عبَادتي لكَ أنْ أمَارسَ حرِّيتي

 

وجيه قانصو

 

إلهي! اغفرْ لي هروبَ الكلمات منِّي كلما راودتْني نفسي بمناجاتك، على الرغم من وَفْرَتِها في مأثور الصلوات ومن سِحْرِ تراكيبها في إرشادات التقدُّس التي أحصتْ في سجلاتها هنيهاتِ الزمن كلَّها وصورَ الحياة كافة.

قد بتُّ ألملم، في لمعة وَجْدٍ، شتاتَ أفكاري، علَّها تيسِّر عروجيَ إلى عبق أنوارك، ورحتُ أنسج منثورَ قولي، علَّه يبني لروحي جسرًا إليك. فإذا بالأفكار تتساقط مسرعة إلى أرض النوم الخالي من الأحلام كأوراق خريف حَرَمَها الموتُ أنغامَ الفضاء؛ وإذا بالكلمات تتوجع من سياط سَجْعِها ومَلَلِ تكرارها، وتئن من فراغ معناها وضجيج صداها؛ وإذا بي أصحو على عتمة الوحدة الساكنة التي انقشع في ظلمة باطنها ألمُ الوحشة والاغتراب عنك، بل والجهل بك.

ذلك ربما لأنني عرفتُك بين الجموع، وتعودتُ أن أعبدك بين الحشود التي وهبتْني طاقةَ السعي إليك وأعارتْني لغةَ الاتصال بك، واستجمعتُ عِبْرها أحاسيسَ الخشوع والرجاء، وتقوَّيتُ بها على ملاحقة فلول الشكِّ في نفسي، لأدَعَ يقيني يتمدد فوق حقيقة الوجود والعالم.

لعل انشغالي بذكرك بين الناس هو الذي شَغَلَني عنك، ولعل ترداداتِ الذِّكر الكثيفة التي ملأتْ طبقاتِ الهواء قد خنقتِ الأصواتَ الضعيفة وقطعتْ خيوطَ نورك المتسلِّلة إلى الأبصار المتفردة.

لعل خشوعيَ لك لم يكن سوى خوف على مصيري بين أقراني، ورجائيَ لك سوى استجداء لقبولهم واعترافهم. ولعل طرديَ لشكوكي طردٌ لنظرائي الآخرين من مملكتك، ليصبح يقيني لذةَ استحواذٍ وأحاسيسَ تملُّكٍ أسدُّ بهما همَّ النقص وأعوِّض قلقَ النهايات الصامتة.

حتى إذا انشغلتِ الجموعُ عني وملأتِ الوحدةُ أبعادَ مكاني، تساقطتْ ذاتي قِطَعَ ملحٍ في بركة العدم، وذبل وهجُ القول داخل صقيع تفرُّدي، وتقطَّعتِ الأفكارُ صورًا اصطناعية، وتطايرتِ اللغةُ أشلاءً فوق حديقة الأشياء الخلفية.

إذ ذاك شددتُ يديَّ على بقاياي، وأخذت أقاوم تبعثُري. فإذا بمقاومتي تعجِّل في سقوطي إلى أرض اللامعنى، وإذا بقطعتي الأخيرة تتهاوى، ثم تتمدد طواعيةً لتسلِّم بلاحقيقة حقيقتها.

عرفت إذ ذاك أن معرفتي بك كانت حِرْزًا حاكتْه لي جدتي ليحميني من جنيات المطر التي مافتئت تنتهك ببريق ضوئها سكينةَ نومي الوادع، وموعظةَ كاهنٍ تستحضر مديونيتي لجميل رِزْقِك وتزرع في داخلي خوفَ الذنب ووجع التقصير، وحكاياتٍ ينشرها الملوكُ بين الناس عن قصة مجيئي إلى الوجود وقد أحناه ثقلُ العبودية لك، وفكرةَ واجبٍ رماها الحكماءُ في وجهي ومَشَوا لامبالين ليسدوا عليَّ سُبُلَ أناي الحرِّ وكينونة الذات. إذ ذاك عرفتُ أن جميع هؤلاء كانوا متآمرين مع سلاطين الأرض الذين يبنون عروشَهم من بقايا دُورِنا المهدَّمة، ويصنعون مجدَهم بالخوف ومنَّة الكرم وطقوس الانحناء.

إذ ذاك، في عماء وحدتي، التي انسدتْ فيها كلُّ الثقوب في وجه العيون المتجسِّسة، وهَزُلَ فيها سلطانُ الكلمات، وانزاح فيها الستارُ الخلفي عن لعبة المعنى، لتظهر كبهلوان يتقاذف الحقيقةَ بضحكة خبيثة – إذ ذاك عرفتُ أنك صنيعُ خوفي الدفين، وشعوري الدائم بالخطأ، والإحساس الخفي بالذنب، والطمأنينة بالاستلاب المريح؛ إذ ذاك انزاح الحجابُ عن جهلي بك، ولمعتْ في قلبي أولُ معرفة صادقة عنك: أنني لم أعرفك بعد!

إلهي! اجعلِ الكهوفَ المقفرةَ أبوابَ نورك، واحجبْ عن بصيرتي أضواءَ وسطائك، واجعلْ صمتيَ فيك أبلغَ من كلمات المدن المتبرجة، حتى أهجرَ أفكاريَ لأعيش لانهاياتك، فأرحلَ عنك لأصلَ إليك.

إلهي! خوفي منك حَرَمَني حبِّيَ لك، لأنني كلما خفتُك استهلكَني التملقُ لك، وتمنيت أن أخرج من مملكتك لأنجو بنفسي من سلطان رعبك. إلهي! خوفي منك حَجَبَ عني معرفتي بك. فاغفرْ لِيَ ذلك الخوف، وأعِنِّي على اختراق سطوته، وأبدِلْ به حبِّيَ لك، حتى أرى وجهَك دون جبروت. إلهي! علِّمْني أن أخافك باختياري ورغبتي، لأتحسس من دون ذِلَّة معنى عظمتك. بل علِّمْني، يا إلهي، أن لا أخافَك، حتى أُقبِلَ إليك في شوق، وأنتشي بنسيم السَّفَر إليك، وألقي نفسي بفرحٍ وطمأنينةٍ على جدران بابك.

إلهي! كلما خافك الناسُ كثرتْ سلاطينُ الرعب في الأرض، ومات الضعفاءُ جوعًا، وسالتْ دماءُ الأحرار. إلهي! أعتِقْنا من عبوديتنا، وأيقظِ الألوهةَ التي زرعتَها فينا وباهيتَ بها فينا ملائكتَك. علِّمْنا، يا إلهي، أن نكون آلهة، حتى نرحم ونغفر ونسامح ونحبَّ مثلك. فنحن مازلنا لا نعرف كيف نرحم ونغفر ونسامح ونحب، لأننا مازلنا عبيدًا، تظلِّلنا غمامةُ العدم، ويُغيظنا الفرح، وتُرعِبنا السعادة، ويقزِّزنا العطاء، ويُمرِضُنا الحب، وتقتلنا الحرية. اجعلْ أرضَك، يا إلهي، مملكةَ الآلهة، واطردْ منها عبيدَك، حتى تعجَّ الأرضُ بفرحها إلى حدِّ الاختناق، لتعود في كلِّ مرة محملةً بحياة جديدة ومنهمكةً بعرس جديد.

إلهي! لا تعصمْني من الخطأ. فكلما عصمتَني تملكتْني رغبةٌ حمقاء في أن أعزلك عن عرشك وأحلَّ مكانك. علِّمْني، يا إلهي، أن أخطئ كي لا أسكنَ في بروج الرمال، وكي تمزِّقَ شوكةُ الصحراء البرية ورودَ السراب المتكاثفة حواليَّ. اجعلْني، يا رب، أشكرك على خطئي لأنه حبَّبَ الصوابَ إلى قلبي، ولأنه أخرجَ معرفتي بك من رتابة اليقين إلى متعة تكرار النظر في وجهك.

ساعدْني، يا رب، أن أجاهر بخطئي كي أنزعَ عن وجهي قناعَ العيب، وأُخرِجَ يديَّ المشوهتين من صدري لألعب بهما مع أطفال الأزقة، غير عابئٍ بأعين السفهاء، وأحررَ قدميَّ من اقتفاء الآثار المندملة في الوحول، حتى أرقصَ بهما نحو أمكنة اللااتجاه البعيدة عن الضوء، الخالية من الطرقات المعبدة.

إلهي! لا تُباعِدْ بيني وبين خطيئتي حتى لا أفقدَ لذةَ التوبة إليك ولا أُحرَمَ بكاءَ المشتاقين إلى قُرْبِك. إلهي! اقبلْ مني اليسيرَ من العبادة حتى لا أشعرَ بالملل حين أُقبِلُ عليك. إلهي! اجعلْ طاعتي لك من غير ثواب كي لا يلهيني الفرحُ بثوابك عن الوَلَه بجمالك، ولا تخصَّني بالقرب منك كي لا أتعالى عن العاصين من خَلقِك.

إلهي! اجعلْ شكِّيَ وسيلةً إلى معرفتك حتى لا تستنفذَ كلُّ الأجوبة الجاهزة طاقةَ سؤالي القَلِقَ حولك، وحتى لا أشبعَ من الهيام في البحث عنك والكدح إليك، وحتى أستبدلَ بصوري المؤطَّرة عنك خياليَ الطليقَ فيك.

إلهي! اجعلْ تعرجاتِ الجبال الوعرةَ التي لفَّ ضُبابُ المجهول نتوءاتِها الخطرةَ طريقًا إليك، حتى لا يصعدَ إليك إلا مَن قَبِلَ رهانَ المخاطرة وغامَرَ بوجوده كلِّه من أجل البحث عن حقيقتك.

إلهي! اجعلِ السعيَ إليك خَطِرًا، والارتحالَ عن أمكنة الدفء شرطًا لولوج نورك، وأثمانَ الوصول إليك باهظةً، كي لا تعودَ، يا إلهي، مُلكًا نورِّثه لأبنائنا، وكي يُطهَّرَ اسمُك من أفواه المرائين النجسة.

إلهي! عرفتُك حين عرفتُ نفسي، ووجدتُك حين تركتَ لي الخيار في أن أعترف بك، وتعلقتُ بك حين عيَّرتْني الملائكةُ بخطيئتي، فأمرتَهم بالسجود لي، وأحببتُك حين قابلتَ التماديَ في معصيتك بتماديك في المغفرة.

لعلك، يا إلهي، لم تخلقْني لأعبدك، بل خلقتَني لأكون حرًّا. أو لعلك جعلتَ عبادتيَ الخالصةَ لك في أن أمارس حرِّيتي بحرية.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود