أعماله الكاملة صدرتْ عن "دار المدى"

عودة هادي العلوي... مثقَّفًا كونيًّا

 

إبراهيم حاج عبدي

 

حين نذكر هادي العلوي فإننا نستحضر آلام وأوجاع عشرات المثقفين والمفكرين والفنانين العراقيين الذين أُخرِجوا من مرابع طفولتهم عنوة، وغادروا "أرض السواد" و"دجلة الخير"، وفي حنايا روحهم شوقٌ يتأجج، وحنينٌ يغلي، وتوقٌ أبدي إلى عناق الأرض التي توارت خلف مناديل الوداع والتي احتضنتْ براءتَهم الأولى ورسمتْ لسنوات العمر اللاحقة ملامحَ أيامٍ قاتمة في المنافي وعلى أرصفة الموانئ والمطارات وأبواب السفارات، تَمَظْهَرَتْ في شكل إبداع شفيف، مترع بالشجن واللوعة والأسى، حيث الوطنُ مستباحٌ وضحكةُ "بنت الجيران" تذبل في وحشة المساءات الباردة، وكأنما لم تروِها ماء "الفراتين".

ولعل المثال الأبرز على ما نقول هو هادي العلوي، المثقف "المختلف"، الذي تمادى في "الحداد" والاحتجاج والرفض، فكان النموذج الأندر بين أقرانه. وربما كانت نقطة الاختلاف تكمن هاهنا؛ فهو قد أعطى لشيخه الحلاج عهدَه:

أجوع مع الجائعين، فذلك هو شرط المعرفة؛ وألتحف المنافي، فذلك هو شرط الحرية.

هادي العلوي (1932-1998)

على باب شقَّته في ضاحية دمَّر السكنية بدمشق، التي قضى فيها سنواتِ عمره الأخيرة، تُطالِعُكَ عبارةٌ تقول: "مرتقى الحضارتين"، التي تحفز الذهن في اتجاه غامض، سرعان ما توضِّحه الصورُ التي تعانق عينيك وأنت تلقي نظرةً على الأثاث البسيط: صورة لكارل ماركس، وأخرى للينين، وثالثة لغيفارا، وصورة متخيَّلة لفيلسوف الصين كونفوشيوس؛ إلى ذلك، ثمة لوحة "حالة صوفية" لجبر علوان، وقصائد وكتابات مختلفة مؤطَّرة ومعلقة، فضلاً عن كتب قليلة وبعض المعاجم والمغلَّفات، ونظارتين سميكتين وعدسة مكبرة، وكرسي متواضع وطاولة صغيرة، وبعض البطاقات الملونة المرسَلة من الأصدقاء – تلك هي عناصر ومفردات وعوالم رجل اسمه هادي العلوي، الذي رحل في خريف باهت وحزين، في أيلول/سپتمبر 1998، ليوْدِع هذا الإرث الحميم، المغلف بعبق الذكريات الصادقة، لدى امرأة تقاسمتْ معه شتى ألوان الشقاء والرحيل والتعب، والقليل القليل من الفرح المسروق من زوايا العمر الكئيبة؛ ولعلها كانت تردِّد على مسامعه، وهي تدرك عظمة السامع وتفانيه:

أرِحْ ركابَك من أين ومن عثر         كفاك جيلان محمولاً على خطر

إنها زوجته، أم الحسن، التي رهنت مصيرها لمصيره، في الحياة وفي الممات. وها هي ذي، كأمٍّ عراقية صابرة وكنخلة من الأهوار لا تهزها العواصف، ترحب بالضيوف من محبِّي الراحل وأصدقائه، وكذلك بالصحافيين الذين لا تمل من أسئلتهم مادام الراحل هو محور الكلام، فتتحدث عن بساطته، وطيب معشره، وحبِّه الصادق للفقراء والجياع وأصحاب القضايا العادلة في هذا الزمن المظلم. إذ كان الراحل يكره المظاهر البرجوازية والنفاق والمهادنة: رفض مصافحة الملك فيصل الثاني في أثناء حفلة للمتفوقين المتخرجين من كلِّية التجارة والاقتصاد ببغداد، حيث نال منها الشهادة الجامعية في العام 1954؛ لم يدخل يومًا إلى فندق من ذوات النجوم الخمس؛ وكان يتفادى حضور الحفلات والولائم والمناسبات التي يُدعى إليها – ذلك أنه ليس من طبعه أن يعيش، ولو لهنيهات عابرات، في مظاهر البذخ والترف مادام هناك جياعٌ في هذا العالم!

منذ السبعينات، امتنع هادي العلوي عن تناول اللحوم، فصار نباتيًّا مثلما كان جده الأكبر المعري، الذي رأى فيه شاعرًا مبدئيًّا، أقرب إلى الفكر الفلسفي منه إلى الشعر، فسار على خطى المعري في ما قاله: "هذا جناه أبي عليَّ ولم أجنِ على أحد." فبدوره لم يجنِ العلوي على أحد! وعلى الرغم من ذلك، بقيت أم الحسن امرأةً طافحةً بالأمومة والحنان، تفيض كلماتُها بنبرة الوفاء الصادق؛ وحين تطغى على مشاعرها لوعةُ الغياب، تذرف دمعة ساخنة، تشعُّ عِبْرَها صفاءَ روح هادي العلوي ونقاءَ سريرته. فهي، إلى الآن، تتقيد بمبادئ الراحل وسلوكه وأخلاقياته، توقد الشموع على قبره في السيدة زينب (قرب دمشق)، وتهجس بأمل اللقاء الذي بدأ في الكرادة (إحدى ضواحي بغداد)...

حيث ولد هادي العلوي في العام 1932، وفتح عينيه على مكتبة جدِّه سلمان، العامرة بكتب التراث والفقه والتاريخ، فحفظ في تلك السنوات المبكرة القرآن الكريم ونهج البلاغة والكثير من قصائد الشعر العربي. وبعد تخرُّجه من كلِّية التجارة، سعى إلى النهل من التراث العربي والإسلامي باجتهاده الفردي. ومنذ بداية الخمسينات، ساهم في الحركة الوطنية العراقية، منفتحًا على المنهج والفكر الماركسيين، وأقام صلاتٍ وثيقةً مع الحركة الشيوعية. وفي منتصف السبعينات، خرج من العراق قسرًا إلى الصين، ولم يعد إليه حتى رحيله في دمشق، حيث مات ودُفِن.

لم يكن هادي العلوي ليعرف الاستقرار، بل إنه قضى حياته متنقلاً بين بلدان كثيرة: الصين، لبنان، قبرص، بريطانيا، سورية، باحثًا عن جذوة الفكر والإبداع. فكان يراقب ويقرأ ويستقرئ، مستفيدًا من تجربته الحياتية الثرَّة إلى أقصى حدٍّ، مثلما استفاد من كتب التراث في الحضارتين الإسلامية والصينية. وهو من المفكرين العرب القلائل الذين انفتحوا على التراث الزاخر لهذه الحضارة الأخيرة، في وقت كان فيه مثقفونا يتطلعون في شغف إلى تلقِّي علومهم في الأكاديميات الغربية، في لندن وواشنطن وباريس، وينظرون إلى تراث الشرق على أنه متخلف، مليء بالغيبيات والخرافات.

لكن العلوي – سليل الحضارات الشرقية العريقة – تصدى لهذه الإشكالية بكثير من الحرص والحذر، وأثبت أن تراث الشرق مفعم بالنزعة الإنسانية، ويحمل الكثير من القيم السامية والتجارب النضالية والأفكار الأصيلة، حيث أكَّد ذلك في مؤلَّفاته العديدة، التي أعادت "دار المدى" بدمشق طباعتَها من جديد.

           

لكنه لم يشأ أن يذهب هذا المذهب وكأنها مسلَّمة: ففي الغرب أيضًا ثمة ثقافة عميقة؛ لكن ينبغي التفريق – كما يقول – بين "الثقافة الغربية" و"الثقافة الحديثة": فالأولى تتضمن خطًّا ثقافيًّا متصلاً، من اليونان، فالرومان، فالعصور الوسطى، فعصر النهضة، حتى العصر الحديث، ينتظمه محورٌ تدور الثقافةُ عليه، وهو التملك الخاص وغريزة الربح، وتكمن جذوره في همجية الإغريق الإبادية (سلوكيات صولون في حروبه)، ثم همجية الرومان ("الغلادياتورية" وصراع الأسرى العزَّل مع الضواري في حلبات مقفلة داخل سيرك). والثقافة الغربية، ضمن هذا الخط حصرًا، غير مؤنْسَنَة، وهي التي تغذي التيار الساعي إلى الهيمنة على العالم في دوائر القرار الغربية، التي تفصح عن نفسها الآن بأكثر الصور وضوحًا عبر التهديدات والحشود العسكرية المحمومة في المنطقة. ويضيف العلوي موضحًا، منذ سنوات، ومقدِّمًا تفسيرًا لما يجري الآن:

لقد ورثت الرأسمالية الغربية تقاليد عداء راسخة للشرق الأوسط، وأدمجتْها في سياستها التوسعية التي تأخذ هنا منحاها المتميز عنها في أي جغرافيا أخرى. إن قانون الربح الأقصى الرأسمالي يتماهى في الشرق العربي حقدًا قروسطيًّا على التاريخ والحضارة والناس، حيث يصبح النهب الاقتصادي أداةً واحدةً في ماكنة مستعدة لإحراق السماء والبشر والمياه مادامت تنتمي إلى هذا العدوِّ الجغرافي.

والعلوي، في هذا السياق، ينتقد خط الاستشراق الذي ينطلق من هذه الأرضية – أرضية العداء للشرق – ويفنِّد مزاعم الكثير من المستشرقين بمنهج علميٍّ صارم، لا يصادر الرأي الآخر بقدر ما يسعى إلى تبيان الخطأ في ثناياه. ومثل هذا المنهج العلمي البحت هو الذي دفع المستعرب اللامع جاك بيرك إلى وصف العلوي بكونه أحد "أخطر المفكرين".

في المقابل، يرى العلوي خطًّا ثقافيًّا آخر في الغرب يناقض هذا التيار، وهي الثقافة الحديثة التي

نشأت في الغرب، لكن بنيتها العامة تختلف عن الثقافة الغربية بمفهومها الحاضر. فالثقافة الحديثة لها خطٌّ آخر ليس غربيًّا خالصًا، بل تُستمثَل فيه مصادر متعددة، كالرشدية اللاتينية، فلسفة الأحرار الأوربيين في أواخر العصور الوسطى وأوائل عصر النهضة. ومن روافد هذه الثقافة أيضًا الفكر الحر الوافد من العرب؛ ومن معالمها ثقافة غوته التي امتزجتْ فيها مسيحيةُ الأناجيل مع الأفق الشرقي المُرَوْحَن. ثم تأتي الماركسية، بثورتها الفكرية الشاملة والمنفتحة على ثقافات الأمم، في حركة انشقاق كبرى على خطِّ الثقافة الغربية، بمنهجَيها التدميري الصراعي والتجاري.

وهو، في إدانته للثقافة الغربية، لم يسكت عن عيوب الثقافة الشرقية في بعض الجوانب، ولم يرضَ أن يقف بعيدًا عن حلبة المماحكات والسِّجالات، على الرغم من انشغاله بأبحاثه ودراساته العلمية المعمَّقة. فكثيرًا ما انتقد العلوي المثقفين على نفاقهم وتملقهم للسلطة. وفي هذا السياق، أخرج شعر المديح من تاريخ الأدب العربي واعتبره "عارًا". وعلى الرغم من تقديره العميق لما قدَّمه أدونيس، نقدًا وإبداعًا، لكنه عارضَه في عبارته: "قل كلمةً وامضِ/ زِدْ سعة الأرض". فالعلوي يرى أنه يجب أن "تقول كلمتك" من دون أن تمضي، بل تناضل في سبيلها. ودعا، في سياق تكريس مفهوم المعارضة، إلى قطع العلاقة مع الدولة وأربابها، الذين هم – في عرف العلوي – "عماد الظلم".

لقد بدأ هذا الخطَّ المناوئ للسلطة، الذي عُرِفَ بـ"التصوف الاجتماعي"، كما يلاحظ العلوي، مع إبراهيم بن أدهم (القرن الثاني الهجري)، حيث بواكير التصوف، وتأوَّج مع البسطامي والحلاج وعبد الكريم الجيلي. والمبدأ الذي حَكَمَ هؤلاء هو قولهم: "التملك آفة الحرية، مثلما الأخذ من الغير آفة الكرامة." ومن هنا جسَّد العلوي في شخصيته أسلوب المثقف الكوني الذي "لا يملك شيئًا ولا يملكه شيء"، بتعبير المتصوفة. إن شرط "المثقف الكوني" الذي دعا إليه العلوي هو:

استقلاله عن المال والوجاهة والأحلام الشخصية بالمجد، وتمتُّعه بروحانية تميِّزه عن أهل الدين، يتجرَّد فيها عن اللذائذية والمَطالب الحسِّية.

ووفقًا لهذا التوصيف، يكون شرط المثقف عند هادي العلوي هو:

مناهضة الظلم، والعمل على إقامة العدل الاجتماعي، والنأي عن الحكام وعدم العمل معهم، والدفاع عن المستضعَفين من كلِّ جنس ودين، والاستقلالية القائمة على عدم حبِّ المال، والروحانية، أي التجرد عن اللذائذية.

وقد وجد في الفلسفة الصينية اتجاهاتٍ قريبةً من هذا المنحى هي فلسفة التاو (الحق)، المبثوثة في كتابات لاو تسُه وتشوانغ تسُه وكونفوشيوس وغيرهم. وهذه التقاطعات بين الفلسفتين الإسلامية والصينية هي التي دفعتْه إلى التعمق فيهما، لِمَا تختزنان من نزعة إنسانية نبيلة تنسجم مع تفكيره وتخاطب مشاعره وطموحاته، التي تجسَّد بعضٌ منها في "جمعية بغداد المشاعية" التي وضع لها أسُسًا نظرية تهدف إلى إعانة الفقراء واليتامى. وقد حققت هذه الجمعية عمليًّا بعض الأهداف الطموحة ومازالت قائمة.

وتنبغي هنا الإشارة إلى أن هذه النزعة الإنسانية التي تجسدت في سلوك العلوي نابعةٌ في الأساس من منبته الطبقي:

تأثرتُ طبقيًّا بوضعي العائلي لأني عانيت الفقر والجوع مع والدتي، مما غرس في وعيي الصغير كرهًا للأغنياء ولدولة الأغنياء، وصرت أبحث في مصادري الإسلامية عما يُشبِع هذه النزعة.

جدير بالذكر أيضًا أن العلوي كان يملك مشروعًا لغويًّا، يبحث من خلاله عن صيغة جديدة للُّغة العربية عِبْر دمج العامِّية مع الفصحى.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود