي واقعةُ ذاتٍ في علاقة مع اللغز – وليست أثرًا لها. واللغز في هذا السياق هو البعد الذي ينفتح لذات منحبسة داخل ذاتها. لهذا السبب تمامًا يكون أثر الزمان عميقًا. فهو لا يقتصر على التجديد عبر الخلق، لأن الخلق يبقى مرتبطًا بالحاضر؛ ولا يعطي للخالق سوى كآبة بيغماليون Pygmalion. لا ينحصر أثر الزمان بتجديد حالاتنا الروحية ومزايانا. الزمان، جوهريًا، ولادة جديدة.

*

الإمكان والعلاقة مع الآخر الإنساني

لا يترك آتي الموت وغرائبيته للذات أيَّ مبادرة. يوجد هوة سحيقة بين الحاضر والموت، وبين الأنا وآخرية اللغز. إنَّ ما أثار انتباهنا ليس حقيقة أنَّ الموت يُنهي الوجود، وأنه نهاية وعدم، لكن، حقيقة أنَّ الأنا بمواجهته تكون من دون مبادرة على الإطلاق. إنَّ التغلب على الموت ليس مسألة الحياة الأبدية. التغلب على الموت يتمُّ بإقامة علاقة شخصية مع آخرية الحدث.

أيُّ علاقة شخصية تختلف عن قدرة الذات على العالم وتحافظ، مع ذلك، على خاصيَّة الشخصية؟ كيف نستطيع أن نقدم تحديدًا للذات يستند إلى سلبيتها نوعًا ما؟ أيوجد في الإنسان تمكنٌ آخر غير رجولة الإمساك بالممكن، وغير إمكان الإمكان هذا؟ إذا وجدناها (هذه العلاقة) فعليها يتكئ الزمان.

قلت فيما سبق إنَّ هذه العلاقة هي العلاقة مع الآخر الإنساني. لكن الحلَّ لا ينتج عن تكرار كلمات المشكلة. سنقوم بتحديدٍ أدق لهذه العلاقة. إحدى الاعتراضات تقول إنَّ للآخر في هذا العلاقة ماضٍ أيضًا، فألقاه كما ألقى الآتي – وبالتالي، لا يحمل الآخر الإنساني أفضلية الآتي. يسمح لي هذا الاعتراض بالبدء بالجزء الأساس لمحاضرتي اليوم. فأنا لا أعرِّف الآخر بالآتي، وإنما الآتي بالآخر، لأنَّ آتي الموت يقوم على آخريته الكلية. إجابتي عن هذا الاعتراض هي أنَّ العلاقة مع الآخر، إذا ما نظرنا إليها من مستوى حضارتنا، هي تعقيد لعلاقتنا الأصلية. هذا التعقيد ليس ظرفيًّا، وإنما مؤسَّس على الديالكتيك الداخلي لعلاقتنا مع الآخر الإنساني. سأكتفي هنا بالقول إنَّ هذا الديالكتيك يظهر عندما ندفع بتضمينات الأقنوم – التي عالجناها بشكل منظَّم – إلى أقصاها. وبشكل خاص، عندما نُظهر، إلى جانب التعالي نحو العالم، تعالي التعبير الذي يؤسس للتوازي بين الحضارة وتقابلية كل علاقة. يفترض تعالي التعبير هذا آتيَ الآخرية التي سأحصر بحثي فيها الآن.

إذا خرجت العلاقة مع الآخر عن كونها علاقة مع لغز، فهذا لأننا تناولنا الآخر في الحياة اليومية حيث تحتجب عزلته وآخريته عبر اللباقة. هنا، تكون العلاقات كافة متساوية، ولا مكان استثنائيًا للذات. فيتمُّ التعرُّف إلى الآخر من خلال الودِّ، أي، كأنا أخرى alter ego. يدفع بلانشو هذه الحالة، في روايته Aminadab، إلى حدِّ العبث. فلا عمل مشترك ينتظم خلفه الأشخاص في المنزل الغريب حيث يجري الحدث. يكتفي الأشخاص بالسير. هم يقيمون فحسب، أي، يتواجدون، لتصير العلاقة الاجتماعية علاقة تقابلٍ تام. تكون الكائنات غير قابلة للاستبدال بعضها ببعض، وإنما متقابلة réciproques. أو بالأحرى، قابلة للاستبدال لأنها متقابلة. فتصبح العلاقة مع الآخر، نتيجة لذلك، مستحيلة.

لكن، في قلب العلاقة مع الآخر التي تشكل طابع حياتنا الاجتماعية، تظهر الآخرية كعلاقة غير متقابلة، أي، تتباين عن التزامن. فالآخر الإنساني بما هو آخر إنساني ليس أنًا أخرى فحسب: هو ما لا يمكن أن أكونه أنا. وهو كذلك ليس بسبب خاصيته أو هيئته أو سيكولوجيته، وإنما بسبب آخريته بالذات. هو الضعيف – على سبيل المثال – والفقير، و"الأرملة واليتيم"، في حين أنني الغني والمقتدر. يمكننا القول إنَّ الفضاء الـ ما بين ذاتي ليس متناظرًا، وخارجانية الآخر لا تعود إلى المكان الذي يَفصلُ ما يبقى هُوويًا عبر المفهوم فحسب، ولا إلى اختلاف – أيًا كان – وفق المفهوم يمكن أن يتبدى عبر الخارجانية المكانية. إنَّ علاقة الآخرية ليست مكانية ولا مفاهيمية. لقد جَهِلَ دوركهايم الخاصية النوعية للآخر عندما تساءل بماذا قد يكون الآخر – وليس أنا – غرضَ الفعل الصالح.

ألا يعود الفرق الجوهري بين الإحسان والعدالة إلى أفضلية الإحسان المرتبط بالآخر، في حين أنه، من وجهة نظر العدالة، لا إمكان لأيِّ تفضيل؟

*

الإيروس

ما يجب البحث عنه في الحياة المتحضِّرة هي آثار هذه العلاقة مع الآخر في شكلها الأصلي. هل يوجد حالة تظهر فيها الآخرية في خالصيتها؟ هل يوجد حالة لا تكون آخرية الآخر فيها مجرد عكس لهويته، ولا تخضع إلى القانون الأفلاطوني للمشاركة حيث يحتوي كلُّ حدِّ على الذات و، بالتالي، على الآخر؟ أليس هناك حالة يحمل فيها الموجود الآخرية بوصفها حدًّا إيجابيًا، أي، كماهية؟ ماذا يمكن أن تكون الآخرية التي لا تدخل في تعارضِ نوعين من الجنس نفسه؟ أعتقد أنَّ الضد التضادي على الإطلاق، الذي لا يمكن لتضاديته أن تتأثر بشيء عبر العلاقة التي يمكن أن تقوم بينه وبين مقابله بل تسمح للحدِّ بالبقاء آخرًا على الإطلاق – هذا الضد هو الأنثوي.

إن الجنس sexe ليس فصلاً نوعيًا ما. فهو غير مشمول عبر التقسيم المنطقي إلى أجناس وأنواع. ليس المطلوب من هذا التقسيم أن يقابل محتوىً تجريبيًا طبعًا. لكن ليس بهذا المعنى هو لا يسمح بأخذ فصل الأجناس بالحسبان. إنَّ فصل الأجناس بنية صورية، لكنها تقتطع الواقع بمعنى مختلف وتشكل شرطًا لإمكان هذا الواقع كمتعدد؛ وذلك بالتضاد مع وحدة الكينونة التي طالب بها بارمنيدس.

كما أنَّ فصل الأجناس ليس تناقضًا أيضًا. فالتناقض بين الكينونة والعدم يقود من الواحد إلى الآخر، ولا يترك مجالاً للبعد. فينقلب العدم إلى كينونة؛ هذه كانت فكرة الـ "هنالك". إنَّ سلب الكينونة يجري على مسطح الانوجاد الغفل للكينونة على العموم.

كما أنَّ فصل الأجناس ليس ثنائية حدين متتامَّين، لأنَّ الحدين المتتامين يفترضان كلاً موجودًا مسبقًا. والقول إنَّ الثنائية الجنسية تفترض كلاً، هذا يقودنا إلى طرح الحب كاندماج، بيد أن انفعال الحب يقوم في ثنائية لا يمكن دمجها. إنها علاقة مع ما يتوارى إلى الأبد. العلاقة لا تقوم – بما هي كذلك – على إزالة أثر الآخرية وإنما تحفظها. والرغبة الحسيَّة لا تنشأ إلا بين اثنين. إنَّ الآخر بما هو آخر ليس موضوعًا يصبح ملكنا أو يصبح نحن، بل ينسحب داخل لغزه. لا يُحال لغز الأنثوي – الأنثوي الآخر ماهويًّا – أيضًا إلى فكرةٍ رومنسية معينة عن المرأة الغامضة أو المجهولة. إن حدثَ وعُدتُ، لكي أعزز طرحي عن المكانة الاستثنائية للأنثوي داخل نظام الكينونة، إلى الموضوعات الكبرى لـ غوته ودانتي، وإلى بياتريس Béatrice وإلى ايفغ فيبليشسEwig Weibliches ، وإلى تقديس المرأة في الفروسية والمجتمع الحديث (الذي لا يمكن شرحه بالطبع عبر إعطاء دفعٍ قوي للجنس الضعيف فحسب)؛ إن حدث – لأكون أكثر دقة – وجالت بخاطري الصفحات الجسورة والمثير للإعجاب لـ ليون بلوي، في رسائل إلى الخطيبة – أقول، إن حدث هذا، فلا أريد بذلك تجاهل المزاعم المشروعة للحركة النسوية التي تفترض كامل مكتسبات الحضارة. ما أقوله ببساطة إنَّ هذا اللغز لا يجب أن يُفهم بالمعنى الرقيق لأدب محدد، ففي الواقعية الأشد خشونة والأكثر وقاحة وابتذالاً لظهور الأنثوي لم يُلغَ لا لُغزها ولا حياؤها. إن الامتهان ليس إنكارًا للغز، وإنما واحدة من العلاقات الممكنة معه.

ما يهمني في فكرة الأنثوي هذه، ليس ما لا يمكن معرفته فحسب، وإنما نمط وجودٍ يقوم على التواري عن النور. الأنثوي حدثٌ يختلف عن التعالي المكاني أو تعالي التعبير اللذين ينزعان إلى النور. إنَّ نمط وجود الأنثوي هو الاختباء، وفعل الاختباء هذا هو الحياء بالضبط. كما أنَّ آخرية الأنثوي لا تقوم على مجرد خارجانية للموضوع، ولا تنتج عن تعارض للإرادات. فالآخر ليس موجودًا نلقاه ويشكل تهديدًا لنا أو يريد تملُّكنا. ولا تعود حقيقة أنَّه عصيٌّ على قدرتنا إلى اقتدار أكبر من اقتدارنا. إنها الآخرية تلك التي وراء اقتداره كله، ولغزه يشكل آخريته.

ملاحظة أساسية: أنا لا أطرح الآخر كحرية – وهي الخاصيَّة المؤديَّة لفشل عملية التواصل. فلا وجود لعلاقة أخرى مع الحرية سوى علاقة الخضوع والانقياد. وداخل هاتين الحالتين واحدة من الحريتين ملغاة حتمًا. يمكن فهم العلاقة بين السيِّد والعبد على مستوى الصراع، ولذلك تنتهي بأن تصبح تناظرية. وهذا تمامًا ما أوضحه هيغل، أي، عندما يصبح السيِّد عبدًا للعبد، والعبد سيِّدًا للسيِّد.

عندما أطرح آخرية الآخر كلغز وأعرِّفه عبر الحياء، لا أعني بذلك حريةً مطابقة لحريتي وعلى صراع معها. كما أنني لا أطرح بذلك موجودًا آخر يكون أمامي. إنني ببساطة أقدم الآخرية. تمامًا كما مع الموت، لسنا هنا أمام موجود وإنما أمام حدث الآخرية. وليست الحرية هي التي تَسِمُ الآخر، لنستنتج منها في ما بعد الآخرية، بل الآخرية التي يحملها الآخر كماهية. لهذا السبب، بحثنا عن هذه الآخرية داخل العلاقة الفريدة للإيروس. من المستحيل التعبير عن هذه العلاقة بمصطلحات القدرة. ولا ينبغي ذلك، هذا إن أردنا ألا نحرِّف معنى هذه الحالة.

إذن، نحن نصف مقولة لا تندرج داخل التعارض كينونة-عدم، ولا داخل فكرة الموجود. هي حدث داخل الانوجاد، وتختلف عن الأقنوم الذي انبثق منه الموجود. وفي حين يجد الموجود كماله في الـ "ذاتي" و"الوعي"، تجد الآخرية كمالها في الأنثوي. صحيح أنَّ مفردة الأنثوي من مرتبة مفردة الوعي، لكنها ذات وجهة معاكسة. لا يجد الأنثوي كماله كـ كائن من خلال تعالٍ نحو النور، وإنما من خلال الحياء.

الحركة هنا بالتالي معاكسة. يقوم تعالي الأنثوي على الانسحاب بعيدًا، وهي حركة متعارضة مع حركة الوعي. لكن هذا لا يعني أنه غير واعٍ أو ذو وعي باطنٍ، ولا أرى تسمية أخرى ممكنة تناسبه غير اللغز.

ما إن نطرح الآخر كحرية وعبر مصطلحات النور حتى نرى أنفسنا مرغمين على الاعتراف بفشل التواصل. وهو فشل الحركة التي تنزع إلى إمساك أو تملك الحرية. لا يمكننا القبول بعملية تواصلية داخل الإيروس إلا عندما نُظهر اختلافه عن التملك والقدرة. فهو ليس صراعًا ولا اندماجًا ولا معرفة. يجب الاعتراف بمكانته الاستثنائية من بين العلاقات الأخرى. إنها العلاقة مع الآخرية – مع اللغز، أي، مع الآتي، ومع ما في العالم – حيث كل شيء هنا ليس هنا بتاتًا. علاقة مع ما يمكنه أن لا يكون هنا عندما يكون كل شيء كذلك. هذا لا يعني أنه علاقة مع موجودٍ ليس هنا، بل مع بُعدِ الآخرية ذاته. هنا، حيث كل الإمكانات مستحيلة؛ هنا، حيث لا يمكننا الإمكان؛ هنا تبقى الذات ذاتًا عبر الإيروس. الحب ليس إمكانًا ولا يعتمد على مبادرتنا، ولا مسوِّغ له، الحب يجتاحنا ويجرحنا – ومع ذلك، تنجو الأنا من خلاله.

يتأكد طرحنا عن المكانة الاستثنائية للأنثوي، وعن غياب الاندماج داخل الإيروس، إذا ما نظرنا إلى الشهوة فينومينولوجيًا. فالشهوة ليست لذة كبقية اللذات، لأنها ليست لذةً متوحدة كفعل الأكل أو الشرب. المداعبة نمط وجودي للذات في تلامس مع آخر تذهب عبره الذات إلى ما وراء التلامس. صحيح أنَّ التلامس كإحساس يُعدُّ جزءًا من عالم النور. لكن المُداعَب ليس ملموسًا بالمعنى الحرفي للكلمة. ليست نعومة أو دفء هذه اليد في أثناء التلامس ما تبحث عنه المداعبة. إنَّ هذا البحث في أثناء المداعبة هو ما يشكل ماهية المداعبة، لأنَّ المداعبة لا تعرف ما تبحث عنه. هذه "اللامعرفة" وهذا الشواش الأساس يشكل جوهرها. هي كما لو أنها لعبة مع شيء يتوارى. لعبة من دون مخطط أو خطة، ليس مع ما يمكن أن يصبح لنا أو نحن، وإنما مع شيء آخر، آخر على الدوام، وعصي على الدوام، ويَعِد بالآتي على الدوام. المداعبة انتظار لهذا الآتي المحض وبلا محتوى، وتقوم على تعاظم الجوع هذا، وعلى وعودٍ أكثر غنىً، تفتح أفقًا جديدة على ما لا يمكن الإمساك به. تتغذى من جوعٍ غير متناهي. لطالما غابت قصدية الشهوة هذه عن انتباه الفلسفة. إنها قصدية الآتي الفريدة، وليست انتظارًا لواقع مستقبلي. حتى فرويد لا يقول شيئًا عن الليبيدو أكثر ممَّا قاله في مبحثه عن اللذة التي تناولها كمضمون وحسب، نبدأ التحليل انطلاقًا منه لكننا لا نحلله هو ذاته. كما لا يبحث فرويد عن دلالة هذه اللذة في الاقتصاد العام للكينونة. إنَّ طرْحَنا الذي يقوم على تأكيد الشهوة بوصفها الحدث الآتي بالذات – الآتي الخالص من كل محتوى – ولغز الآتي بالذات، يريد إعادة الاعتبار لمكانتها الاستثنائية.

هل يمكننا وصف هذه العلاقة مع الآخر عبر الإيروس كإخفاق؟ مرة أخرى، نعم – إن تبنَّينا مفاهيم النظريات الحالية، أي، إن أردنا وصف الإيروسي عبر الـ "الإمساك" والـ "التملك" و"المعرفة". لا شيء من كل هذا في الإيروس. إذا ما استطعنا تملك أو إمساك أو معرفة الآخر فلن يكون الآخر. إنَّ التملك والإمساك والمعرفة هي مرادفات للقدرة.

لطالما حُددت العلاقة مع الآخر كاندماج. أردت خصوصًا الاعتراض على ذلك. إنَّ العلاقة مع الآخر هي غياب الآخر – ليس مجرد غيابٍ بسيط، وليس مجرد غيابِ عدمٍ، وإنما غيابٌ في أفقِ وعدٍ بالآتي، غيابٌ هو الزمان. هو أفقٌ يمكن أن تقوم فيه حياة شخصية في داخل الحدث المتعالي. هذا ما دعوناه سابقًا التغلب على الموت.

*

المولوديَّة

لنرجع إلى المنحى الذي قادنا من آخرية الموت إلى آخرية الأنثوي. أمام حدث خالص، وأمام آتٍ خالص هو الموت، حيث لا يمكن الأنا الإمكان، أي، لم يعد يمكنها أن تكون أنا – كنا نبحث عن حالة يمكنها فيها، مع ذلك، أن تبقى أنًا. أسمينا هذه الحالة "التغلب على الموت". مرة أخرى: لا نستطيع وصف هذه الحالة بالقدرة. كيف أستطيع أن أبقى أنا داخل علاقة مع الـ "أنت"، أي، من دون أن أُستغرق أو أفقد آخريتها؟ كيف يمكن الأنا أن تبقى أنًا داخل أنت، من دون أن تتحول هذه الأخيرة إلى الأنا التي أكون في حاضري؟ أي، من دون أن تعود الأنا إلى ذاتها حتمًا؟ كيف يمكن الأنا أن تصبح آخرًا؟ ذلك ممكنٌ من خلال طريقة واحدة فقط: عبر الأبوَّة.

الأبوة هي علاقة مع غريب هو أنا، على الرغم من كونه آخرًا كليًّا. الأبوة هي علاقة الأنا مع الأنا عينُها، لكن، هذه الأخيرة، على الرغم من ذلك، تكون غريبة عن الأنا. الابن ليس مجرد صنعٍ لي، كقصيدة أو كشيء مصنوع، كما أنه ليس ملكيتي. لا يمكن لمقولات القدرة ولا لمقولات المُلكية أن تُشير للعلاقة مع الولد. كما ولا تسمح فكرة السبب أو الملكية بفهم واقعة المولودية. أنا لا أملك طفلي؛ أنا أكون، بطريقة ما، هو. بيد أنَّ للكلمات "أنا أكون" دلالة مختلفة عن الدلالة الإيلية أو الأفلاطونية. يوجد كثرة وتعالٍ في فعل الوجود هذا، تعالٍ غائب حتى عن المباحث الوجودية الأشدّ صرامة.

من ناحية أخرى، الابن ليس حدثًا يطرأ عليَّ كبقية الحوادث، كمثل حزني أو محنتي أو معاناتي. إنه أنًا؛ إنه شخصٌ. كما أنَّ آخرية الابن ليست آخرية أنًا أخرى. إنَّ علاقة الأبوة ليست علاقة تودُّد أضع نفسي من خلالها مكان الابن. أنا أكون ابني من خلال كينونتي وليس من خلال التودد. بالتالي، إنَّ عودة الأنا إلى ذاتها التي بدأت مع الأقنوم ليست غير رحيمة، وذلك بفضل أفق الآتي المشرَّع عبر الإيروس. وعوضًا عن الحصول على هذه الرحمة من خلال حلِّ الأقنوم – وهو حلٌّ مستحيل – نُنجزه عبر الابن. إذن، تنشأ الحرية ويُنجز الزمان عبر مقولة الأب وليس عبر مقولة العلَّة.

لا تأخذ فكرة الوثبة الحيوية عند برغسون التي تخلط، في الصيرورة نفسها، بين الخلق الفني والتوالد – أو ما دعوناه المولودية – الموت في الحسبان. كما أنَّها تنزع نحو حلوليَّة لاشخصانية، بمعنى أنها لا تَسِم انقباض وانعزال الذاتية بشكل كاف – وهي لحظة لا مفر منها في ديالكتيكنا. الأبوة ليست مجرد تجدد للأب في الابن واندماجًا معه. هي أيضًا خارجانية الأب إزاء الابن، أي، وجودٌ متعدد. يجب أن تُقدَّر مولودية الأنا من خلال قيمتها الأنطولوجيا المحددة، وهو عملٌ لم يقم به أحد حتى الآن. وأن تكون هذه المولودية مقولة بيولوجية أيضًا فهذا لا يبطل مفارقة دلالتها بأي حالٍ من الأحوال، ولا حتى الدلالة السيكولوجية.

بدأتُ بفكرة الموت، وبفكرة الأنثوي، ووصلت إلى فكرة الابن. لم أتقدم بطريقة فينومينولوجية. امتدَّ بحثنا من الديالكتيك المنطلق من هوية الأقنوم، ومن الترابط المتلاحق للأنا بالذات حتى التشبث بالهوية والموجود، لنصل إلى تحرُّرٍ للأنا إزاء الذات. الحالات الملموسة التي قمنا بتحليلها مثَّلت إنجاز هذا الديالكتيك. لا شك في أننا قفزنا فوق حالات وسيطة عديدة. لكن ينبغي الانتباه إلى أنَّ وحدة هذه الحالات – الموت، والجنسانية، والأبوة – لم تظهر إلا لتجتمع على إقصاء فكرة القدرة.

كان هدفي الأساس البرهنة على أنَّ الآخرية ليست مجرد وجود حرية أخرى إلى جانب حريتي. إنَّ الوجود المشترك لعدة حريات هي كثرة لا تؤثر فيها الحدود على بعضها البعض، أو، فإنَّ هذه الكثرة ستتحد تحت إمرة إرادة عامة. يُدخل كلٌ من الجنسانية والموت والأبوة في الوجود ثنائية ترتبط بوجود كل ذات بشكل مباشر. حتى الانوجاد يُصبح مضاعفًا، ونتجاوز إذ ذاك الفكرة الإيلية عن الكينونة. فالزمان ليس الصورة الساقطة من الكينونة، وإنما هو حدث الكينونة. سيطرت الفكرة الإيلية عن الكينونة على فلسفة أفلاطون، حيث ارتهنت الكثرة بالواحد، وجرى تناول الأنثوي عبر مقولات السلبية والفاعلية، فاختزل بذلك إلى المادة. لم يمسك أفلاطون بالأنثوي في فكرته الإيروتيكية الخاصة، فلم يُعطه دورًا في فلسفته عن الحب إلا داخل نظريته في المثل التي وحدها يمكن أن تكون موضوع حبٍ. فلم يلحظ خصوصية علاقة الأنا مع الآخر، وأقام جمهوريةً ينبغي عليها محاكاة عالم المثل. إنَّ موضوع فلسفة أفلاطون هو عالم النور، أي، عالم بلا زمان. هكذا، وانطلاقًا من أفلاطون، سيجري البحث عن نموذج الاجتماعي من خلال نموذج اندماجي. وسنظن أنَّ الذات، في علاقتها مع الآخر، تنزع للتماهي معه، لتختفي بذلك ضمن تمثُّل جمعي أو نموذج مشترك. إنها الجماعية من يقول "نحن"؛ من، متجهة نحو شمس المعقولية والحقيقة، تشعر بالآخر إلى جانبها – لا قبالتها. جماعية تنشأ بالضرورة حول حدٍّ ثالث يعمل عمل الحد الأوسط. هكذا، يبقى مفهوم كينونة الواحد مع الآخر Miteinandersein هو أيضًا جماعية الـ "مع"، ويظهر في صورته الأصليَّة باعتباره قائمًا حول الحقيقة. إنَّه جماعية حول شيء مشترك. وكما في فلسفات المشاركة كافة تعود فكرة الاجتماع عند هيدغر لتجد ذاتها من جديد في الذات الوحيدة، ليستمر المبحث التحليلي للدازاين، في صورته الأصلية عبر مصطلحات العزلة.

حاولتُ أن أقيم تعارضًا بين جماعية الـ "جنبًا إلى جنب" وبين جماعية الـ "أنا-أنت" – ليس بالمعنى الذي أراده بوبر، حيث تبقى التقابلية الرابط بين حريتين منفصلتين، وحيث لم تُقدَّر الخاصيَّة المحتمة للذاتية المعزولة. لقد بحثت عن تعالٍ زماني لحاضرٍ نحو لغز الآتي. لا يتم هذا التعالي من خلال المشاركة في حدٍّ ثالث أوسط، أكان شخصًا أم حقيقة أم عملاً أم مهنة. إنها جماعية لا تكون مشاركة. هي الـ "وجهًا لوجه" بلا حد أوسط، قُدمت إلينا عبر الإيروس، حيث يبقى بُعد الآخرية سليمًا حتى في قُربه، وينتج الانفعالي من هذا القرب وهذه الثنائية.

إنَّ ما نقدمه كإخفاق للتواصل في الحب يشكل تمامًا إيجابية العلاقة: هذا الغياب للآخر هو بالضبط حضوره كآخر.

مع الكوزموس الذي هو عالم أفلاطون يتعارض عالم الروح حيث لا تُختزل تضمينات الإيروس إلى منطق الأجناس، وحيث تحلُّ الأنا محلَّ الذات، والآخر الإنساني محلَّ الآخر.

ترجمة: د. جلال بدلة

*** *** ***

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني