في هيكل الأرض

 

قيصر عفيف

 

عرش الخسارة

 

لا نعرف كيف تبدأ الحكاية،

ولا كيف تنتهي،

لكننا نعرف ألا اكتفاء فيها

ولا إغراء،

وأنه من المستحيل روايتها

ومن المستحيل السكوت عنها.

للحكاية مسلك غير الصوت –

كأنْ نردِّد الحدث الضائع،

كأنْ يحرِّك الراوي يده،

أو يدير رأسه،

أو يبتسم.

وفي حركاته وسكناته

يتراءى لنا حطام الأشياء

وبطلان المعنى.

*

للحكاية سياق خاص بها.

وحين لا يتبعه الراوي، يقع –

ويقع السامعون معه في قعر الحالة،

وتعربش الخسارة على العرش.

وإذا كان لا بدَّ من الإصغاء

فلا بدَّ من معجزة تكشف المغزى

لينتصب الحلم –

فالحلم باب آخر للمعرفة

وباب آخر للأمل،

وليس من الحكمة أن نقفله.

*

الحكاية لم تبدأ

ولم تنتهِ.

فلنسدلِ الستارة،

وليمضِ كلُّ في سبيله.

 

في هيكل الأرض

 

إلى نجلا وعلي جابر

 

المطر كاهن الأزمنة،

يغزو الأرض بزخمه الخصيب،

يغسلها،

ينقذها من حزن وعجز،

فتستسلم لقسوته الناعمة

وتتركه يتغلغل فيها،

لأنه يأتي في زيارة البشارة

ليطرِّز قماشة الحقول

بزنانير الصَّعتر والزهر والزينة.

مَن يجرؤ على القول

أين تبدأ العبادة في هيكل الأرض

وأين تنتهي الفصول؟

*

أنا الفلاح، كاهن الطبيعة:

الأرض خزَّاني الواسع

لا يعرف الجفاف ولا النضوب.

الأرض زنزانتي،

لا تأسرني لأنها كنزي.

وحين تشتعل النار

وتزهر الروح في لبِّ التراب،

أقف شاهدًا،

أرى حركة الحياة في الأشياء،

في الأجزاء والأنواع،

في جذور القاع،

في البرق والرعد والمطر،

في الزهور والصخور والبراري،

في الأشجار والصحارى،

في الطين والنهر،

في الشمس والقمر،

في الخبز وخوابي الزيت والخمر،

في حبَّة القمح،

وفي كوز التين يأتيني

نزولاً إلى ركوب الموت،

إلى الاختمار والاختفاء،

إلى صراع الحركة والجمود،

طلوعًا إلى اليقظة،

وبروزًا على الغصن،

يحمله لولب الحياة إليَّ،

يدخل فيَّ،

أتقدَّس به، يتقدَّس بي.

*

أشهد أن الجلالة تتجزَّأ في المادة،

أن الأرض شعاع الجلالة،

أن العناصر تزقزق في وحدة النور.

مَنْ يفكُّ هذه الألغاز،

هذه المزامير،

مَنْ ينفخ هذه القوة في الأشياء،

مَنْ يصهر هذه العناصر

ليطلع كوزُ التين شمسًا في يدي؟

 

خفَّة السَّير بلا اسم ومتاع

 

اسمي قناعٌ

لا يدلُّ على شيء،

يقتات من الشائعات والأقاويل،

يحمل أثقال الحدود والضوابط،

يحسب ألوف الاحتمالات،

ويخشى النتائج.

*

أنا الغجري،

تعلَّمت كيف أرمي اسمي،

أتركه على الطرقات.

وأنتَ – إن تراه –

دَحْرِجْه إلى الهوة

أو احرقْه.

فأنا أهوى السير بلا متاع،

خفيفًا مثل خيال،

هشًّا مثل عتمة.

أقيم وأرحل –

ولكن لا الرحلة تأسرني

ولا المكان.

*

أنا الغجري،

لا اسم لي يدلُّ عليَّ

أو أستند إليه.

أتفتَّت على الطرقات مثل ظلٍّ

وأختفي في زئبق الأيام،

بلا أثر،

بلا خَبَر.

 

خدعة المهرِّج

 

سيلٌ من الناس،

صَخَبُ خطوات تخدعها الطريق،

وجوه تهرب من ذاتها،

وتركض نحو الهوة الواحدة،

تائهة تدوس الدروب.

أشباه أشباح – لا بشر –

يتمرَّغون في غبار الأيام

ويهربون من غربة إلى غربة،

يحملون حقائب شقائهم

وشقاء ثرواتهم،

يعاقرون الهرب.

*

في وسط المدينة الأليف الغريب

يلعب الصغار.

أراهم ينظرون إلى مهرِّج غائب

يختفي مساءً عند حضورهم.

يقول الصغار إن المهرِّج منافق،

يثير السخرية، لا الضحك البريء،

القرف، لا الاحترام.

*

المهرِّج وخداع الناس،

الصبايا وخداع النظر،

الشباب وخداع الكلام،

كلُّنا وخداع الأحلام –

لا نريد أن ننسى

ولا نريد أن نتذكر.

كلُّنا غرباء هنا

عن ذواتنا،

عن أهلنا وأحبابنا.

ندرك الآن أننا خسرنا المدينة،

خسرنا الشمس والأرض

ومواسم الحصاد.

ورغم ذلك، في الداخل شمس!

مَن يرمي كلَّ هذا الوهج هنا؟!

 

غريب في المدينة

 

I

أمامي تسقط المدينة،

تختفي بيوتها،

تفرغ مِنْ سكانها –

لكن الضجيج لا يغيب.

هذه مدينة الخراف،

يملؤها السراب،

يتَّخذ الإنسان فيها شكل حزن هائل،

وليس فيها ما يضيء المسافة

غير الهرب.

***

يا المدينة يملؤها الرعب،

يا مدينة الغموض والالتباس،

يا مدينة الضياع والخلخلة –

كيف أغسل اسمي منك

وأنجو من هذه الجلجلة؟

أراك تخترعين الظلم،

أرى النزوح منك إليك

وأسمع وشوشة تقول:

"إنْ تجهرْ بالحقِّ تَمُتْ."

أيتها المدينة العاهرة،

أيجوز أن تموت فينا اللغة؟!

يا مدينة العار،

أيجوز أن نؤجل القول؟!

أما حان لنا أن نزرع أصواتنا،

أن نمحو، بيد ثابتة قوية،

كلَّ الكتابة القديمة،

كلَّ الثرثرة؟

أما حان لنا أن نصرخ،

لعلنا نجد مَنْ يجيد الإصغاء –

بل مَنْ يحتمل الإصغاء؟!

مَنْ يعيد صَوْغَ الحقِّ

وينقذنا من حطام اللغة اليابسة؟!

***

بلى، حان لنا أن نتحدَّى،

أن نطلق الأصوات الجديدة،

أن نصمد أمام الفاجعة.

نعرف أن النفق طويل وأن منابع الخوف كثيرة،

ونعترف بأن خسائرنا تأتي منَّا نحن –

نحن الأكثر هشاشة من الثلج،

الأكثر غرابة من السحر،

نشهد غروبنا ولا نبالي.

لم نتعلَّم بعدُ أن المشعوذين ملؤوا المعابد والجامعات.

مَنْ نتوسَّل، مَن نسأل، مَن يجيب؟!

ولكنا نرتع في فضاء النحيب.

أنخطئ إن جدَّفنا؟

II

يا الغريب الباحث في المدينة،

أرأيت كيف تقوَّستْ عيون الكهنة،

حجبتْ عنك الألوهة،

ملأتْك أمنًا زائفًا،

ووقعتَ في الفخ.

حذارِ!

ليس الركوع علامة التقوى،

ولا السُّكر علامة البلوى!

أن تغنِّي الألم شيء،

وشيء آخر أن تكتوي بناره!

إياك والوقوع في حبائل الطنين الفارغ!

أصغِ إلى صوتك يأتيك،

لا من العاديِّ، بل من الينابيع.

ما تطلبه من سعادة لن تجده عند أسفل الجبل،

ولا في أعاليه،

لا على الشاطئ الشمالي،

ولا في أرض الجنوب.

الكنز الذي تطلبه هنا،

تحت طيَّات المعطف –

أتجرؤ أن تراه؟

***

يجتاحك شعورٌ بأن الطريق ضيِّق وصعب،

وبأن غابات الدموع كثيرة،

وبأن العودة إلى الوراء أجدى.

قضت الأفكار المعلَّبة عليك،

قضَّتْ سلامك،

تركت لبراثن الرغبة أن تنهشك.

تلفُّك حُجُبُ الريبة،

تشلُّك الرهبة،

وتبدو في محيطك المظلم حقيرًا،

تمشي ووجهك إلى الوراء.

أن تكون الطريقُ خفية

لا يعني أنها غير موجودة.

أصْغِ إلى هذا الصوت في الرأس،

إلى الهدير يحثُّك على الخروج.

تبدو قويًّا محميًّا،

لكنك قبل الطوفان والزلزال

تختل وتقع،

لأنك أضعف مما تتصوَّر.

وحيث أنت الآن لا خلاص لك!

فمتى تطلع من هناك

وتهيِّئ المكان للحدث العظيم؟

***

يا الغريب المبعثر على الطريق،

عبثًا تدور هكذا.

لو أردتَ الوصول

عليك أن تبحر،

لكنْ ليس نحو الأفق –

ولا من الذين يحملون يأسهم وخوفهم

ويحلمون بجنائن الآتي –

إنما إلى الأمام الغريب،

مع المُبحرين صعودًا،

مع الذين يتركون وراءهم المال والتراب

وينطلقون مع نار القلب،

يشتعلون في وحدتهم،

ويصعدون في اشتعالهم،

لا يعانون الانفصال

لأنهم أدركوا سرَّ الاتصال.

***

إلى الأمام، أيها الغريب

إلى حيث تشتعل وتتوهَّج.

كيف احتملتَ الانطفاء كلَّ هذا الوقت؟!

 

يا السلطان الطاعن في الإثم

 

"وسمَّى الغزاةُ فَتْكَهم نصرًا، ونَصْرَهم عدالةً سمُّوه. وعلَّقوا الرؤوسَ المطاحةَ على أسوار المدن وقباب الصروح."

أنطون غطاس كرم، كتاب عبد الله، ص 84

 

على رؤوس الأشهاد جاؤوا

يدقُّون رؤوس الأطفال،

يكوون لحم الأمهات،

ويقطِّعون لحم الرجال –

حتى اختلط اللحم بالوحل،

وانتشرت الأشلاء في الشوارع.

جاؤوا يكرزون بالشرائع

ويسرقون كنوزنا ليملؤوا أهراءهم،

يجوِّعون أطفالنا ليُطعموا أطفالهم،

يُلبِسون الحرية أثواب الزانية

ويطوفون بها بين الشعوب –

هكذا جاء قراصنة السلطان!

*

يا السلطان القرصان،

أنا العرَّاف أعرفك –

أحلامك تنام بين يدي –

جئتَ والدسائس تتكدس في رأسك.

تجوِّز شريعة الفتك،

تموِّه بالكلمة الأنيقة جرائمك،

تُمارس التعب والتبعثُر،

وتتقلَّب كالكذب.

حين نراك على المسرح

نكاد أن نتقيأ.

فالديك المنفوش الريش

ليس بالضرورة طاووسًا،

والأرعن الذي يفتك بالأبرياء

ليس بالضرورة منتصرًا،

والغريب الأطوار ليس بالضرورة عبقريًّا.

*

يا السلطان الطاعن في الإثم،

خداعًا تخادع نفسك والناس،

تكتب خُلسة سورة الخيانة

ليحفظها جيدًا شيوخ قبائلنا –

لكنك لن تخدعنا.

إياك أن تظن أن انتصارك أخافنا منك!

لسنا نخاف ذئب المساء،

حتى وهو يغرز أنيابه في لحمنا.

لن نتركه يجوب ساحاتنا،

يأكل خبزنا

ويزني في منازلنا.

لا، لن نتلوى من زوابع الخزي

ولن نعيش غرباء في مدينتنا.

*

منذ زمان

ورغبة مشؤومة بالمتاهة تبتلعنا.

نسرع إلى الهاوية في عناد وعزم.

أترانا الآن أدركنا

أن الأزمة لا تحتمل الهزل،

ولا كلَّ هذا الجهل؟!

حان لنا ألا نرى قوافل الدبابات،

بل الصحراء – فالصحراء لنا.

حان لنا ألا نرى الراجمات،

بل الشهادة.

نحن أحفاد الحسين،

أبناء الحلاج،

نتوضَّأ بالدم عند الضرورة،

وبه نغسل الأوساخ الغريبة،

نكرِّس الأرض أيقونة،

نقدِّسها – لأنها لنا

ولأحفادنا من بعدنا،

ونعرف جيدًا – ويعرفون معنا –

أنه "على بُناته يندكُّ الشر".

 

غياب معلن

 

هواء المدينة دواء

يشفي الذين سمَّمتْهم السياسة

وخنقتهم الأفكار القديمة،

لكنه مرضٌ كذلك

يصيب الذين يجترُّون الوقت

ويعاقرون الموت البطيء

في مقاهي الأرصفة

وعلى أرصفة الرتابة والسأم.

تراهم يهربون من موتهم

ويحتفلون بجنائز بعضهم.

يظنون أنه العيد،

لكنهم يتدحرجون في الجنازة الواحدة

ويصلون إلى موت آخر.

 

كلُّ شيء زائف هنا:

الشمس والقمر،

والناس بعباءاتهم الأصيلة وأقنعتهم.

 

أدركوا بعد فوات الأوان

أنهم لا ينتمون إلى هذا المكان.

يحتسون الليل

ويوزِّعونه في كؤوس الأيام

ويعلنون غيابهم.

 

متاهة

 

أخاف أن أفهم ما تقولين!

أنتِ تحملين البشارة،

وأنا أحلم بالنقوش العابرة.

أنت تعبرين إلى المكان الخفي،

وأنا أقف في باحة الوحدة،

وعلى كتفي

قبيلة من المعاني تبدو وتختفي.

أنت تبحرين على مخمل الكلام

وأنا تضلِّلني بُحور الكلمات –

الكلمات نفسها التي كانت تفصلنا

تجمعنا الآن،

تنسجها لغة ملونة واهية.

ما حيلتي واللغة خيوط عنكبوت؟

ما حيلتي والمسافات لا تطيعني

والأزمنة عاصية؟

*

أكنت تهربين من المعنى؟

أنا، حين هربتِ،

انتابني هياج،

خنقني المكان،

ووقفت على حافة الهذيان،

حتى حملني الحلم إلى هياكله المهجورة،

وقذفني الوهم،

فسقطت في هوة المصادفات

ودهاليز الأقدار.

وكنت هائمًا، تائهًا، لكني ما أظهرت متاهتي –

فالمتاهة عاهة.

أعترف لكِ الآن:

لوهلة، لاحت لي فوهة الشهوة،

لوهلة، هزَّتني أوتارُها

وغزاني زمهريرها.

لكني سريعًا أشهرت هزيمتي –

وها الهزيمة تلازمني

مثل هدير،

مثل جنازة تلازمني،

وربما حتى الزفير الأخير –

لكنها لن تزعزعني.

*

وها أنت الآن تعودين

مثل غزالة بعينيكِ الكئيبتين.

وفي غفلة من الكلمات والأصوات والأيام

تقولين ما تقولين –

وأخاف أن أفهم كلَّ ما تقولين،

أخاف أن أكشف سرًّا

أو أكتشف أمرًا،

لذا أقف في دائرة الصمت

مختنقًا بحبال الكبت.

لم يعد الكلام سهلاً،

ولا البكاء مباحًا.

آه!

حتى الشعر لم يعد كافيًا.

 

المملكة

 

أجوب مملكتي على بساط الريح،

أرى كلَّ ما يُرى،

أرى اللغة.

*

خارج مملكتي تشتعل الحرب –

خُطَبٌ ملطَّخة بالغواية،

والغدر يُغري السامعين،

والغلبة للمغادرين.

خارج مملكتي: رماد ودمار،

غُبار كثيف وحجارة!

كيف أزيح الغبارَ

وأقيم العبارة؟!

*

وفي زوايا الداخل زَخَارِف الكنوز

والمغانم،

فيها السلام،

وفيها الحقول والمواسم.

سلام عليَّ حين أزرع،

وحين أحصد،

حين أنام وحين أحلم،

حين أصمت وحين أقول.

سلام عليَّ

حين أموت في حروف الكلمات،

وحين أُبْعَثُ حيًّا

مع الحبر على بياض الورق.

من للشعراء فقط

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود