آن الأوان، فلسطينيًّا،

لخيار نِلْسون مانديلا اللاعنفي

 

سمير الرنتيسي*

 

لجأتُ، في خضمِّ الانتفاضة الفلسطينية الأولى، قبل عدة أشهر من انعقاد مؤتمر مدريد في العام 1990، إلى شكل غير معتاد من أشكال المقاومة السلمية للاحتلال الإسرائيلي: توجَّهتُ من منزلي في مدينة البيرة إلى مدخل قيادة الاحتلال العسكري الإسرائيلي (بيت إيل)، حاملاً يافطات كتبت عليها شعارات تطالب المحتلِّين الإسرائيليين بالرحيل عن الأراضي التي احتلوها في العام 1967. نصبتُ اليافطات أمام مقرِّ القيادة العسكرية الإسرائيلية، وقمت بتقييد جسدي بالسلاسل إلى عمود للكهرباء.

لم تمضِ آنذاك سوى لحظات حتى تجمهر الجنود الإسرائيليون من حولي: جندي يتصل بمسؤوليه ليُعلِمَهم، على ما يبدو، بما أقدمتُ عليه؛ وآخرون أخذوا ينظرون بأعين حائرة ومستغربة. وسرعان ما اتضح أن الجنود الإسرائيليين ظنوا أنني أجنبي يتضامن مع الشعب الفلسطيني! لم يتخيَّلوا للحظة أن أمامهم شابًّا فلسطينيًّا، من الذين كانوا يرشقونهم يوميًّا بالحجارة، قرَّرَ، بعد دراسة وتمحيص، أن يجرِّب هذا الشكل من المقاومة اللاعنفية، بدلاً من إلقاء الحجارة على جنود الاحتلال وتعرُّضه لرصاصهم القاتل.

احتار الجنود في كيفية التعامل مع هذا الشكل الجديد من الاحتجاج. وما زاد من حيرتهم وصولُ كاميرات من محطات تلفزة مختلفة لتصوير إصراري على الاستمرار في الاحتجاج. ووقف الجنود عاجزين عن فعل أيِّ شيء، إلى أن حضر ضابطٌ كبير بادرني بالكلام بالإنكليزية، متسائلاً عما أفعله. وفاجأتُه بالردِّ على سؤاله باللغة العربية، ما عمَّق ملامح الحيرة على وجهه. ولم يصدِّق عينيه حين ألقيت نحوه بهويتي البرتقالية التي تدلُّ على كوني فلسطينيًّا، فاستشاط غضبًا، آمِرًا الجنود بفكِّ القيود التي تربطني إلى عمود الكهرباء واعتقالي فورًا. وبالفعل، تمَّ اعتقالي؛ إلا أنه تمَّ إطلاق سراحي بعد ساعات من الاستجواب، أكَّدتُ خلالها على حقيَّ الكامل، الذي تضمنُه المواثيق والأعراف الدولية، برفض الاحتلال العسكري ومقاومته سلميًّا بالوسائل التي أراها مناسبة. ورغم محاولة ضابط التحقيق الإسرائيلي الاستخفاف بهذا الشكل من أشكال المقاومة اللاعنفية، إلا أن الارتباك أصابه وأصاب مؤسَّسته الأمنية نتيجة هذه المبادرة الفردية، لأنها تمثل شكلاً جديدًا من أشكال المقاومة لم تعتدْ عليه المؤسَّسة الأمنية الإسرائيلية. وفي الأسبوع التالي، واجهتُ المؤسَّسة الأمنية الإسرائيلية من جديد.

تجربة أخرى من أشكال المقاومة اللاعنفية

توجَّهتُ إلى وسط المركز التجاري للقدس الغربية، حاملاً على كتفي حقيبة ملأى بأغصان الزيتون ويافطة تقول: "أمدُّ يدي إليكم بالسلام وأعطيكم غصن زيتون إذا ما وافقتُم على إنهاء احتلالكم لأرضي وقهركم لشعبي." ونصبتُ اليافطة داخل ما يُسمَّى بـ"ساحة صهيون" (الساحة المركزية في القدس الغربية التي يرتادها مئات الإسرائيليين يوميًّا).

كان ردُّ فعل الإسرائيليين مختلطًا: البعض رحَّبَ بي بحرارة، وحاول حمايتي حين حاول البعض من غلاة اليمين والمستوطنين الاعتداء عليَّ جسديًّا. فقام أنصارُ معسكر السلام الإسرائيلي بحمايتي بخلق سور بشريٍّ بينهم وبين المتطرِّفين الإسرائيليين، رغم استغرابهم هذه الخطوة. وبالطبع، وصلتْ بعد ذلك سيارات حرس الحدود الإسرائيلي واعتقلتْني من جديد.

أسوق هذين المثالين كمدخل لإلقاء الضوء على المقاومة اللاعنفية للاحتلال الإسرائيلي ومدى نجاعتها. لقد حمل الردُّ الفلسطيني للاحتلال، منذ البداية، عقبات عدة حالت دون توفير الظروف الملائمة، فلسطينيًّا، لممارسة أشكال المقاومة السلمية. فأشكال القهر التي اعتمدها الاحتلال شكَّلتْ عقبةً وعائقًا أساسيًّا أمام إمكانية ممارسة الشعب الفلسطيني لأشكال النضال والمقاومة السلمية. وأولى هذه العقبات اعتمادُ الاحتلال العسكري الإسرائيلي قانون الطوارئ للانتداب البريطاني للعام 1945 الذي منح الحاكم العسكري الإسرائيلي سلطاتٍ مطلقةً في قمع أيِّ شكل من أشكال التمرُّد (الاحتجاج) – بما في ذلك الاعتقالات العشوائية والاعتقالات الإدارية (أي اعتقال واحتجاز الأشخاص دون توفُّر سبب قانوني). ورغم ذلك، جَرَتْ محاولات فلسطينية عدة لتنظيم حركة مقاومة شعبية لاعنفية ضدَّ الاحتلال، خصوصًا في السنوات الأولى منه. إلا أن هذه المحاولات أُجْهِضَتْ أمام حجم الهجمة والقمع الإسرائيلي ضدَّ أشكال المقاومة السلمية.

ثانيًا: إخفاق تجربة حركات الاحتجاج الفلسطينية السلمية خلال أعوام الانتداب البريطاني، إلى جانب التخاذل القومي العربي لاحقًا في سنوات الخمسينات والستينات، مما دفع بحركة المقاومة الفلسطينية إلى تبنِّي وسائل مقاومة عنيفة والميل إلى تعميقها، بدلاً من أساليب النضال السِّلمي.

ثالثًا – وهو الأهم – يتمثَّل في الحقيقة البائنة بأن الثورة الفلسطينية المعاصرة، وبالتحديد عمودها الفقري "فتح"، قد تشكَّلتْ خارج المناطق الفلسطينية المحتلة، ما حرمها، منذ البدايات، من القدرة على تصويب بوصلة النضال وتطوير أشكاله، بحيث تلائم الوضع الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة.

وحتى حينما أدركتْ قيادة "فتح" أهمية تأسيس النضال وأشكاله داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بإشرافٍ من الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) في نهاية العام 1979، فإنها كانت دائمًا تصرُّ على إسناد النضال اللاعنفي في فلسطين بعمليات "الكفاح المسلَّح" الخارجية، حتى في أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى.

لقد ساهم الطرفان، الإسرائيلي والفلسطيني، بإجهاض خيار المقاومة اللاعنفية للاحتلال العسكري: الإسرائيلي، بسبب قمعه المفرط في التصدِّي لحركات المقاومة السلمية الفلسطينية، ودفعها إلى التخلِّي عن هذا التوجُّه وتبنِّي أساليب مقاومة عنيفة؛ والفلسطيني عبر نفاد صبره السريع وقِصَرِ نَفَسِه لممارسة النضال اللاعنفي. وقد تدخَّلتْ الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، أحيانًا، عبر عملائها، لإجهاض خيار المقاومة اللاعنفية، من خلال دسِّ بعضهم في الأنشطة والفعاليات الاحتجاجية السلمية، بهدف تخريب سلمية هذه الاحتجاجات.

إن الطريق الوحيد المتبقِّي لإعادة إحياء خيار المقاومة السلمية اللاعنفية الفلسطينية، الذي هو الأقدر على تحويل النضال الفلسطيني ضدَّ الاحتلال إلى حركة احتجاج سلمية تحظى بأكبر قدرٍ من التأييد والدعم الدوليين، يتمثل في تبنِّي النخبة الفلسطينية القيادية لخيار المقاومة اللاعنفية واقتناع قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية بهذا الأسلوب من النضال. فمعظم قيادات حركة المقاومة الفلسطينية، سواء الجيل القديم أو حتى الجديد، لم يتمرَّسوا بعد على أساليب المقاومة اللاعنفية ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي الشرس، رغم وجود تجربة شعبية فلسطينية غنية ومتميزة في المقاومة اللاعنفية، خصوصًا خلال الانتداب البريطاني وفي الانتفاضة الأولى.

لقد آن الأوان لكي تستفيد النخبة القيادية الفلسطينية من تجربة نلسون مانديلا وزملائه في نقلهم خيار الحركة الوطنية الجنوب أفريقية إلى خيار المقاومة اللاعنفية.

*** *** ***


* سمير الرنتيسي هو المنسق العام لتحالف السلام الفلسطيني.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود