فلاديمير سولوفيوف: مُلهم دوستويفسكي وفيلسوف الحكمة المقدَّسة

 

فادي أبو ديب

 

في شتاء عام 1878م وقف شابٌّ في منتصف العشرينيات من عمره في إحدى قاعات جامعة سان بطرسبورغ الروسية ليبدأ سلسلة من المحاضرات بعنوان محاضرات في الإنسانية الإلهية Сhtenia o bogochelovechestvo. كانت المحاضرات حدثًا ملفتًا في الوسط الثقافي والأكاديمي الروسيِّ في ذلك الوقت. ومن بين الحضور كان الروائيان ذوا الشأن الكبير فيودُر دوستويفسكي وليف تولستوي الذي دخل شبه متسلّلٍ من دون أن ينبِّه الآخرين إلى وجوده وهو الذي لم يكن معروفًا بالوجه لكثيرين ومنهم دوستويفسكي نفسه[1]. كان المحاضر هو فلاديمير سيرغييفيتش سولوفيوف المولود في موسكو عام 1853 للمؤرِّخ الشهير سيرغي سولوفيوف. كان سولوفيوف الابن قد نال درجة الدكتوراه في الفلسفة عن الأطروحة التي قدَّمها بعنوان نقد المبادئ المجرَّدة في العام الذي سبق، 1877، وهي رسالة ضمَّنها نقدًا للفلسفة الغربية الغارقة في التجريد بحسب رأيه التي لن تؤدِّي - كما رأى في تلك المرحلة - إلَّا إلى العدمية والعبث. أطروحته هذه كانت قد سُبِقت بأطروحة الماجستير التي قدمها في عام 1874 بعنوان أزمة الفلسفة الغربية: ضدَّ الوضعيين، التي كما يبدو من عنوانها، كانت مخصَّصة لنقد المدرستين الفلسفيتين الرئيسيتين آنذاك؛ أي العقلانية ومن ضمنها المثالية من جهة، والتجريبية ومن ضمنها الوضعية المادِّية من جهة أخرى.

وقد أظهر سولوفيوف منذ سنٍّ باكرة، كما يتضح من رسالة الماجستير التي قدَّمها وهو يبلغ حوالي الحادية والعشرين من عمره، مقدرة كبيرة على هضم واستيعاب أفكار عددٍ كبير ومتنوِّع المذاهب والأفكار من الفلاسفة واللاهوتيين والمفكِّرين، بالإضافة إلى ذهنية شعريَّة وخيالٍ خصب ورؤيوي من الطراز الرفيع، ظهرا على سبيل المثال في مخطوطته الفرنسية الباكرة صوفيا التي قدَّم فيها فكرة مبدئية، وبطريقة حوارية تشبه كتابات القرون الوسطى، عن الحكمة الإلهية والمعرفة المستيكية (الصوفية) أو الإشراقية. ويرى بعض الدارسين أنَّ سولوفيوف، الذي كان صديقًا لدوستويفسكي وعائلته رغم فارق السنِّ الكبير بينهما، كان ذا أثر كبيرٍ في صقل أفكار صديقه الكهل، وخاصة في الرواية ذائعة الصيت الأخوة كارامازوف التي نشرها الروائيٌّ الكبير في سلسلة بين عامي 1879 و1880، أي بعد حضوره لمحاضرات صديقه الشابِّ في سان بطرسبورغ. ويشير جوناثان سَتُن إلى أنَّ عددًا من الباحثين قد أشاروا إلى أنَّ شخصية إيفان كارامازوف في الرواية لم تكن إلا تجسيدًا روائيًا لشخصية فلاديمير سولوفيوف الحقيقية بذهنها الحادِّ ونظرتها المتوثبة والمثالية للعالم[2]، في حين يرى آخرون أنَّ دوستويفسكي قد استلهم شخصية سولوفيوف في بناء جوانب معيَّنة في أكثر من شخصية واحدة في عمله الروائيِّ الشهير. وقد كان الأخير بالفعل شخصًا متعدد الجوانب ومتنوِّع الأطوار إلى درجة دفعت تلميذه نيكولاي برديائيف إلى وصفه بأنَّه كان فيلسوفًا عقلانيًا في النهار وشاعرًا مستيكيًا في الليل[3]، وذلك للدلالة على الناحية العقلانية الصارمة عند المفكِّر الروسيِّ، الموجودة جنبًا إلى جنب مع نظرة مستيكية وشاعريَّة بالغة العمق والروحانية للإنسان والوجود والتاريخ البشريِّ.

تتناول فقرات هذه المقالة الفترة الأولى المكوِّنة للأفكار الرئيسية للفيلسوف الروسيِّ التي تغيرت بعض تفاصيلها في مراحل لاحقة في حياته، رغم بقائها على وجه العموم من دون تغيير كبير.

أزمة الفلسفة الغربية

بالعودة إلى أطروحته حول ما سمَّاه أزمة الفلسفة الغربية، اعتبر سولوفيوف أنَّ العدمية التي وصلت إليها الفلسفة الغربية بمدرستيها الرئيسيتين لم تكن إلَّا نتيجة منطقية وطبيعية لتطوُّر الأفكار الفلسفية والمبادئ الأساسية التي تقوم عليها هذه الفلسفة. وقد حاول أن يبرهن أنَّ كلا العقلانية من جهة والتجريبية من جهة أخرى ليستا سوى وجهين لعملة واحدة وتؤدِّيان بالضرورة إلى نفس النتيجة. وفي أطروحته آنفة الذِّكر يقدِّم سولوفيوف ملخَّصًا للتطوُّر المنطقي لأفكار العقلانية الغربية منذ ديكارت وصولاً إلى هيغل، ثم يتمدَّد نحو شوبنهاور وفون هارتمان، ليتوصَّل إلى أنَّ ما تصل إليه هذه المدرسة ليس سوى تطوُّر للفراغ الجوهري في الفلسفة الأوروبية. كما أنَّه يقدِّم عرضًا شبيهًا للمدرسة التجريبية ابتداءً من فرانسيس بايكون وصولاً إلى جون ستيوارت مِل. ويقدِّم النتائج التي يخلص إليها على شكل قياس منطقيٍّ يمكن شرحه بتصرُّف كما يلي:

بالنسبة إلى المدرسة العقلانية:

·         الفرضية الرئيسية (ديكارت وآخرون - عقلانية عقائدية): ما هو كائن وحقيقيٌّ معروفٌ بشكل قبليٍّ a priori.

·         الفرضية الثانوية (كانط): ولكن في المعرفة القبلية ما نعرفه حقًا هو مجرَّد قوالب forms أفكارنا. أي إننا لا نعرف محتوى هذه الأفكار بل قوالبها المنطقية فقط (نعرف مثلاً أننا نمتلك مفهوم الكلَّانية، من دون أن نعرف ما هو الكلِّي).

·         الاستنتاج (هيغل): ما هو كائن وحقيقيٌّ بالفعل هو إذن هذه القوالب الفكرية أو المفاهيم فقط، أي إطار من دون لوحة يؤطِّرها (مثلاً: يوجد مفهوم منطقي اسمه المطلق يمكن استنتاجه بالضرورة من مفاهيم منطقية تسبقه، ولكن ليس المطلق في حد ذاته كحقيقة واقعة قابلة للتجسُّد التاريخيِّ في لحظة معينة، فالمطلق من دون محتوى فعليّ).

وبالمختصر فإنَّ سولوفيوف يحكم بأنَّ العقلانية لا تعطينا أي معرفة عن العالم الخارجي وعن حقيقة الموجودات بل مجرَّد معرفة مجرَّدة (أي غير حقيقية) لصيرورة مفاهيمها المنطقية، وهذا يعني غياب الذات والموضوع وبقاء عملية المعرفة في حد ذاتها، كصيرورة فقط من دون محتوى؛ فالموجود فقط هو المعرفة كفعل تفكير وليس الفكرة نفسها، لأنَّ الفكرة خاضعة للصيرورة الأبدية.

أما فيما يتعلَّق بالمدرسة التجريبية فيقدِّم سولوفيوف محاجَّة شبيهة:

·         الفرضية الرئيسية (بايكون): ما هو كائن وحقيقيٌّ نعرفه عن طريقة تجربتنا الفعلية أو اختبارنا للظواهر (بدايةً من الحواس الخمس).

·         الفرضية الثانوية (لوك وآخرون): ولكن تجربتنا الفعلية الحسِّية لا تقدِّم لنا إلا حالات وعينا المختلفة وليس معرفة موضوعية بالظاهرة في ذاتها، لأنَّ تجربتي كشخص هي في النهاية تجربتي الشخصية الخاصة بواسطة وعيي الخاصِّ وبواسطة طريقة اختباري للعالم، والتي قد لا يشاركني بها الآخرون في كافة تفاصيلها.

·         الاستنتاج (مِل): ما هو كائن وحقيقيٌّ هو إذن الحالات الاختبارية المختلفة للوعي الذي لدينا فقط، ومن غير الممكن الجزم بوجود ما يمكن تسميته بتجربة واحدة موحِّدة للعالم يمكن من خلالها تقديم معرفة موضوعية كاملة وأكيدة للظواهر.

ويخلص سولوفيوف إلى أنَّ "الميلين المتعارضين- العقلانيَّ والتجريبيَّ- يلتقيان في نقطة أساسية واحدة، وهي في الواقع أنَّ كليهما ينفي الكينونة الفعلية، أي كلا العارف والمعروف، ناقلاً الحقيقة بكاملها إلى فعل المعرفة نفسه."[4] ولهذا يطرح سولوفيوف رؤيته بضرورة ابتداء الفلسفة، ليس من الكينونة being كما يفعل هيغل، بل مما يمكن ترجمته بالموجود-حقًّا، الكائن-حقًا، أو الموجود، الكائن، كما يفضل بعض الدارسين الروس أن يروا المكافئ العربيَّ في الفلسفة العربية والإسلامية للمصطلح الروسيِّ sushchee.[5]

ويمكن تلخيص رؤية سولوفيوف للفارق بينه وبين هيغل فيما يتعلَّق بالمبدأ الأول للوجود وفيما يتعلَّق أيضًا بذروة التاريخ، في تلك المرحلة من فلسفته، بالشكلين أدناه:

"المبادئ الفلسفية للمعرفة المتكاملة":

قدَّم سولوفيوف محاولته الأولى لإصلاح مبادئ الفلسفة الغربية في رسالة حملت عنوان المبادئ الفلسفية للمعرفة المتكاملة (1877)، وكان سولوفيوف ينوي تقديمها كأطروحة لنيل شهادة الدكتوراه قبل أن يلغي قراره لسبب غامض (ولو أنَّه من الممكن التكهُّن به). في هذه الرسالة يطرح سولوفيوف ما يدعوه بـ "المعرفة المتكاملة" Tsel’noe znanie أو باسم آخر هو "الثيوصوفيا الحرة"، حيث يبدو باستعماله لهذا الاسم الأخير متأثرًا بالنزعة الثيوصوفية الروسية التي تبلورت مع مدام بلافاتسكي، رغم أنَّ رسالته هذه سبقت نشر بلافاتسكي لكتابها العقيدة السرية بحوالي أحد عشر عامًا. في هذا العمل يكرِّر المفكِّر الروسيُّ نقده للمدرستين الرئيسيتين للفلسفة الغربية، ولكنه يبدأ بمحاولة تقديم بعض المبادئ ونقاط الانطلاق البديلة، ومنها فكرة الموجود أو الكائن آنفة الذِّكر.

يعتبر سولوفيوف أنَّ أيَّة معرفة حقيقة يجب أن تقوم على الفلسفة والدين والعلم في آن واحد، ويقدِّم مخططًا على درجة من التعقيد لتصوُّره ذاك، والذي بقي من دون شرح موسَّع يمكن أن يمنح ذلك التصوُّر درجة كافية من الجدِّيَّة العملية. وفي الواقع فإنَّ سولوفيوف لم يرَ أبدًا الفلسفة والدين والعلم كثلاثة مجالات كاملة الانفصال عن بعضها البعض، بل اعتبر أنَّ هذه الثلاثة تشكِّل مجالاً واحدًا، ينال كلٌّ منها فيه أولويته بحسب المناسبة؛ فالفلسفة لها الأولوية حين تكون المبادئ الفكرية والعقلية هي موضوع البحث الآنيِّ، وينال الدين أولويته حين تكون علاقة الإنسان مع الاختبار الروحيِّ هي موضوع البحث، بينما يكون العلم قائدًا للرحلة حين يبحث الإنسان في العالم الطبيعيِّ. ولكن في كلِّ حالة من هذه الحالات يكون الشقيقان الآخران (أو الشقيقتان الأخريان) حاضرين أو حاضرتين في قلب المشهد. ولذلك يمكن اعتبار أنَّ كلاً منها يشكل كامل منظومة المعرفة المتكاملة أو الثيوصوفيا الحرَّة، طالما أنَّ الفروع الثلاثة حاضرة دائمًا بصحبة بعضها البعض.[6]

ولهذا وجد سولوفيوف أنَّ الممارسة المعرفية في عصره لا ترقى إلى مرتبة العلم الحقيقي بل هي مجرَّد أداة لخدمة أهداف آنية أو مستقبلية تتعلَّق بالصناعة والتجارة وتقديم بعض الخدمات المشابهة. وهذا ينطبق أيضًا على الدين والفلسفة والعلوم التطبيقية العملية في حال سلوكها بشكل حصريٍّ وأحاديِّ الجانب. يقول سولوفيوف في هذا السياق:

إذا أجاب أحدهم ردًّا على السؤال الأزليِّ "ما هي الحقيقة؟" بقوله إنَّ الحقيقة هي أنَّ مجموع زوايا المثلث تكافئ مجموع زاويتين قائمتين، أو إنَّ اتحاد الهيدروجين والأوكسجين يشكِّل الماء، إذا أجاب بهذه الطريقة أفلن تكون هذا نكتة سمجة؟ إنَّ السؤال النظريَّ بخصوص الحقيقة لا يتعلق ظاهريًا بالأشكال والعلاقات الخاصة بالظواهر، بل بالمعنى أو السبب الكونيِّ غير المشروط (اللوغوس) لكائن موجود، ولذلك فإنَّ العلوم المحدَّدة وأشكال الإدراك تمتلك معنى الحقيقة من خلال علاقتها بهذا اللوغوس وليس جوهريًا من ذاتها... أما في انفصالها فهي [أي هذه العلوم] إما مجرد تسلية لإرضاء الأذواق الشخصية أو عبارة عن وسائل مساعدة لإرضاء المتطلبات المادية للحياة اليومية المتمدِّنة بوصفها أحد أسلحة الصناعة... لا يمكن لعلمنا أن يكون مستقلاً تمامًا فهو يجب أن يخدم شيئًا ما حتمًا: إما الله أو المال[7].

وعندما يذكر سولوفيوف خدمة الله في هذا السياق فهو إنما يشير إلى ما يسمِّيه الشعور الفنِّي الأسمى الذي يتحقَّق عن طريق التأمُّل العقلي أو الاختبار المستيكيِّ للعالم الذي يتجاوز كلاً من الاختبار الحسِّي من جهة والتجريد الفلسفي من جهة أخرى.

ويصوِّر المخطَّط التالي المذكور سابقًا بشكل عابر كيفية تصوُّر المفكِّر الروسيِّ للتدرُّج المعرفيِّ المطلوب للتوجُّه نحو المعرفة المتكاملة:

 

نطاق الخلق أو الإبداع

نطاق المعرفة

نطاق النشاط العمليِّ

الأساس الذاتيّ

الشعور

التفكير

الإرادة

المبدأ الموضوعيّ

الجمال

الحقّ

الخير العام

المستوى الأول: المطلق

المستيكية

علم اللاهوت

المجتمع الروحانيّ

المستوى الثاني: الصّوري

الفنون الجميلة

الفلسفة التجريدية

المجتمع السياسيّ (الدولة)

المستوى الثالث: المادِّيّ

الفنون التطبيقية التقنية

العلم الوضعيّ

المجتمع الاقتصاديّ (تعاونيّ)

ورغم أنَّ سولوفيوف استمرَّ بإطلاق اسم الكنيسة على المجتمع الروحانيِّ ورأى في المجتمع الاقتصادي المثالي ما سُمِّي في عصره بالـ"ازْيِمْسْتفو" zemstvo، كما أنه فهم الدولة كنوع من الجسد الثيوقراطيِّ، إلا أنَّ ثيوقراطيته المسيحية كانت نوعًا من التصوُّر الرومانسيِّ الشامل للعالم بأسره أكثر من كونه صيغة عقائدية للاهوتيِّ أو رجل دين تقليديّ؛ ففلسفة المعرفة المتكاملة لديه تتجاوز التجريد والقوالب الجامدة وتقترب من الفنِّ والإدراك الجماليِّ للعالم، وهو في هذا السياق يقترب من مقولة دوستويفسكي عن خلاص العالم عن طريق الجمال (حيث يبدو هذا التقارب جليًا في خطابات أدلى بها المفكِّر الروسيُّ في ذكرى تأبين صديقه لاحقًا)، لأنّه "بما أنَّ العالم المثالي بكل حقيقيته لا يمكن التواصل معه إلا عن طريق الإدراك المطلق أو اللامتناهي فيجب على الفلسفة إذن أن تحدَّ نفسها ضمن مجال الأفكار المركزية الشهيرة وتترك المنطقة المحيطية المثاليَّة للفنِّ الذي يعيد إنتاجها بمختلف أجزائها."[8]

صوفيا: الحكمة الإلهية

في الفترة الفاصلة بين تقديم رسالة الماجستير ورسالة الدكتوراه فاجأ سولوفيوف محيطه الأكاديميَّ بطلب إذنٍ لكي يذهب في زيارة إلى المتحف البريطاني بدعوى دراسة بعض المخطوطات القديمة. وخلال وجوده هناك في عام 1875 يروي سولوفيوف أنَّه، وللمرة الثانية في حياته، واجه الظهور الذي سبق واختبره في إحدى كاتدرائيات موسكو حين لم يكن قد بلغ العاشرة من عمره بعد. في هذه المرة (الثانية) كانت الرسالة واضحة: "قم وامضِ إلى مصر!".

هذه الرؤيا الثانية كانت إذن مسبوقة بحادثة مشابهة في عام 1862، حين كان الصبيُّ سولوفيوف حاضرًا في الكنيسة في قدَّاس عيد الصعود في شهر أيار-مايو. ويصف الشَّاعر والمفكِّر الروسيُّ اختباره هذا "اللازورد كان محيطًا بي تمامًا؛ لقد كان في روحي." لقد كان لونًا لازورديًا مذهَّبًا وفي يد الأنثى الظاهرة زهرة من أراضٍ بعيدة، وهي تتبسم له ابتسامة مشعَّة قبل أن تومئ له برأسها وتختفي في السَّديم.

وبالفعل غادر سولوفيوف بريطانيا وذهب إلى مصر عبر فرنسا وإيطاليا، حيث تاه لبضعة أيام في الصحراء هناك. وبعد أن قبض عليه بعض البدو ظانِّين أنه عفريت أُطلِق سراحه ليمضي في الصحراء ويواجه أنثاه "الإلهية" للمرة الثالثة والأخيرة، بين عامي 1875 و1876:

اضطجعت هناك طويلاً في سبات رهيب
وفي النهاية سمعت همسًا لطيفًا: "نَم قريرًا يا صديقي المسكين"
وعندها غططتُ في نومٍ عميق
وعندما استيقظتُ
كان أريج الورد يتضوَّع خارجًا من الأرض والسماء
ومن الضياء السماويِّ الأرجوانيِّ،
"كنت تنظرين إليَّ بعينين تتأجَّجان بنار لازوردية" (عبارة اقتبسها الشاعر من لِرمونتوف)
كإشعاعِ يومِ الخلق الأوَّل للكون
كنتُ أمام الكائن والذي كان والذي سيكون
محضونًا بتلك النظرة المتفرِّسة...
والبحار والأنهار تحتي تنحو كلّها نحو الزُّرقة
ومعها الغابة البعيدة وأعالي الجبال المكلَّلة بالثلج
رأيتُ كل الأشياء، وكانت كلّها واحدًا
صورة واحدة فقط للجمال الأنثويِّ...
وكان اللامتناهي بكلِّ اتساعه يتسرَّب إلى المشهد
أنتِ وحدك فقط كنتِ أمامي وفيَّ
[9].

هذه اللقاءات الثلاثة التي اختبرها سولوفيوف مع تلك الرؤيا الغامضة التي ملأته غبطةً ونعيمًا، والتي عبَّر عنها لاحقًا في قصيدته اللقاءات الثلاثة Tri svidania، ومنها المقطع أعلاه، كانت ذات أثر عظيمٍ وحاسم في حياة المفكِّر الروسيِّ وأفكاره وتعاليمه. ويؤكِّد موتشولسكي، أحد مؤرِّخي سيرته، محقًا، أنَّ فلسفة سولوفيوف لم تكن ذات ركيزة عقلانية من حيث المبدأ بل كانت مدفوعة بشغف عميق واختبار حدسيٍّ أوَّليٍّ خارج أيِّ تبرير عقليٍّ ممكن.[10]

ومن خلال فلسفته حاول سولوفيوف أن يوجد موضعًا منطقيًا ومعقولاً لفكرته عن صوفيا أو الحكمة الإلهية ذات الوجه الأنثويِّ، لذلك فقد اعتبر أنَّ هذه الأنثى الإلهية الظاهرة ليست سوى تجسّدٍ للوحدة الكلية لجميع الموجودات في الكون. وبكلمات أخرى، صوفيا أو الحكمة الإلهية هي كلّانية الله أو كلُّ ما يحتوي عليه (vsё). يحاجج سولوفيوف في محاضرته السادسة عن الإنسانية الإلهية التي ألقاها في جامعة سان بطرسبرغ مستخدمًا افتراضًا يجزم من خلاله بأنَّه لا يمكن لأيِّ شيء أن يتواجد خارج الله لأنَّه "إذا لم يكن الجوهر الإلهي هو الكلُّ في الواحد، ولم يحتوِ على الكلِّ، فعندها يمكن لموجود ما من الموجودات أن يكون خارج الله؛ وفي هذ الحالة سيكون الله محدودًا بهذه الكينونة... ولن يكون مطلقًا، أي لن يكون هو الله." (ص 130) فكل شيء إذن يجب أن يتواجد في الله لكي يكون موجودًا (يمكن أن نتذكر هنا مبدأ وحدة الوجود عند ابن عربي، وهو مبدأ يختلف عن الحلولية، رغم أنَّ الخلط بينهما شائع).

لا يخلط سولوفيوف بين الله والموجودات فيه؛ فالله هو الكائن-حقًا istinno-sushchee، الذي هو فاعل الوجود. وهو هنا ينقض فكرة هيغل التي تبدأ من "الكينونة" being، كما ذكرنا أعلاه، قائلاً إنَّ الكينونة تحتاج إلى كائنٍ يكونها كما أن وجود الشعور يحتاج إلى فاعل يشعر، وإلا بقيت هذه مجرَّد مفاهيم مجرَّدة فارغة من المضمون. وسولوفيوف يعتبر أنَّ مقتل الفلسفة الأكاديمية الغربية يكمن في شخصنتها للمفاهيم المنطقية وإحلالها محلَّ الفاعل بدل إسنادها إلى ذلك الفاعل، وهكذا أصبحت برأيه الفلسفة الأكاديمية تتحدث عن "تفكير" و"شعور" و"إرادة" بدل أن تتحدث أولاً عن فاعل يفكِّر ويشعر ويريد (Philosophical Principles, 97).

إذن هذه الموجودات بكلّانيتها تشكّل جوهر الله، من دون النظر إلى عناصرها بشكل منفرد كلٍّ على حدة. هكذا رأى سولوفيوف في الله "منظومة حيَّة" واعتبر الوجود بكلّانيته وحدة متجانسة تتقدَّم، أي تتطوَّر، عبر التاريخ. هذه الوحدة المتجانسة الموجودة جوهريًا ومثاليًا وغير المتحقِّقة بعد على الصعيد الواقعي الملموس هي صوفيا: الحكمة الإلهية. تكون صوفيا حينئذٍ هي التناغم الذي يجمع الكثرة، والوحدة التي تجمع المنظومة سرمديًا كجوهر واحد هو الجوهر الإلهي أو الفكرة الإلهية. وصوفيا هي هذه الوحدة الجوهرية المثالية المتحقِّقة كفكرة، وهي في نفس الوقت وحدة الكلِّ vseedinstvo التي تنتظر تحققها الملموس في التاريخ وعبره. هنا إذن يظهر البارادوكس الذي يميِّز غالبية منظومات الفكر المستيكيِّ والتصوفِّي، حيث يكون الشيء حاضرًا بمعنى ما وغائبًا بمعنى آخر، ويكون الله هو كل شيء من منظور معيَّن ولا-شيء من منظور آخر.

ويعبِّر سولوفيوف عن اعتقاده بالحكمة المقدسة بعدة طرق، فتارة بطريقة فلسفية منطقية أو شبه منطقية، وطورًا بمفردات شعريَّة غنيَّة، فيقول مثلاً إنَّ صوفيا هي "جسد الله" telo bozhie ومادَّة الألوهة materia bozhestvo، بمعنى أنَّ هذه الموجودات المنظورة والملموسة بكلّانيتها المتناغمة الأعضاء والعناصر تشكِّل الجانب المرئيَّ والمحسوس للمنظومة الإلهية الحيَّة التي تتقدَّم عبر التاريخ، ابتداءً من حالتها البرعميَّة الأوَّليَّة وصولاً إلى شجرة التاريخ الكامل والمنتهي.

من اليسار إلى اليمين، الفلاسفة فلاديمير سولوفيوف، الأمير سيرغي تروبتسكوي، نيكولاي غروت، وليف لوباتين.

(الصورة مأخوذة عن الرابط https://antimodern.ru/soloviev-vladimir/)

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] Joseph Frank, Dostoevski: A Writer in His Time, 770.

[2] Jonathan Sutton, The Religious Philosophy of Vladimir Solovyov: Towards a Reassessment, 21.

[3] Nikolai Berdyaev, The Brightest Lights of the Silver Age: Essays on Russian Religious Thinkers, trans. Boris Jakim, 77.

[4] The Crisis of Western Philosophy. Kindle Edition, 132.

[5] انظر مثلاً هذا الرابط: http://ponjatija.ru/node/11155

[6] انظر The Philosophical Principles of Integral Knowledge, translated by Valeria Z. Nollan, 110.

[7] نفس المرجع السابق، 109- 110، مع التحقق من النصِّ الروسيِّ.

[8] نفس المرجع السابق، 85.

[9] الترجمة عن النص الروسيِّ الأصلي وعن النص المترجم إلى الإنكليزية من قبل بوريس ياكيم في
Sophia, God, and A Short Tale about the AntiChrist (Semantron Press, 2014)

[10] K. Motjulskij, Vladimir Solovjov: Liv och Lära, trans. (to Swedish) Gabriella Oxenstierna (med dikterna översätta av Annika Bäckström (Artos, 1997, 137- 41.

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود