وجـوه من نـور

أيقوناتٌ بالكَلام لقدِّيسين مُعَاصِرين

 

أديب صعب

 

وجوه من نور[1] للأب إيليا متري كتابٌ في اللاهوت وكتابٌ في الأدب، تمتزج فيه بلاغةُ النثر مع رؤيوية الشعر. ولكم يزعجني المدافعون عن دين أو لاهوت منفصل عن الفنِّ وقوَّته البلاغية والتبليغية، وأنا من القائلين بأن الدين والشعر يقفان معًا ويسقطان معًا. فالدين الحق والشعر الحق عملُ كشفٍ للوجود في أعماقه وألغازه – هذا الوجود الذي يقف فيه المحدود حيال اللامحدود محاولاً الاقترابَ منه ووصفَه.

في هذا الدين وهذا الشعر كليهما، يبتعد المفهومُ المجازي أو الرمزي عن الصفة الجمالية الشكلية ويغدو أداة اكتشاف. وتتجلَّى هذه الوظيفةُ الجليلة في الصور التي أطلقها يسوع على الملكوت، ومنها: "حبة الخردل" (متى 13: 31-32) و"الخميرة" (متى 13: 33) و"اللؤلؤة" (متى 13: 45-46)؛ كما تتجلَّى في صور الشعراء العظام، أمثال تي.إس. إليوت وخليل حاوي، التي ابتكروها لا لتستر ما نستطيع رؤيتَه بالبصر، بل لمحاولة كشف ما لا نستطيع رؤيتَه إلا بالبصيرة. في الرمزية الجمالية الضئيلة – وهي ما سمَّيتُه يومًا "الرمزية الساترة" – تغدو الكلمةُ ظلامًا أو ستارًا من ظلام، في حين تغدو الكلمةُ في ما سمَّيتُه "الرمزية الكاشفة" نورًا أو بعضًا من نور.

ولئن أعطى الأب إيليا كتابَه عنوان وجوه من نور فلأن هذه الوجوه باتت عنده بمثابة الرمز الكاشف. ولأن "الوجه" من الجسد، فهو صار كلمة بعدما "صار الكلمة جسدًا" (يوحنا 1: 14). "وجوه" المؤلِّف هذه، إذن، هي الرموز النورانية التي تقلِّص المسافة بين محدوديتنا البشرية واللامحدودية الإلهية. إنها نماذج لأبطال عصريين وقديسين يتحركون بيننا. هل هناك أبطال إلا في الأساطير والملاحم والروايات؟! هل هناك قديسون إلا في السِّيَر؟! نعم! الكتاب يقنعنا بأن ثمة نماذج حية من هؤلاء وأولئك تمشي بين ظهرانينا. وها هي ذي صفحاته جاءت تطوِّبها، دونما حاجة إلى مَجامع ولا محامين – بِمَن فيهم "محامي الشيطان"! فعلامة القداسة الوحيدة أن يتشبَّه صاحبُها بمعلِّمه – الرب يسوع المسيح – حتى يغدو هذا الشبهُ بمثابة الزيت، ويغدو هو الأيقونة الحية التي يليق بالناس الاقتداءُ بها في رحلتهم على درب القداسة.

من هنا أنظر إلى وجوه من نور كما لو كان كتابًا لاهوتيًّا متعدد الأبعاد. فهو ينتمي إلى لاهوت السيرة: إنه "آيوغرافيا" Hagiography أو "سنكسار" لقديسين أحياء، لا تهمُّ أسماؤهم بمقدار ما تهم أوصافُهم. وبما أن سِيَر القديسين ذات محتوى رهباني/عقائدي/خُلُقي، فالكتاب ينتمي أيضًا إلى الأدبيات الصوفية وإلى اللاهوتَين العقائدي والأخلاقي. بهذا كله يرتبط الهدف التعليمي ليضع الكتاب في خانة اللاهوت الرعائي أيضًا. ولعل هذا النوع المسمَّى "رعائيًّا" هو اللاهوت الجامع، لأن محتوى "الرعاية" مستمَد من العقيدة والسيرة والأخلاق.

وعندما نصل إلى الرعاية فإنما نقف على لبِّ رسالة المؤلِّف، كاهنًا وكاتبًا. لقد ذاع صيتُ الأب إيليا متري – ضمن رعيته وأبعد كثيرًا من حدودها، سواء بين مَن عرفه عن كثب وسمعه وقرأ له أو مَن سمع عنه – كمثال للـ"راعي"؛ هذا لأنه لم يكتفِ، على غرار كثرة من كهنة الرعايا، بما سمَّيتُه "الرعاية المنفعلة"، بل تَجاوَزَها إلى ما سمَّيتُه "الرعاية الفاعلة". لا أقصد البتة أن الرعاية المنفعلة، أي ما يؤديه الكاهن من خدم وطقوس تبلغ ذروتها في القداس الإلهي، شأنٌ سلبي؛ لا بل إن هذا لا يحصل حسنًا إلا بالرعاية الفاعلة، ومنها تفقُّد أبناء الرعية في البيت والمستشفى وكلِّ مكان، ومخاطبة الواحد منهم في مختلف أبعاد شخصيته: العقلية والعاطفية والمادية والروحية والفردية والاجتماعية، وفي مجمل همومه واهتماماته.

لقد أضاف الأب إيليا إلى هذا الخطاب خطابًا أقوى فاعلية وأبعد أثرًا، هو الوعظ والتأليف. وهذا نابع من موهبة إلهية أتوق شخصيًّا إلى وجودها لدى جميع الرعاة، بل إلى جعلها شرطًا للسيامة الكهنوتية، خوفًا من انحصار الرعاية في النوع "المنفعل"، وبالتالي، خفض الرعاية إلى "وظيفة" وتحويل رجال الدين إلى "طبقة". قد لا يكون مطلوبًا من كلِّ كاهن رعية أن يكتب مقالاتٍ أو أن يؤلِّف كتبًا لكي يمارس الرعاية الفاعلة؛ لكن هذا لن يحصل إلا إذا كان مثالاً لِما يجب أن يكون عليه أبناءُ الرعية، أي إذا صار معلمًا بالقدوة، أو واحدًا من أبطال هذا الكتاب – أعني "وجهًا من نور". ولنذكِّر بأن سقراط كان هكذا من غير أن يكتب، وأن فصاحة حديثه وفصاحة حياته وفصاحة موته كانت أبلغ من أيِّ كلام!

هذا من ناحية الجوِّ العام. أما تفاصيل الكتاب، فليس لكلِّ قارئ أن يوافق عليها كلِّها. قد تُجادِل الكاتبَ في دفاعه، مثلاً، عن طول القداس (ص 118)، أو في لجوء زوجين فقيرين إلى بيع خاتمَي زواجهما لمساعدة صديق (ص 113)، أو في عدم استقبال والد ابنتَه العائدة بعد غياب طويل لأن نزولها في المطار تَزامَن مع القداس الإلهي (ص 90): والله لو كانت هذه الابنة لي لهيأتُ العجلَ المسمَّن (لوقا 15: 23)، وارتديت لباس العرس (متَّى 22: 12)، وخففت إلى المطار كما إلى كنيسة، وكان استقبالها هو هو القداس، اقتداءً بأن "ابن الإنسان هو ربُّ السبت أيضًا" (لوقا 6: 5 ومرقس 2: 28). أقول هذا لا من باب حَجْب الشرعية عن موقف المؤلِّف في هذه الحالات، ولكن من باب الاعتراف بشرعية مواقف أخرى.

لا، ليس لك أن توافق على كلِّ شيء. غير أن هذا لن يبدِّل من أن الكتاب يرسم بالكلمة "أيقونات" أو "تطويبات" لقديسين معاصرين، عبر "شهادات" – كما يقول المؤلِّف في إفصاحه عن غاية كتابه – تبقى "بلاغة صدقها أعمق من كلِّ تلوين" (ص 17). لكن هذه الأيقونات تلامس "عيوننا الجافة"، كما يضيف المؤلِّف، وتحثها "على مصالحة الدموع" (ص 25).

حقًّا إن هذا الكتاب ينضح فصاحة. يكفي أن يرسم "وجوهًا من نور" لتكون له هذه الفصاحة؛ بل يكفي أن يرى النور في هذه الوجوه لتكون الفصاحة في نفس كاتبه. ويبدو أن النورانية في حياة أبطال الكتاب انعكست على تراكيبه اللغوية، حتى بات الزوجان، في إحدى القِطَع، "يرشحان تواضعًا" (ص 175). وفي قطعة أخرى، اجتمع الإخوة "ودخلوا جميعًا في غمام الله" (ص 64). وفي ثالثة، تحققت القداسة بالتوبة، حتى صار البطل "يتكئ يوميًّا على كلمة الله" (ص 112): هذه الصورة نقلتْني إلى أحد المزامير (23: 4) وجعلتْني أفهم عبارة "عصاك وعكَّازك هما يعزيانني" كما لمرة أولى. وفي قطعة رابعة، نقع على رجل طاهر ضعيف السمع، "لكن ضعف سمعه لم ينتقل إلى قلبه" (ص 54). وتصوِّر لنا خامسةٌ وليًّا "وجد ضالَّته في مساكين الله، وصار هؤلاء حجَّه إلى العلى" (ص 161). وفي سادسة، "بقيت الكلمات الجديدة التي انهمرت عليه تقرع باب قلبه وتطلب ودَّه. لم يستطع في تلك الليلة أن ينام. كان قد علق بشباك المسيح" (ص 57).

هذا غيض من فيض. ولا يضير الكاتب إن هو لجأ أحيانًا إلى كلمات قد تكون عتيقة أو نادرة الاستعمال، كما في: "كان يطله هذا الطلب" (ص 72)، "لا تأصره عليه أصرة" (ص 100)، "يأرب إلى العون" (ص 100)، "كان الليل قد أغسى" (ص 116)، "باء بذنوبه" (ص 64 و140)، "كان غيَّافًا" (ص 75): وهذه جاء شرحُها في الهامش أن "الغيَّاف مَن طالت لحيتُه وكبرت جدًّا". لكن يبقى ما أقوله رأيًا شخصيًّا. كما تبقى بلاغةُ المفردات والتراكيب في هذا الكتاب آتيةً من بلاغة المحتوى وحرارة الروح. و"لا شك أن القداسة"، كما يقول المطران جورج خضر، "تستغني عن كلِّ ذوق خارج عنها لكونها هي الذوق الكبير"[2]. وتكفي هذه القطعة من كتاب وجوه من نور مثلاً على "الذوق الكبير"، أي على اجتماع البلاغتين – بلاغة الروح وبلاغة العبارة:

تركَها زوجُها، بعد خلاف، ورحل... ثم كبر، وكبرت. وصَدَمَه عمرُه، فتذكَّر أُنسَه. وحملتْه ذكرياتُه إلى منزلها، منزله. قرع الباب. فتحت له، ودخل. ولما وجد صحنين على المائدة، شعر بأنه جاء في وقت غير مناسب، وقال لها: "آسف، يبدو أنك تنتظرين أحدًا." أجابته: "فعلاً، فأنا بانتظارك." (ص 121)

مئة وست عشرة قطعة في مئة وأربع وخمسين صفحة (بعد حذف المقدمات). قِطَع من سطرين، وقِطَع من صفحتين، ومعظم القِطَع من صفحة واحدة. كلامٌ قليل يرسم لك حياةً أو عالمًا. كل قطعة منمنمة miniature أو نافذة أو كوَّة تنفتح على الكون كلِّه، على أبعاد لا تنتهي. ألم أقل إنها "أيقونات" رُسِمَتْ بالكلمات؟! وإذا قارنَّا شكل هذه القِطَع بالشعر، فهي تشبه القصائد القصيرة، وأحيانًا المُغرِقة في قِصَرها، التي نجدها في اللغات كلِّها؛ لكن هذا القليل يستطيع أن يقول الكثير وأن يفوق بعض المطوَّلات بلاغة. ترى ما الذي يبقى من القصائد الطويلة، كالملاحم والمعلقات، سوى لب غنائي أو وجداني أو رؤيوي هو جوهر الشعر؟

إن أبطال الكتاب الذي نقف أمامه هي "وجوه من نور"، أفصحتْ عن نفسها من خلال المؤلِّف، الأب إيليا متري، بكلمات من نور باتت رموزًا تصل محدوديتَنا البشرية باللامحدودية الإلهية.

*** *** ***


[1] الأب إيليا متري، وجوه من نور، بتقديم المطران جورج خضر، تعاونية النور الأرثوذكسية، بيروت، 2005.

[2] المطران جورج خضر، لو حكيت مسرى الطفولة، ط 1، ص 28.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود