|
افتتاحيات
الهادئ
تدفق الأنهر الآن, فلتنظروا ما سيأتي إذن! [..] الرياح تهبُّ ها هي، انظروا ما سيأتي إذن! [...] البرج قد يسقط البرج قد يرتفع ما سيأتي إذن! تلك كانت بعض المقاطع
الختامية من مسرحية افتتاحيات الهادئ
التي سنبحر فيها بهدوء، بعد عَرْضٍ، مسهب
نوعًا ما، لمقدمة المسرحية بقلم مترجمها د.
عبد الوهاب المسيري. كُتِبَت المسرحية
على شكل مسرحية غنائية (وهو نوع أدبي مسرحي
غربي)؛ إلا أن المؤلِّفَيْن، ستيفن سوندهايم
وجون ويدمان، استخدما الأشكال المسرحية
والشعرية والفنية اليابانية في كتابتها.
ولتذوُّق المسرحية لا بدَّ من معرفة مبدئية
ببعض الأنواع الأدبية اليابانية، المرتبطة
وثيقًا بالتراث الياباني، التي حاول
المؤلِّفان أن يقوما بمحاكاتها. تُعتبَر الجماليات
اليابانية – إذا جاز لنا التعميم – جماليات
الحدِّ الأدنى. ولعل أصدق مثال عليها ما
يسمى بقصائد الهايكو التي يحاول فيها
الشاعر أن يقدِّم رؤيته من خلال التركيز على
عنصر مرئي، يأخذه من الواقع ويعيد ترتيبه، ثم
يقدِّمه للقارئ دون الإخلال بجمال سطحه
وروعته، ودون التقليل من ثرائه الملوَّن
وحيويته النابضة. وهذا لا يستبعد التأمل
الفلسفي الذي، وإن بقي لصيقًا بالسطح أو
تجاوَزَه قليلاً، لكنه لا يلغيه البتة. يُعتبَر المصدر
الديني والفكري لهذه الجماليات الفريدة هو
بوذية زِنْ التي تؤكد الإيمان بأن ثمة هدوءًا
وصفاءً لانهائيين كامنين خلف الظواهر
الإنسانية المختلفة، التي اتخذت من الطبيعة
رمزًا لعالم متغيِّر يمور بالأحداث التي يكمن
ورائها الثبات والصفاء. ولقد جسَّدت بنية
المجتمع الياباني، في عصوره الكلاسية
والإقطاعية، وخاصة في عصر حكم الشوغُنات من
آل توكوغاوا (1600-1868)، بشكل كامل هذا
الديالكتيك بين التوتر والصفاء. فهو مجتمع
كان مقسمًا بصرامة بين الطبقات المختلفة، من
أرستقراطية إقطاعية، تساندها طبقة المحاربين
الساموراي، من جهة، وبين التجار والفلاحين،
من جهة أخرى. ولعل طبقة الساموراي ذاتها تعبير
عن النظام والتوتر وعن الصفاء والعنف (نستطيع
أن نلحظ الانسجام بين فكرتي التوتر والصفاء
بشكل أوضح وأثرى في القصيدة الغنائية الأولى
التي سأورد مقاطع طويلة منها). والمسرح الياباني هو
تعبير عن بنية المجتمع الياباني وعن جمالياته.
وثمة اتفاق على أنه توجد في اليابان ثلاثة
أشكال مسرحية أساسية، هي: النوه Noh
والكيوجِن Kyogen
والكابوكي Kabuki.
ومسرحيتنا استخدمت أشكال وفلسفة النوع
الثالث (الكابوكي). وكلمة كابوكي نفسها
تعطينا مفتاحًا لفهم هذا المسرح: فـكا
تعني أغنية، وبو تعني رقص، وكي تعني
مهارة، ليصبح معنى الكلمة "المهارة في
الرقص والغناء". تختلف جماليات
الكابوكي عن جماليات المسرح الغربي بعامة.
ولعل من أهم سماته أنه لا يعتمد على عنصر
الإيهام؛ فهو مسرح تتداخل فيه الحقيقة مع
الوهم. وللوصول إلى هذه الحدود المبهمة التي
تلتحم فيها الحقيقة بالوهم يلجأ كُتَّاب
الكابوكي إلى عدة أساليب وأشكال وحِيَل
مسرحية: أولها استخدام الرقص كعنصر تعبيري
أساسي، وليس كمجرد زخرفة أو إضافة؛ والعرائس
تلعب دورًا كبيرًا، ويحملها أشخاص يرتدون
السواد، رمزًا إلى أنه لا يمكن رؤيتهم؛ كما أن
الأداء التمثيلي ذاته يؤكد عالمي الحقيقة
والوهم: فهو قد يبدأ واقعيًّا، ثم تزداد
العواطف تأججًا ليصبح ميلودراميًّا، ثم
يتحول إلى أغنية. ويُعتبَر أسلوب التمثيل
المسرحي مِيِهْ Mie
خير مثال على جماليات الكابوكي؛ وهو يعني أن
يتوقف الممثل في حركة مبالغ فيها، ويجمد في
مكانه، وتحولُّ عيناه، ثم يأخذ الراوي المنشد
في التعليق على ما قال. أما الأرضية
التاريخية للمسرحية فهي أنه بعد عشرات السنين
من الصراعات العسكرية بين الأسر الإقطاعية
قام القائد العسكري الشوغُن توكوغاوا في
العام 1600 بفرض سيطرته على اليابان كلِّها،
باستثناء بعض المقاطعات النائية، ووحَّدها
باسم الإمبراطور (الذي كان مجرد ألعوبة في يده)،
وفرض حكمًا عسكريًّا قاسيًا، وعَزَلَها عن
العالم الخارجي تمامًا، وجعل من الاحتكاك
بالأجانب جريمة. وقد استمر هذا الحكم زهاء
مائتي عام، عاشت اليابان إبانها عزلة شبه
كاملة، ساعدها في ذلك موقعها الجغرافي، مما
جعلها خارج الشبكة الإمبريالية التي كان
العالم الغربي قد بدأ بنسجها منذ أوائل القرن
السادس عشر. ومع ذلك فقد نالها
رذاذ منه بوصول الكومودور بيري، القائد
البحري الأمريكي، في العام 1853، ليفرض على
اليابان فتح أبوابها للتجارة الخارجية. وقد
نجم عن استسلام نظام الشوغُن لهذا الغزو
الغربي تمرُّد نبلاء الجنوب وإعادتهم السلطة
للإمبراطور، فيما سُمِّيَ استعادة المِيْجي
1868. ومنذ ذلك بدأ عصر المِيْجي الذي شهد
انحلال البنية الاجتماعية الإقطاعية وعودة
الإمبراطور إلى ممارسة سلطته. وقد صاحب هذا
التحوُّل دخولُ الأشكال الحضارية الغربية
إلى اليابان. وفي تصوُّر المترجم أن "الموضوعة
الأساسية في المسرحية ليست ثمرة التقدُّم،
ولكنها الثمن الذي دفعته اليابان للوصول إلى
ما وصلت إليه". وسنترك المقدمة الآن
وما بقي منها من تعليق على المسرحية، لنبحر
معًا بدءًا من القصيدة الأولى الأجمل، حيث: في منتصف العالم
نطفو، في منتصف البحر. تستعصي كلُّ حقائقنا,
تنأى في منتصف البحر في بعض الأنحاء، تحرق رايات لملوك في أنحاء أخرى. العجلات تدور, تندفع قطارات تسعى،
تلتهم القضبان, وحروب تغنم, تتخلق أشياء، تُصنَع, في بعض الأنحاء هناك بعيدًا ليس هنا ... ... ... ... ... ليس هنا. فهنا يمضي الإعصار
كما جاء في منتصف البحر، وأمانينا تبقى في منتصف البحر... ... ... ... ليس هنا. فأمانينا تبقى قابعة في منتصف البحر، وقرون تأتي وتروح في منتصف البحر، أيام وسنون تدول وخطوط تُرسَم وتزول، وحياة الإنسان وموته بيت في نول قصيدتنا فاقدة الروح. وهناك, يتدفق دم. من يدري؟ نحن هنا نرسم فوق سواتِرِنا بعض مناظر. [يدخل الهارب –
مانجيرو – في قفص. صياد صغير تاه مركبُه إلى
تلك البلاد, أمريكا, عائد والنبأ على شفتيه لا
يُصدَّق، النبأ المتحرك في البلدة.] اللص:
في أوراغا كنتُ أنهب منزل بعض الكهنة بعد الفجر. كانوا غاطِّين
بالنوم. لممتُ رياشهم جميعًا وبدأتُ البحث عن
الذهب، فسمعتُ دبيب استيقاظ. تسللتُ من الباب
المفضي للبحر. الصياد:
جاءت ومن هناك. اللص:
جاءت ومن هناك. الصياد:
تشق في الضباب طريقها. اللص:
تنفث من خلاله دخانها أربعة تنانين سود تنفث في الجو النيران سكان البلدة:
الشمس انكشفت واهتاج اليمُّ ومادت بالأشياء
الأرضُ وانشقت في الأفق سماء فظننت العالم ينهار. [في بقعة أخرى من
المسرح كاياما الساموراي وزوجته عادا بغنيمة:
سمكة الحظ السعيد الآيو مسروقةً من نهر
الشوغُن. تم تعيينه دارئ الخطر العظيم, حامل
المرسوم المقدس – لا يطأ الأرض المقدسة غريب
– إلى السفن الغريبة. ولكن هل يفقه الحديدُ
طعمَ البراري؟ هل تغيِّر زهرة الأقحوان
تفرُّدها وشكل وجهها البريء؟ حلول كأنها
البراءة لصدِّ عتي المدافع.] مستشار الشوغُن
الأول:
إن المرسوم المقدس دقيق، إذ يمنع أيَّ أجنبي
أن يطأ بقدمه ترابنا. كاياما:
وهذا هو السبب الذي جعلني أقترح كاناغاوا. إن
المرفأ هناك صغير للغاية ويمكن أن نغطي كلَّ
الرمل بالحصير, حصير تاتامي، ونبني منزلاً
خاصًّا للاتفاق وعقد المعاهدات [...]. وبعد أن
يرضى الغربيون ويرحلوا ندمِّر المنزل ونحرق
الحصير. وبهذا، يا مولاي، لا نكون قد خُنَّا
شرفنا. إن الأمريكيين سيأتون ويذهبون دون أن
تطأ أقدامهم ترابنا المقدس [...]. لقد أمرت بإحضار
ستائر من القنب غطَّينا بها الجرف عند
كاناغاوا. ووراء الستائر تمكَّنتُ من إخفاء
خمسة آلاف من حَمَلة السيوف؛ وهم يحملون
الأقواس الهائلة وكلُّهم يمتطون ظهور الجياد.
قوة هائلة [...]. ولكن الأمريكيين حين رأوا
ستائرنا صاحوا من سفنهم: "أزيحوا هذه
الستائر! أيُّ جيش هذا الذي يختبئ خلف ستارة!"
ثم انفجروا ضاحكين. هوِّنوا الكارثة. من يكون الأقوى؟ من يكون الأسرع؟ هاه أستاذكم. اجعلوه يرى ما سيأتي إذن! ما سيأتي إذن! [البداية من هنا، من
منزل صغير يخبِّئ محاربًا تحت ألواح أرضيته.
هذا المحارب الذي صار الأذن التي سمعت. أما
العين فقد كانت عجوزًا تسلَّق شجرة في صباه،
قبل أن يهرم وقبل أن تختفي الأشجار.] [عجوز وغلام يرويان
حدثًا مضى، شَهِدَهُ واحدٌ كان غلامًا وصار
عجوزًا.] كلاهما:
إنه موجة ليس بحرًا. قد يكون أساس البناء
ليس مبنى وليس حديقة، بل حجرٌ. ليس منزلاً تُعقَد
فيه معاهدة، إنما واحد فوق شجرة. المحارب:
أستطيع أن أسمع هؤلاء الناس. أنا جزء من ذاك اليوم. إذا لم أكن هاهنا فمن ذا الذي قد يقول إن شيئًا سيحدث بنفس
الطريقة؟ [تعود
دمية الإمبراطور خالعة ثوبها، متحوِّلة إلى
آدمي يرتدي ثيابًا عصرية.] الإمبراطور:
باسم التقدم سوف نُدير ظهورنا للطرق البالية,
ونستأصل كلَّ العقبات التي تعوق تطورنا [...].
وعندما يحين الوقت [...] سوف نفعل ببقية آسيا ما
فعلته أمريكا بنا! الكورس:
تدفُّق الأنهر الآن, فلتنظروا ما سيأتي إذن! الإمبراطور:
سوف نبني السكك الحديدية والمسابك
والتلغرافات والسفن البخارية. الكورس:
الرياح تهب ها هي, انظروا ما سيأتي إذن! الإمبراطور:
ستظهر المصانع في أراضينا. الكورس:
الطريق التَوَتْ فاتبعوها إذن القليل، القليل من
المعرفة ما سيأتي إذن! الإمبراطور:
سوف يأتي اليوم الذي تضطر فيه الدول الغربية
إلى الاعتراف بنا أندادًا لهم. الجميع:
البرج قد يسقط البرج قد يرتفع ما سيأتي إذن! الإمبراطور:
وسوف يتحقق كلُّ هذا... بأسرع مما تظنون. الجميع:
البرج قد يتحطم فلتعيدوا النظر المحرك دار والحضارة نور يا لها من أمور ما سيأتي إذن! فلتعوا درسكم هاه أستاذكم اصنعوا أفضلا... اصنعوا أسرعا... ما سيأتي إذن! في البداية رعد همهمات فقط خطأ يُغتفَر ما سيأتي إذن! ثم أعجوبة... فهل الأعجوبة هي ما
صارت إليه الحال في ذلك البلد الهادئ بعد أن
رأينا وعرفنا، وبعد أن أصبح المستقبل ماضيًا؛
أم أنها تكملة للجملة الأكثر تكرارًا – "ما
سيأتي إذن" – التي شكَّلتْ عنصرًا حيويًّا
هامًا في المسرحية ككل؟ لقد اهتممتُ بتقديم
قراءة لهذه المسرحية بالذات لسببين: الأول
حاضر في المقدمة التي تعطي فكرة عن الأشكال
المسرحية اليابانية وارتباطها الوثيق
بالبنية الثقافية والحضارية المميزة لمجتمع
اليابان؛ والثاني متعلق بآثار الاكتساح
الاستهلاكي الكبير الحاضر حضورًا متزايدًا
في عالمنا الحالي والمؤدي إلى و/أو الناتج عن
الابتعاد عن الطبيعة الإنسانية الحقة التي
برزت في بداية المسرحية من خلال اللغة
الشعرية الدافئة وما ترمز إليه من تواصل مع
مظاهر الطبيعة – هذه اللغة التي تحولت مع
نهاية الفصل الأول، برقصة وحشية للربَّان
بيري – ربان السفن الأمريكية، وهو على هيئة
أسد – إلى لغة أرقام ومصالح، كان التعبير
الأكثر وضوحًا عنها في المنظر الثاني من
الفصل الثاني، حيث نجد الدول العظمى، ممثَّلة
بأميرالاتها، تسعى للحصول – كلٌّ بمفرده –
على أكبر قدر ممكن من الامتيازات التي يمكن أن
تؤخذ من هذا البلد البكر. من الصعب الإحاطة
بالمسرحية بشكل وافٍ؛ فهي، كما أشرت في
المقدمة، تنتمي إلى نوع مسرح الكابوكي المليء
بالرموز والإشارات. ولكن بشكل عام نستطيع أن
نلحظ بوضوح الشجب المستمر المبطَّن للشكل
الحضاري الذي تقدِّمه أمريكا؛ وفي نفس الوقت،
نلحظ أيضًا السلبية التي قُدِّمَتْ بها
الحضارة اليابانية كحضارة ضعف واستلاب – هذه
السلبية التي يمكن تبريرها تاريخيًّا، كون
المجتمع الياباني كان مرهقًا بالتقسيم
الطبقي ومستندًا إلى القسوة والعنف في توازنه
المفترض. وإنْ كانت القصيدة
الافتتاحية قد قدمت لنا حالة من الانسجام بين
الصفاء والعنف فإن المسرحية لاحقًا بيَّنتْ
وهمية هذه الحالة نتيجة استلابها السريع أمام
المدفع الأمريكي، الذي يمكن اعتباره دخيلاً
خارجيًّا كان من الممكن مواجهته واحتواؤه
بطرق أخرى أكثر تماسكًا وتعبيرًا عن قوة
الطبيعة المعبَّر عنها من خلال الفرد. يبقى
أن أشير إلى أن مؤلِّفا المسرحية هما ستيفن
سوندهايم (مؤلف موسيقي وشاعر غنائي من مواليد
نيويورك 1930) وجون ويدمان ( نيويورك 1946) الذي
تُعَدُّ مسرحية افتتاحيات الهادئ بمثابة
عمله الأول. ***
*** ***
|
|
|