أسطورةٌ تحكُمُنا

 

سحر أبو حرب

 

يدهشنا التاريخ بكيفية توثيقه للأساطير، ويغرينا بمتابعة أخبار أقصوصاته، فلعل بها عبرة أو هدف أو غاية، ولعل من أغزر الروايات ثراءً وأغزرها حياكة ونسجًا قصة ابنَي آدَمَ؛ تلك الحادثة الرهيبة التي أخافت ولا تزال تخيفنا كلما ذكرناها. نعم، يقتل الأخ أخيه، هذه كارثة توصم ماضينا الإنساني، تعيقنا عن الانطلاق، تربط يدينا وتغمض المستقبل، أتعبُ أنا حين ذكرها، وأخاف، بل أخاف أن يعلم حفيدي أن هناك رجل قتل أخاه، لا أريد لتلك المعلومة أن تصل إليه.

يتشاجر الأخوة داخل البيت وفي باحة المدرسة، بل ضمن جدران الفصول وأروقة الجامعة، وفي الملاعب يتنافسون وعلى مقاعد القطارات قد يتسابقون، أشعر برغبة شديدة بإخفاء ذاك الحدث عنهم وعن أطفال المستقبل. هيا اخرجو للعالم وأنتم دون دم يتعب كاهل ماضيكم، لابد وأن أمرًا جللاً يجعل من رجلين طيبين رجلان نادمان، رجلان خاسران، تعبان، يبوءان بثقل جريمة، دفع كلاهما ثمنًا غاليًا، جعلهما قصة على جدار الزمن، فما من أمة، ومهما كان ماضيها الأسطوري، وتاريخها المحفور في الأذهان، إلا وقد حاصرتها تلك الجريمة الشنعاء، حتى أننا بتنا نحتار كيف نخفيها، فهي عار على الإنسانية، وماعليها أن تستمر في الحضور، بل لعلنا بل واجبنا أن ندخل عليهما في زمانهما، ونمسك بيد الواحد منهما، ذاك قابيل، ونرجوه أن يعيد النظر بالحدث، وليفكر مليًا، فالأجيال القادمة تقف ناظرة النتيجة كي لا تجعل منها قانونًا يُحتذى، ولا يغفر لهابيل الأخ المقتول في استفزازه المتعمد لأخيه.

هناك الكثير من الحكايات والكثير من الروايات والكثير من المدونات التي اتفقت على أن السبب الرئيس لعملية القتل هي عدم القبول. هو ذاك عدم القبول، والذي بات العالم اليوم يطرح موضوع القبول بالآخر كمطلب عالمي، إنساني، رحماني.

بعيدًا عن معتقداتنا الدينية، نحن أسرى تلك الحادثة الجلل التي بنيت عليها ثقافة قتل الآخر الذي فاز وانتصر وتقدم عليّ! وقُبل قربانه ونجح في حياته وتقدم عني! أنا الآخر المليء بالهزيمة!

إنها والله مأساة، مأساة بحق أن يقود دفة العالم هذان الرجلان، القاتل والمقتول. وهل للأجيال على مدى الدهور أن يكرروا تلك التراجيديا الأسطورية والتاريخية المحفورة في أذهان الأمم والشعوب على اختلاف دياناتها وقومياتها وألوانها؟ لابد من إعادة النظر والتأمل والتفكر والتروي، وترتفع عيون الجيل الجديد إليك تنظر متأملة ومنتظرة ما ستقول في تاريخ دموي! خط دمًا في الأرض وما محاه! ونقف مكتوفي الأيدي، نخاف التطرق لحديث جريمة القتل تلك، والقاتل والمقتول يتوالدان كل لحظة، ونظن أن لا مفر من تكرار ذات النتيجة حتى لو اختلفت الأسباب والدوافع. التصور الذهني الذي التصق بتلك الحادثة أتعبنا على مدى الدهور، ورغم تعبنا ذاك نرتجف حال همسنا، أن كلاهما كان خاطئًا، ما وجدنا على ظهر المعمورة لنقتُل ولا لنُقتَل، نحن هنا لنتراحم ولنرفع عن بَعضُنَا نير الظلم، ولنمسك بيد الضعيف فينا، ولنقدم خدماتنا فرحين بتلك الهبة. نحن هنا لنسعد معًا، لنتقاسم الرغيف وماء السماء. هذه الأرض لا يملكها أحد، إنها للجميع، للطيبين والأخيار، لا يمكن أن نبقى نراوح بين قاتل قادم ومقتول ينتظر؛ هذا جنون العصر.

تعقد المؤتمرات وتقام الاحتفالات وترفع الشعارات، ولا ينتبه العاملون عليها لتلك البذرة المرمية داخل النفوس، تلك النائمة بسعادة تحت ركام النفس. لابد من معرفة أن الإنسان الخيِّر هو الإنسان الذي بشَّر به الخيرون من الراشدين والفلاسفة، ذاك الذي يرفض القتل، ويرفض أن يكون مقتولاً. هذا الطفل لابد من إيجاده، لابد من صنعه، لابد من تشكيله وتربيته والعناية به...

تطرح التربية اللاعنفية نفسها بقوة هنا، مقتنعين بها، ومؤمنين أن لا بديل لها. يجب خلق نموذج إنساني يرتقي فوق نقيضي القاتل والمقتول، يمتاز عن قابيل وهابيل، يرتقي عنهما، ينساهما، كلاهما خاطئ. نحن أمام تحدٍ مخيف، حصرًا هذه الأيام، إن لم نتدارك القادم من الأيام، فنحن على شرف جرف هار إن لم نتغير.

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني