البراغي

 

عزيز التميمي*

 

مجموعة من الرؤوس والقامات، المبعثرة هنا وهناك، هي آخر صورة استعرضتْها مخيِّلتي. كانت تمثِّل مشهدًا لحشد متداخل من أجساد النخيل والجنود. وفي لحظة وقوفي أمام الطاولة الفولاذية التي احتوتْ مئات الكتل الحديدية الصدئة أحسستُ بهاجسٍ يذكِّرني بتكوينات وملامح وجه أكاد أجزم بعدم نسيانه طوال أيام عمري المتبقية، في وقت أسمع أصواتًا تعلو تارة وتنخفض تارة أخرى. هو دائمًا يدور في مكانه، فيحرث الأرض أسفل قدميه. وحينما يتسلَّل ذلك الوجه بهدوئه المعروف، يشتدُّ في أعماقي ذلك الهاجس، فيثير فيَّ قلقًا مثل استفزاز، أو ربما مثل مسامير صدئة تحاول أن تمارس سطوة بائسة في خدوش ذاكرة متعبة، ومن فوق رؤوس أخرى تحاول أن تشدَّ قاماتٍ تَبَسْتَرَتْ قواها إلى كسل موضعيٍّ تكوَّم فوق كراسٍ هي الأخرى خارت قواها، فما عادت قوائمُها تميِّز هاماتِها.

حاولتُ أن ألتفت إلى الحفرة المجاورة لأرى كم بقي من الجنود على قيد الحياة، فلمحت جذع نخلة ضخمة سقط فوق مجنزرة عسكرية ابتلع نصفَها الوحل. بغتة، شعرت أنَّ ثمة عينين حادتين تمارسان سطوة خفية في الاكتشاف؛ سطوة مدفوعة برغبة عميقة في تعرية الأشياء، كلِّ الأشياء التي زُجَّتْ في هذا المكان. تساءلت عن هذه الرغبة التي تمتزج مع توق شديد إلى المشاكسة. حاولت أن أتناسى نظرات ذلك المتحذلق الذي ظلَّ طوال الوقت يسخر من معاناتي في اكتشاف مساوئه. قلت في نفسي: "ربما يتحدَّاني." عدت ورفضت فرضيتي بعدما توصَّلت لتعليل أكثر منطقية من وجهة نظري (ووجهة نظر أحد الأشياء القريبة مني الذي شاركني معاناتي تلك)؛ تعليل مفاده أن هذا الكامن في زاوية من عمر هذا المكان ربما تجاوز إشكالية التحدِّي التي ظلَّت تؤرقني لسنين خَلَتْ. سنين وأنا أتحدى شيئًا ما حولي، قريبًا مني، في داخلي؛ وكلما أقنعت نفسي أني خارج مدارات هذه الإشكالية، أجدُني أدور في فلك أخرى أكثر تجذرًا وتنوعًا في مسالك التحدي والمشاكسة، فأبتسم وأنا أتأمل قامة المسمار الطويلة التي نالت إعجاب صبية لم تُخْفِ شغفَها يومًا في امتلاك رغبة بطول تلك القامة.

كنت أراه من أسفل هذا السقف الذي حدَّد خطوط نظراتي؛ أراه يتلصَّص عليَّ بعينين جاحظتين ورغبة بوليسية في إرغام هواجسي على الاستسلام لرغبته والإذعان لمشيئته. أتوقَّعه ذلك القنَّاص القميء الذي حاول أن يصطادني ذات ليلة، فأمتلئ بؤسًا أترجمُه نظرةً حائرةً أدور بها خُلسةً بين الوجوه، وربما زفرةً حارَّةً أطرد بها صدأ روحي بعيدًا ليمتزج بذرات الأثير. أشعر أنه ينتشي بلذة انتصاره حين يشرب فيض لعابه الوفير في جوف فمه، ويلوك بلسانه زهوًا تنامى على بحيرات مرارتي، فتبدو شفتاه مثل حافات دقيقة أتوسل النظرَ أن يكتشف في أديمها حفرةً – ولو بحجم رأس الدبوس – كي أرميها مع قطع السكراب قرب قدميَّ. حتى هذا الحلم الذي تُجيزُه قوانينُ اللعبة في هذا المكان يبدو بعيد المنال. فكلُّ الأشياء أحسُّ بها تسقط مثل قامات النخيل في بستان جارنا.

في لحظة أحسُّ برأسه يدور، كأنه مشحون بقوى وحدوس كونية في أمكنة لا تبتعد عن مكامن إثارتي؛ كأنه يرسم بؤسًا وهميًّا يستدرجني إليه، فتتحرك أصابعي في كلِّ الاتجاهات، ترسم إحداثياتٍ ومنحنياتٍ ودوائرَ تضيق شيئًا فشيئًا حول عنقه وفروة رأسه، وشعورُ الرضا يلامس شواطئ روحي، حتى أدعو كلَّ منبِّهات الفرح: بوادر ابتسامة، ارتخاء عضلة، انطفاء حنق، دمًا يجري بهدوء، ولاءة لا تكتمل حين أُفاجَأ بأحد البراغي يبرهن على بطلان محاولتي: أن لا جنود على قيد الحياة في الحفرة المجاورة. حينئذٍ أسمع ضحكة هازئة؛ ضحكة تأتي مثل صفعة باردة، تُمطِرُني بكلِّ الشتائم التي تجعل من منحنيات وجهي أنهارًا مليئة بالرماد. ألتفت، أدور برأسي، أفتش عن رغبة أخرى تكمل علامات البؤس فوق محيَّاي. لا شيء. مثل القنابل التي تقتل العشب. ولحظة أدور برأسي أجد كلَّ الرؤوس تعيش حالة مساوَمة لا تنتهي مع عالم أخرس مسكون بالعيون والحدقات.

هنا، لا، هناك، تمتد أصابعي مثل مجسَّات أخطبوط يتوقع جسد فريسته؛ تمتد زاحفة ببطء تتحسَّس النتوءات والحفر، وربما كلَّ الخرائب التي لم تزل تؤثِّث ذاكرتي، لأفاجَأ برأس دائريٍّ يتوقع حركة أصابعي. يبدو هكذا، رأسًا مدوَّرًا، مثل طبق معدني قديم كانت جدتي تستعمله في تنشيف معجون الطماطة؛ وربما مثل لغم تستَّر بالتراب، ينتظر زلَّة قدم مجهولة.

في اليوم التالي، بدا مستديرًا وأكثر قبحًا إثر تشتُّت خُييطات الضوء فوق مساحته. حاولت أن أخمِّن كم مرَّة حدث ورأيته في محطة القطار يلتصق بإحدى الدعامات، يتلصَّص بعينين رماديتين في أقفية المسافرين. كلُّ تساؤلاتي تبخَّرتْ حينما تأكدتُ أن هذا الرأس يلتصق كلَّ الوقت بحافة الطاولة التي أتكئ عليها. فيما بعد، لمحتُه يتناسل فوق الطاولات المحيطة بي.

قررتُ عدم مجاراة تلك اللعبة الخبيثة، والانشغال بالقطع المعدنية التي شكَّلتْ تلاًّ قبالة وجهي. بَدَتْ نظراتي تطارد هاجسًا قيل لي إنه في جسد أحد البراغي المعدنية. وكلما حاولتُ رفع رأسي أسمع صوته يوبخني إنه ليس من حقي خيانة عامل الزمن الذي صرت ضمن دواليبه.

كان دائمًا يطردني من الخيمة تحت موجات الغضب البشري، لأمضي ليلتي متوسِّدًا صورة جنازتي ورشقات المدفع الرشاش وراء الساتر الترابي غير البعيد؛ فتموت المحاولة وسط ضجيج يغمر الطاولة، اكتشفت أنه ضجيج الأفكار المذبوحة التي جاءت بها الرافعةُ معبَّأةً بحاوية فولاذية، لتطرحها ضمن أكوام البراغي هنا وهناك؛ ومع كلِّ لحظة، تخنق نفسها وتهرب. كانت هناك محاولة لفكرة مكبَّلة للانفلات. فالرؤوس حول الطاولات تطحن صخور أفكارها، لتطلقها فتاتًا أشبه بالهذيانات، وربما صرخاتٍ مشلولةً لا تتجاوز قناة أوستاكيوس في الأذن الوسطى.

رأيت المشهد كلَّه حينما زحفت الدبَّابة فوق خمسين جثة قبل أن تُعِدَّ المقبرة الجماعية، وشعرت أن القسرية تأكل طبيعة الأشياء. فما عادت النظرات تشكِّل ترويحًا عن ضغط اللحظات التي تغمر المكان بصمتها وهسيسها. حركة الرؤوس بَدَتْ مرصودة بأعين خفية تسجِّل الإيماءات، كمخالفات غير مشروعة يدينها عرف المفاهيم؛ وربما اعتُبِرَتْ تجاوزاتٍ تبتعد عن دروب المنطق والعقلانية. حاولت رفع رأسي – هذا الغارق حتى التشتت في تأويل ما يحدث؛ حاولت رفع نظري لأرى ماهية الأشياء، بعدما اعتقدتُ أن هذه الوساوس والأصوات المتداخلة ربما هي من نسج مخيلتي الشرقية التي وصفتُها بكلِّ معاني التعسف والعدوانية. "هل تغيَّر شيء؟!" سألت نفسي، دون أن توقُّع إجابة جاهزة. فصوت أحدهم لامس طبلة أذني: "اخفض بصرك، فالوقت من ذهب." وقبلها قلت لنفسي: "في هذا المكان يجب أن يكون السكوت من ذهب."

مَن يدري مَن يتكلَّم؟ البراغي المتعددة الرؤوس والأعين التي لا تستسلم لِلَحظاتِ المهادنة؟ أم الرؤوس الآدمية التي استحالت إلى براغٍ برؤوس مدببة، وربما بعيون أكثر شراهة من وقاحة الآلة في تجسيم السلوك الإنساني إلى أجزاء أشبه بقطع الحديد التي تنتجها الآلة الضخمة، ثم تحيل هذه الأجزاء الإنسانية إلى مجرد أجزاء آلية تتحرك فقط لأجل أن تكتسب سلوك الآلة؟ بدأت الأفكار تضرب في رأسي مثل دواليب تلك الماكينة الضخمة في زاوية المكان. حركة أصابعي تستحيل ارتجافات، ومن حولي آلاف المسامير والبراغي تسخر من هذياناتي وملامح الضجر المتكاثفة فوق محيَّاي.

تدوير آخر لصورة المشهد: رجل يقف وسط أكوام الهياكل، يفكر بلحظة بدء البكاء. وقبل أن أقرِّر رفع رأسي لكسر كابوس الصمت المهيمن على روحي، ينتابُني إحساسٌ بوجود شخص قريب مني. رائحة جسده تشبَّثتْ بسحب الأثير من حولي. لم أكن متأكدًا من وجوده، حتى هَمَسَ بصوت خفيض استطعت أن ألتقط بعض مويجاته. كان الصوت أشبه بالنصيحة الودية: "لا ترفع رأسك!" قلت في نفسي: "لا بدَّ أن القنَّاص اتَّخذ قراره بقتلي هذه المرَّة." "لا ترفع رأسك، لأن لحظة واحدة تكلِّفنا الكثير من الدولارات." سمعتها تأتي بنبرة حنون، وربما مستجدية الصمتَ من الرأس المنصوب على جسد آلي بجانبي. لم يعلِّق بصوت مسموع، بل أحسست به يهتز، ففهمت أنه أحد طقوس الولاء والطاعة لربِّ العمل وربِّ الأجر. لكنني عدت وسمعتها في وقت آخر. كان يصرخ في وجهي حينما أبلغوه بأنه سيموت غدًا. خيِّل إليَّ أنني أسمع صوتًا يشبه ذلك الصوت؛ صوتًا متغطرسًا يؤنب تارة، ويتوعد تارة أخرى، كلَّ مَن يرفع رأسه؛ فالباب المؤدية إلى دروب الضياع تنتظره. كلُّ من يُطلِق كلمة عرجاء واحدة ليتوقع أن يترك كرسيه لبائس آخر أمضى ساعات طويلة يضع ثقل جسده المترهِّل فوق ساقين موشومتين بمئات الدبابيس التي خلَّفتْها دروبُ حقول الألغام والعوسج إبان الحروب الخليجية التي لا تنتهي. من يدري صوت مَن هذا الذي نسمعه في هذه اللحظة؟!

رأيته يقف برأسه الأسطواني بمحاذاة الحافة الأمامية للخندق، يبتسم ابتسامته العاهرة حين يأمرني بفتح النار صوب جهةٍ يُفترَض أن العدوَّ يكمن فيها. كان يكره سكوتي، ويحارب كلَّ الوقت من أجل فتح فمي وفم بندقيتي. كل يوم أراه في جهة يعلس بأسنانه المُكَرْبَنَة سيجارةً متعفنة، ثم يؤشر بيده صوب جهة العدو ويأمرني بفتح النار: "لا تسكت لئلا تموت!" وها هو يدور برأسه ليباغتني بنظراته الحادة. "لا تتكلم!"

أحسُّ بعينيه تتوزعان في كلِّ الزوايا: بين الكراسي والطاولات، خلف المكائن والصناديق الكرتونية. أراه، هذه المرَّة، بوجوه متعددة، برؤوس متعددة. وفوق كلِّ طاولة يستلقي بجسده المُقَوْلَب بطريقة ماكرة، يستدرج الرؤوس بخدعة مثيرة، لتمضي كلَّ الوقت تفتش عن خلل مفترَض عند طوق جمجمته، وربما أسفل حجابه الحاجز. وحين يمضي الوقت، ينفث دخان سيجارته ممزوجًا بابتسامة خبيثة تثير في أعماقي يأسًا قسريًّا من جدِّية العثور على خلله المزعوم. يحاول أن يكرِّر سلوكه مع تلك الرؤوس المكبَّلة بالتفكير في أمنية تمرق مثل ومض عند حافات الأفق. يكرِّر حركاتِه ببهلوانيةٍ تدلِّل على أنه يعرف أشياء كثيرة عن كيفية ترويض الانفعال. ها هو يبدأ هادئًا، ممتدًّا مثل ساقية لا تعرف إلا الجريان. يذهب بخطواته الواثقة إلى آخر الطاولة، وربما إلى آخر البناية، ثم يزجُّ بقامته ضمن حشد القامات التي تطرقها الرؤوس طوال ساعات العمل. ينظر تارة، ويتكلَّم تارة أخرى؛ يومئ بيد متصلبة، فتقترب منه ثمة رؤوس أخرى؛ يلتفت صوب الغروب الدامي، فتلتهب الجبهةُ بالنار والرصاص وحبَّات العرق التي تسيل فوق دبق الأشهر المنصرمة. "لا تتكلم!" يحني رأسه ليبلِّغني رسالتَه: "عيناك عند حافة حزامك... كلُّهم ينتظرون رؤوس أصابعك... إذا تجاهلتَ واحدًا منهم ربما تحدث الكارثة... الأرض الحرام باتت مرتعًا للضباع، كما ترى يا صديقي...". وابتسم لي بخبث وقال: "كلُّ هذه الحاويات...". ثم رفع بيده الناعمة أحد البراغي وأعاد كلامه الهادئ: "لو أغفلتَ واحدًا... كلُّ هذه الحاويات سترفض، وستجد قامتَك تلازم ظلَّها عند أقرب وكالة لتشغيل العاطلين." تذكَّرتُ كلامه لي قبل اختفائه من خارطة الخنادق المنفية في حقول الشوك والعاقول: "عليك أن تكون دقيقًا... لتذهب رصاصاتُ بندقيتك إلى مركز الإحداثيات...". وكرَّر: "مركز الإحداثيات...". ولحظة رفع يده ليربت فوق كتفي اختفى ولم أعد أراه.

وها أنا منذ سنين أحاول أن أستعيد ملامح وجهه التي استحالت أخاديد معدنية. أحاول أن أرسم صورًا ذهنية لحركاته، وهو يقف عند حافة الماكينة الكبيرة التي بدت عجوزًا منهكة. أستقصي أبعد نقطة في ذاكرتي، فألمحه يراقبني من بعيد؛ يرصد حركاتِ أصابعي، انفعالَ وجهي، ثم يبتسم لحظة انزعاجي من سلوكه، وكأني أسمع كلماتِه تصفق رأسي ووجودي: "أينما تذهب تجد نفسك مرغمًا على سماع أوامري. فبين السكوت والصراخ ثمة رصاصة عَبَرَتْ يومًا أديم ذاكرتك، وكتلة حديدية اسمها "البرغي" مازالت تتوزَّع في حقول نهاراتك وليلك."

التفتُّ... تأكدت من نبرة صوته. حاولت أن أشتمه من بعيد. ولما استدرتُ بجسدي رأيتُ مدير الورشة يقف قبالة وجهي، يستفهم بهدوء عن سبب رفع رأسي وترك أصابعي تعمل دون توجيه.

*** *** ***


* كاتب وروائي عراقي مقيم في أمريكا.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود