مسامرات مع الشيطان 3

 

كاري الجويني

 

كانت ليلة عاصفة في الخارج. "الشتاء يعزف سنفونيته الغاضبة الهوجاء" قلت لنفسي وأنا أرمي بالمزيد من الحطب في مدفأتي العتيقة إلا أنني تذكرت قوله ذات ليلة ضاحكًا: "كفاك نعوتًا ظالمة فما ذنب الشتاء إذا كانت الطبول المدوية هي آلاته المتوفرة؟ وما ذنبه إن سكرت الطبيعة بسكون الخريف والصيف فشاء أن يقيضها لترقص على ألحانه أيضًا؟ من قال إن قلب الشتاء لا يعرف الغيرة والحب؟".

ابتسمت لذكرى كلماته ورفعت عينيَّ أبحث عنه في أرجاء الكوخ. فإن غادر الطاولة فسيكون بجانب رف الكتب في الزاوية. لم أعهده يظل في الخارج في مثل هذا الجو، إلا أن مطرحه كان خاويًا على غير عادته. وأنا في كوكبة تساؤلاتي تناهى إلى مسامعي أنين.. يا لعجبي إنه أنين! ألتفت إلى مصدر الصوت.. رباه إنه يرقد في سريره.. كأنني لا أتذكر قط أنه نام فيه منذ أن جاء!

اقتربت منه على وجل. إنه مغمض العينين يتصبب عرقًا ويئن من الحمى. الحمى! أمخلوق النار تؤرقه الحمى كذلك؟

لم أعرف كيف أتعامل مع مرضه. تذكرت أن أمي حواء كانت تقول دائمًا إن الأنثى تملك شفاءً لكل العلل بلمسة من أناملها إن كان فيها حب للمريض. جثوت بجانب السرير على الأرض ووجدتني أمسك يديه لأول مرة بين كفيَّ. وجدتني للحظات مندهشة أنني لم أحترق كما خيِّل لي دائمًا وأنا أحادثه أو أحاذر ألا ألمسه حين أقدم له فنجان القهوة. حسبته نارًا وهو برد وسلام لمن قلبه مليء بالحب. شعر بلمسة يدي فأمسك بأصابعي كأنه يستنجد بي. لم أمنع نفسي من التفكير بصوت عال: "كيف تؤرقك الحمى وأنت منها؟".

غالب أوجاعه وهو ينطق لإجابتي مغمض العينين. المسكين نادرًا ما أهمل سؤالي إلا إذا كان يعرف أنني سأعرف الجواب دون تدخله. سمعت يجاهد وهو يقول بصوت منخفض: "ألم تؤرقكم الراحة ولطالما أنشدتموها أبناء آدم؟ ألم يزعج السكون غليان أفكاركم وأفعالكم وأنتم خلقتكم من السكون الأعظم؟ ألم تستسلموا لوصفات عقولكم وفي داخلكم الدواء؟".

عاد الأنين يعلو من جديد. أطرقت متأملة كلماته في صمت وأنا أضم كفه المرتجفة راجية أن تخفف دعواتي من وجعه وأن يعدي ثبات أطرافي ارتعاشه. سرعان ما أخذ صوته يعلو ويتمتم كلامًا لم أفهمه. إنه يهذي. شددت على أصابعه أكثر وأنا أجد نفسي أقبِّلها لأمنحه من قلبي ما يشفيه.

"أنا بخير.. أريد فقط أن أولد من جديد.. آن للبالي أن يندثر ويخلق من رماده شخص جديد..". ارتعبت لكلماته المتناثرة. يا ربي.. هل هو احتضار؟!

كأنما أحس بذعري وهو في غيمة هذايانه..

"ما زالت كلمة موت تخيفكم بني آدم... كأن الموت نهاية بشعة والولادة ألم جديد بعد مخاض الموت. كأنني بكم اختزلتم مشواركم بتاريخ الميلاد وسجل الوفاة وتناسيتم أو غفلتم عن آلاف الولادات والوفيات في أعماركم. عميت بصيرة آدم منذ أن غادر الجنة لأنه فقد نعمة الانبهار والاندهاش لكل شيء بسيط يحيط به وخدعه عقله بوهم البداهة والرتابة والروتين. أغفل إشراقة الصباح وروعتها كأنه يحتفظ بها في محفظته اليومية ناسيًا أنها أشرقت بعد ليل طويل كان في سبات عميق لا يعرف إن كان منه سيفيق. أغفل أنه بين مزاج ومزاج يكون عبدًا لينقلب إلى إنسان. أغفل أنه بين سنوات الدراسة كان طفلاً ساذجًا ليصبح شابًا يافعًا عارفًا وشتان بين سذاجة الطفل وجهله وبين نضوج الشاب ومعرفته. أغفل أنه بين شبابه وكهولته تعمقت معرفته بخبرته وأصبح ما تعلمه وحسبه زادًا يغنيه من قبل ملح يذوب في ماء الحياة إن لم يختبره وتصهره نار التجربة. أغفل أنه بين كهولته وشيخوخته يمتلك عين الحكمة من الخبرة والمعرفة والمقارنة بينهما وبين سندان الأيام. أغفل أنه يوم يصبح في أي فترة منهما فهو يدفن مرحلته السابقة إلى ما لا رجعة فيه غير آسف ولا دامع لأنه لا يتفطن أن موتها كان بطيء الخطى يقتل اللحظة تلو الأخرى بصمته الثقيل وسط غيبوبة الفوضى التي يعانقها حاسبًا إياها أولوياته. أغفل أن بين لحظة تردد وخوف ولحظة قرار وإقدام موت لمنظومة من الأفكار السالبة وانتحار لشبح الانكسار وولادة جديدة للحياة ترفل في فستان الحب والحرية. أغفل أنه يكون منهمكًا في مساره لدرجة أنه لا ينتبه لتطور إدراكه يومًا عن آخر ويقف بعد مشوار طويل ليلقي نظرة عابرة على صوره الماضية. أيعقل أن ذاك في الصورة كان أنا؟ أغفل أن الأنا المتسائل اليوم والشاهد كان الجنين الذي ولد من رماد ذاك الأنا القديم وأنه سائر باجترار أفكاره المتناحرة نحو مصير مشابه ليترك الحلبة لأنا قادم يراقبه ويراقب أسلافه بدوره ويمتن لحضورهم ويبارك مشوارهم ويترحم على أيامهم وإن أسعفه الوعي حينها سيدرك أنه سيكون وهو من يخال نفسه ثوبًا كاملاً مجرد نول وخيوط ينسج منه ذاك الوليد الجديد.

هذا ما يغفله آدم وأدركه أكثر منه وأريده... نعم أريد ولادة جديدة... مخاضًا أشهده وأكون قابلته وعرابه. أريد نبوءة جديدة من أعماقي فأنا لا أؤمن بوحي السموات. أريد هاتفًا في داخلي يشق عتمة ترددي وضعفي ويتلقف ما تأفكه مخاوفي وهواجسي. أريد حبلاً سريًا طالما وصلني دون أن أصله. تعبت من هذا البحر الذي أوجدت فيه سبيلاً ثم كرهت المشي فيه لألم أرهق أقدامي ونفسي تهفو لفلك جديد ينسي العالم أسطورة المنقذ من الطوفان.. وكم أحتاج إلى الطوفان".

وتواصلت أناته ونبرته تعلو وتنخفض إلى أن تعب وأسلم للنوم أجفانه متأملاً أن يبعث كما يريد.. وسالمًا كما أريد.

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني