|
وداعًا، إسكندرية كفافيس
[...] وودِّعْها، ودِّعْ الإسكندرية التي تفقدها. ك.پ. كفافيس
1. الأسواق: في أثر "ريَّا وسكينة" من الطائرة المحوِّمة فوق القاهرة كان من الممكن استجلاءُ المشهد المترامي تحتنا والمتبدِّي ككثيب أحمرَ، ما لبث، هنيهة إثر هنيهة، أن كشف عن حاصله وسرِّه: بيداء ملغزة، هباء منثور، خلاء موشَّى بنقط بنية مائلة إلى الحمرة، ككلِّ شيء في هذا المشهد الربيعيِّ المذاب في صفرة ذهبية، مزيفة كنحاس الكيميائيِّ – صفرة الشمس التي تسرِّح الريح بأناملها: هي ذي إفريقية، القارة السمراء حدَّ البرونز، التي ألتقيها لأول مرة في عمر أسفاري النادرة – أنا القادم من تخوم آسيا والمقيم دهرًا في أقصى صقيع أوروبا. مطارُ القاهرة خلية نحل نشطة ومنتظمة: موظفون خفيفو المحمل، وشرطيون غاية في التهذيب مع مَن تلوح العجمةُ في سحناتهم أو هيئاتهم – لولا أن السائقين المرائين قد أفسدوا المشهد بتزاحمهم علينا أمام المرآب الخارجي، الواسع، المفتوح على حرِّ أيار – هؤلاء السائقون الواجدون رزقهم في حمأة من المساءلة والمفاصلة، الراطنون بمفردات من لغات لا يدري إلا الله أصولَها، المتداخلة في مشيئة لهجتهم المصرية المحببة. هكذا، وبعد جدل "دولاري"، أقنعنا أحدُ الأدلاء بنعمة ركوب السيارة من المطار رأسًا إلى محروسة الإسكندرية، ميمِّمين جهة الطريق "الزراعي"، الحافل بزحمة من المركبات والحافلات والمقطورات. ولم أدرِ لحظتئذٍ أننا على موعد مع رحلة مشؤومة، موعودة بمخاطر الطريق السريعة، حيث موتٌ موشكٌ في كلِّ انعطافة، وكلُّ فرملة رميةٌ في الآخرة! كنت منزويًا في المقعد الخلفي، وعيناي القلقتان لا تحيدان عن الدرب المغامر إلا لكي تهمزا عيني السائق، اليقظتين واللامباليتين في آن: رجل في أواسط العمر، رأسه الضخم بحجم جسمه، أسمر بلون مائل إلى لون تربة القرية التي ربما لفظتْه فتًى إلى إسمنت المدينة الكبيرة؛ رجل ضخم بسيجارة مشتعلة دومًا على طرف فيه ذي التكشيرة المركَّبة، المدَّعية الأنس أحيانًا، مع تمتمات أجشة مخنوقة بالسعال. كان لا بدَّ أن يذكِّرني هذا الرجل بمُواطِنه القديم: حسب الله – الشقي الذي نكَّد طفولتَنا بإطلالته الفظة وزوجته المرعبة، عِبْر الشاشة الفضية الصغيرة، كما جسَّده الدور المنوط بهما في فيلم ريا وسكينة: وعلى حين فجأة، تناهى إلى ذاكرتي المشوَّشة بقلق الطريق أن حكاية هذا الفيلم، الحقيقية، إنما دارت يومًا فصولاً داميةً في المدينة التي تتجه نحوها مركبةُ الهلاك الذي يمتطينا: الإسكندرية! ثمة أسطورة إغريقية طريفة تزعمُ أن الإسكندر الأكبر، الذي منحَ اسمَه المكلَّل بالغار لهذه المدينة المتوسطية، قد وُلِدَ وسيمًا كإله، لولا عيبٌ ظاهرٌ فيه: أن أذنا حمار تنتصبان من رأسه الحكيم! وتتابع أسطورتنا أن الفتى الوسيم كإله أخفى عيبه بقرنَي أيِّل، حتى غلبَ عليه في شرقنا لقبُ "ذي القرنين" الذي عرَّف به القرآنُ جمهرته من المؤمنين. وتقول الأسطورة نفسها أن وزير الإسكندر قد عرف السرَّ واؤتُمِنَ على حفظه عن أيِّ بشر. فما كان من الإغريقيِّ الحافظ للسرِّ إلا أن ذهَلَ عنه يومًا في حضرة ساقية سلسبيل، ما لبثت بدورها أن باحت به إلى أخواتها، حيث ما برحن يثغثغن بالسرِّ الملكيِّ "الحماريِّ" إلى يومنا هذا، أو بالأحرى إلى عصر ذلك اليوم الربيعي، المودي بنا طريقه إلى عروس الساحل الإفريقي: الطريق الزراعي المبثوثة حوله عشرات السواقي، المتلوية كأفاعٍ خضر، والمتناهية من خرير مياههن أصوات مبهمة، مشتتة، متهامسة بوجل: "الملك له أذنا حمار... حمااااااار!" مدخل مدينة الإسكندرية، المصمَّم كبوابة قلعة قروسطية، يكاد طرازه المستحدث، المبهرج في أبهة كاذبة، ألا يخدع العابر بقنطرته المزخرفة، حيث نجتاز بعدها مباشرة جدارًا مزينًا بلوحة من الفسيفساء لا تقل بهرجة، مثلت رجالاً ونساء كرموز للمدينة: وهي غير لوحة الفنان الكبير ناجي المسماة "مدرسة الإسكندرية" – اللوحة الشهيرة التي أحْيَتْ حضارةَ الإغريق القديمة ممثَّلة في الهلِّنستية، بأشخاصها التاريخيين، كأنطونيو وكليوپاترا، فضلاً عن شاعرها الفذ المعاصر قسطنطينوس كفافيس، مرورًا بحضارة بيزنطة المسيحية، حتى الحضارة الإسلامية وعصر النهضة. إنها الإسكندرية، حاضرة العالم القديم الكبرى، بأجناسها المتنوعة، كما جسَّدها ابنُها كفافيس في إحدى قصائده[1]: كنا خليطًا هنا – سوريين، أغارقة، أرامنة، ميديين. وريمون من هذا الصنف كذلك. ولكن بالأمس، حين أضاء وجهَه العشقيَّ القمرُ، ذهب بنا الخاطرُ إلى خارميديس الأفلاطوني. [من "في مدينة أُسرُوين"، 60، 1917] لم أكن أدري، يومئذٍ، أن فندق "سيسيل"، المحجوزة بعض غرفه الأثرية لبعثتنا السويدية، هو الفندق ذاته الذي مررت باسمه عابرًا لدى قراءتي رواية لورنس داريل الملحمية رباعية الإسكندرية. كان هذا النَّزْل الفخم أيضًا مكانًا أثيرًا إلى الكثير من الأدباء والمشاهير الذين مروا بهذه المدينة. إنه قصر يوناني عتيق الطراز، لا يختلف كثيرًا في مظهره الخارجي عن الكثير من أمثاله من الأبنية في الحيِّ اليوناني القديم التي تتراصف في دَعَة على الجهة المقابلة لـ"الكورنيش"، روح الساحل الإسكندراني، الأكثر ازدحامًا مساءً بالخلق حتى ساعة متأخرة من الليل. وبدا من حسن حظي، للوهلة الأولى، أن باب شرفة الغرفة مطلٌّ على هذا الكورنيش الساحر، بأضوائه وأنسه – لولا أن ضوضاء عرباته ومركباته وحافلاته ودراجاته النارية أحالت ليليَ إلى أرق معذِّب! وكان من الممكن تجنب هذا الصخب، وذلك بإحكام رتج باب الشرفة؛ إلا أنه بدا من المحال تحمل حرِّ الساحل الرطب الخانق. على أن ذلك المساء الأول لم يألُ جهدًا في الترويح عن ضيفه. إثر الحمام وتغيير ملابسي، هرعت إلى الخارج، قاصدًا تلك الساحة المتبدية من شرفتي، وهي المسماة "ميدان المنشية"، أين تمثال سعد زغلول المهيب يتسامق فوق أشجار الحديقة الصغيرة، التي أيضًا، بدورها، قد أدخلت تحت رقِّها خلائطَ من البشر – وأكثرهم عائلات محافظة تبتغي النزهة، إلى فتية يرومون التنفيس عن دواخلهم السجينة داخل الجوِّ المحافظ إياه، وحتى المشردين المُطْرِقين برؤوسهم في صمت يليق بصاحب التمثال، المحافظ الوقور. ومن "المنشية" تحولتُ نحو اليمين إلى الجهة المؤدية إلى شارع "رشيد"، القديم والتجاري، الأكثر ازدحامًا والمزمَّل بالمتاجر والحوانيت المتنوعة، وأغلبها متخَم ببضائع استهلاكية يتهافت عليها الشباب بمحض مشيئة بؤسهم البادي للناظر – البؤس الذي لا يدانيه سوى مشهد المشردين الرث، الخَلِق، المشرَّع على عين الخالق. الليل يتكاثف، والحرارة اللاهبة تتلطف بنا نوعًا. بيد أن الزحام لا يبدو لائقًا بهذه الأرصفة المتخلخلة التي يتماوج فوقها بحرٌ من البشر من كلِّ المشارب والأزياء واللهجات، ولا بتلك الشوارع الضيقة في أغلب الأحيان، أين راكبو العربات والمشاؤون في نزاع وخصام وإشارات مهدِّدة متوعدة، تصل أحيانًا إلى المشادة. أهرب من الشوارع المتخاصمة إلى هدوء الحواري الجانبية، المُنارة بمصابيح الدكاكين والمقاهي والمطاعم. ها هي ذي رائحة "الفلافل" المميزة تتلبس الفضاء العابق بأريج النراجيل المحبب. فلأعطفنَّ، إذًا، إلى تلك "البسطة" التابعة لمقهى أو مطعم – أو سمِّه ما شئت! الخيبة تتلبَّسني! فهذه الأكلة المسماة عند المصريين "طعمية" لا علاقة لها بـ"فلافل" بلاد الشام الشهية – خيبة ستكبر هنا، وفي كلِّ يوم يأتيك بمطالب المعدة الخاوية. ها أنت ذا تكتشف أن لا تقاليد للطبخ لدى المصريين – والمطبخ فنٌّ، كما تعرفه، وإتقان وذوق وحذق. عليك، والحالة هذه، بالوجبات السريعة، الأمريكية، التي غيَّر أصحابُها هويتَها إكرامًا لمشاعر الشعب الأبيِّ وغيرته على عراق الطاغية – المشاعر التي كانت، بعد أقل من شهر على انتهاء الأعمال الحربية، ما انفكت مصدومة بعنف وَقْع تسليم بغداد المذل. من الشارع التجاري، تتسلَّل خطاي إلى أسواق مفتوحة على أخرى. مدفوعًا برغبة خفية نحو المجهول، أجدني خائضًا اللجة البشرية – وعند كلِّ منعطف سائلٌ يستعطيك، وأمام كلِّ دكان صبيٌّ يشدك شدًّا إلى الداخل. هناك، حيث "المعلم"، غالبًا، مشغول عن رزقه بتأمل قوام زبونة مليحة، تتأمل بدورها نفائس القماش المموجة الألوان والمناديل الحريرية وغيرها، فيما النرجيلة تقرقر لهيب الجمرة المنتعظة في مستقرِّها. الأساور والأقراط والخواتم الذهبية المرصِّعة سمرةَ هذه الحسناء يشعشع بريقُها في الأماكن العتمة، السحيقة القِدَم في ذاكرتي – الذاكرة المترجِّعة صورًا، أو أشباحًا مصوَّرة ربما، لامرأتين متناكبتين، عليهما ملبسُ القرويات الأسود، المتماهي مع نقاب نساء المدينة، الحاجب للجزء الرئيسي من الوجه، ماعدا العينين: الشقيقتين ريا وسكينة! هما "أسطورة" أخرى، أكثر دموية، لهذه المدينة، في حيِّها "العربي" بالذات، المنسيِّ بناسه المدقعي الفقر، الذين يعودون غالبًا إلى أصول قروية وصعيدية، اضطرتْهم ظروفٌ قاهرة للتخلِّي عن أرضهم والنزوح إلى إسكندرية "الأكابر"، من مسلمين وقبط، و"الخواجات"، من يونان وطليان وسوريين وأرمن ويهود وغيرهم. الأسطورة التي استحضرَها فيلمُ الطفولة بالأبيض والأسود، وجدتْ أيضًا ترجيعًا لها في الصبا من خلال مسرحية كوميدية رسَّختْ، بملحميَّتها وروعة أداء ممثليها، تلك الصور المحفورة في الذاكرة. لقد سبق لي أن عرفت، في وقت ما، عن طريق المصادفة كذلك، أن كاتب سيناريو ذلك الفيلم لم يكن سوى الأديب الكبير نجيب محفوظ – وكان في بداية تعاوُنه مع المخرج الواقعي المعروف صلاح أبو سيف. والسؤال المحيِّر هو: كيف لواقعة كبيرة، كحكاية ريا وسكينة، التي هزت المجتمع المصري في أربعينيات القرن المنصرم، ألا تلهم محفوظًا بعمل روائي – وهو مَن كتب اللص والكلاب متأثرًا بواقعة أقل إبهارًا عُرِفَتْ باسم "سفَّاح الإسكندرية"؟! أيًّا كان التعليل، فقد أمدَّ مرأى تلك الصبية الحلوة ذاكرتي بخيوط مضيئة، موصلة إلى الطفولة ومكنوناتها الحميمة – الطفولة التي صدمني في تلك الليلة مشهدٌ من أكثر مشاهدها المصرية إيلامًا: أخوة ثلاثة، متهالكون بعضهم على بعض، كُبْراهم لم تكد تجتز بعد سنتَها العاشرة، وهم نيام شبه عراة بأسمال مهلهلة لا تدفئ من برد الليل الربيعي القارس، يستجلبون الحرارة للجسم الغضِّ بذلك التلاحم الغريزي، أو ربما بأحلام أكثر دفئًا – أحلام طفولة مهدورة. كنا في تلك الساعة المتأخرة من الليل قد دلفنا إلى رصيف الكورنيش، متخمين من عشاء فاخر من السمك المشوي، في أكثر مطاعم الشاطئ رقيًّا، تشهد له تلك الصور المتواترة في الرواق الخاصة بزبائن من مشاهير الجاه والسياسة والفن و... قال لي المشرف السويدي على جماعتنا: "أعيش هنا في الإسكندرية منذ حوالى السنة، وكل يوم أزداد إحباطًا!" – الإسكندرية، مدينة الثقافات المتنوعة التي اندثرت جميعًا في الحلكة التي غَشِيَتْها مع زحف الريف التدريجي على مدنيتها، حتى غمرتْها تمامًا إثر انقلاب الضباط "الأحرار" الذين خنقوا حرية البلاد – إسكندرية كفافيس، مدينة المجون والمحافظة، مدينة المتناقضات الصارخة: [...] يا مسافر، إن كنتَ سكندريًّا، فلن تؤاخِذ، وأنت العارف غلواءَ حياتنا هنا – أي لهيب هو لهيبها – أية شهوة فائقة! [من "قبر ياسيس"، 67، 1917] 2. الأرصفة: على إيقاع خُطى الشاعر ككلِّ مراكز المدن الكبيرة، الصخبُ هو العلامة الأولى على طلوع الفجر – العلامة التي افتقدتُها طوال الخمسة عشر عامًا المديدة من وجودي في مدينة أوپسالا السويدية الصغيرة. وها أنا ذا هنا، للمرة الأولى بعد هذه الأعوام الجليدية، – هنا في الشرق مرة أخرى، تحت شمس المتوسط اللاهبة، وفي المدينة التي عَشِقَها شاعري الأثير، الإغريقي كفافيس. هنا في الإسكندرية المحروسة، وفي فندق "سيسيل" الأثري، في الطابق الثالث منه، أين حجرتي الواسعة، الفارهة، التي ربما استقبلتْ يومًا كاتبي المفضل لورنس داريل – الروائي المُدينة له هذه المَدينة أيضًا بخلودها من خلال رباعيته عنها. ها أنا ذا أتمطى، متكاسلاً وحيويًّا في آنٍ، متلهفًا إلى الخوض في نهار هذه الحاضرة العجيبة، بعدما حظيتْ خطاي بمؤالفة ليلها – الليل الذي اعتاد أن يمضي إليه شاعرُ المدينة الإغريقي، باحثًا خلاله عن متعته: [...] مضيتُ في الليل المُضاء. وشربتُ من خمور قوية، كالتي يشربها رجالُ المتعة الأشداء. [من "مضيت"، 41، 1913] أشرعتُ ضلفة باب الشرفة الخشبيِّ الثقيل بعد مجاهدة مع حديده الفظ، مستبينًا في حبور طفوليٍّ الأفقَ الأزرقَ، اللازورديَّ، للبحر الصباحي، لأمواجه الراغية المزبدة، وهي تتناهى إلى منتهاها الأبدي على الأقدام الصخرية لشاطئ الإسكندرية – الشاطئ الذي أنشدَه فنانُ المدينة الأشهر، سيد درويش، أغنيةً لا تقل شهرة عن صاحبها العبقري: شط إسكندرية، يا شط الهوى! من موقفي على الشرفة العريضة الحجرية ذات الإفريز الإغريقي، ألقيتُ النظرة الأولى على منبلج صبح المدينة الصاحية، المبكِّرة لاحتضان أولادها "الصنايعية"، الملتخين سهرًا وسمرًا، كما هو شائعٌ عن أهل الإسكندرية منذ الأزمنة الباكرة، حيث نوَّه الرحالة الأندلسي ابن جبير بخصلة الأهالي هذه بقوله في تذكرته البديعة عن رحلته الشرقية: ومن الغريب أيضًا في أحوال هذا البلد تصرُّف الناس فيه بالليل كتصرفهم بالنهار في جميع أحوالهم.[2] وهي الملاحظة ذاتها التي استوقفتْني في الليلة المنصرمة، حينما لم أرَ داعيًا من أمر عجلتي إلى الفندق، مادام الخلقُ في شاغل عن الفجر الزاحف بما بين أيديهم من أشغال في المتاجر المُنارة أو من وسائل التسلية في المقاهي الساهرة على صوت "كوكب الشرق" الصادح. هي ذي الشمس، على أية حال، تواكب بأشعتها المذهبة الموكبَ الشعبي، الهادرَ بوقع أقدامه على الأرصفة البازلتية الخالية من نعمة الأناقة – الموكبَ الذي ما يلبث أفرادُه أن يتشتتوا في توابع الدروب أو في محطات الحافلات البائسة، المهملة من روادها المتداخلين مع الطريق السريعة الخطرة الموازية للـ"كورنيش"، في انتظار شبه انتحاريٍّ، أصم عن مزامير السيارات الصاروخية ذات الأجنحة، لامبالٍ بتلويحات سائقيها الرعناء، حالهم في ذلك حال تلك الأمواج البحرية غير المكترثة بانتحارها على صخور الشاطئ. أهو البحر الصباحي الشاعري الغابر ذاته الذي أنشده كفافيس، شاعر المدينة الخالد: فلأقف هنا. ولأنظر أنا أيضًا إلى الطبيعة قليلاً. بحر صباحي وسماء صافية زرقتهما مؤتلقة، وشاطئ أصفر – والكل بديع وشديد الضياء. [من "بحر الصباح"، 51، 1915] تخلَّلتْ وجبةَ الإفطار في مطعم النزل عباراتُ التعارف والمجاملة مع بقية أفراد مجموعتنا، الواصلين تباعًا للاشتراك في حلقة الترجمة الخاصة بالشاعر السويدي الصوفيِّ غونار إيكيلوف، التي كان من المقرر أن تُستهَلَّ في صباح اليوم التالي في المعهد السويدي بالمدينة. كان ثمة متسع من الوقت لحين موعد الغداء الذي سيضم مجموعتنا مرة أخرى. فانتهزت ذلك للمضيِّ في رحلتي، جوالاً عبر مجاهل المدينة الملغزة. في وجهتي نحو الشارع الرئيسي – "طريق الحرية" – اجتزتُ ساحة "المنشية" شبه المقفرة من الخلق في هذه الساعة من الصباح – اللهم غير عمال البلدية المنهمكين في العناية بالمكان وفي جعله لائقًا بروح الإسكندرية، حاضرتهم التي زهت على أخواتها من المدن الأخرى باختيارها ذلك العام كـ"أنظف مدينة عربية"! حي "كوم الدكة" الشعبي، في وقتنا الراهن على الأقل، كان فيما مضى حيًّا أوروبيًّا راقيًا، تغلب على قاطنيه الأصولُ اليونانية. لا يبعد هذا الحي عن الفندق الذي أنزل فيه؛ بل هو من القرب بمكان من الكورنيش البحريِّ، ومعظم جاداته تفضي إليه. صار من النادر أن تلمح وجه رجل أبيض في هذه الشوارع الأنيقة، على الرغم من أن عمارات الحيِّ البيضاء، الأوروبية الطراز، تشي بحضوره الغائب. لن تحظى هنا سوى بمرأى الجموع السمر المتدفقة زرافات زرافات إلى أعمالها ومنها – الجموع المتحدرة في معظمها من مشارب قروية، صعيدية بوجه خاص. ويبدو أن هذا الحي، الغربيَّ في تصميمه وروحه، بقي غريبًا عن سكانه الأحدث عهدًا: فالعشوائية في البناء غير المرخص في أسطح الدور العليا واضحة للعيان، فضلاً عن رثاثة ظاهرة في الشرفات وجدرانها المتساقطة ألوانها والهوائيات المتنافرة كأشباح من كلِّ حدب وصوب، إلى حبال الغسيل التي يتلاعب الريح بأسمالها، وحتى سواد السخام، من أثر الطبخ، المطبوع على أسقف الحجرات – هذا كله يتبدى للمارِّ تحت النوافذ المشرعة على الغبار والضوضاء: الحي الأوروبي، الذي أقام شاعرنا كفافيس في إحدى عماراته فترة طويلة من سنيه الأخيرة، أضحى الآن بمثابة ضاحية، أو أشبه بحزام فقر، لأولئك القادمين من الأرياف. لحسن طالعي، فقد ضمَّت حلقتُنا الدراسية شابًّا قادمًا من اليونان. كان شاعرًا وصحفيًّا ومختصًّا في ترجمة إيكيلوف إلى لغته الإغريقية. تعرفنا إليه ذلك اليوم في أثناء الغداء الذي حضرتْه أيضًا صديقتُه المقيمة معه في فندق "سيسيل"، وهي مخرجة معروفة في بلاد هوميروس، كما قدَّموها لنا. خلال الدردشة التي أعقبت الغداء فوجئتُ بأن هذه الصبية، الجميلة حقًّا والخفيفة الظل، قد حضرتْ خصيصًا مع صديقها الشاعر من أجل إخراج فيلم وثائقيٍّ عن كفافيس؛ وعلمتُ أيضًا من رئيس بعثتنا، السويدي، الذي كان يتكلم معهما بالإنكليزية، أنهما في صدد زيارة المنزل الذي أقام فيه الشاعر في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة من حياته. وقد أبدى العديد منا – نحن الحضور – حماسةً في مرافقتهما خلال الزيارة المرتقبة، واخترنا لها يومًا محددًا آخر.
طابع بريدي يوناني صادر في العام 1983 يحمل صورة قسطنطينوس كفافيس (1863-1933). في ظهيرة اليوم الموعود، كانت الشمس متوهجة فوقنا تغزل للبحر، من خيوطها الذهبية، غلالةً موشاة، غلالةً مظلَّلة أيضًا بفضة السحب العابرة. الكورنيش تحتنا في رخاء هدوء غير مألوف. مجموعتنا معتكفة الآن على سطح المعهد السويدي المطلِّ مباشرة على مشهد البحر وشاطئه وكورنيشه، مغتنمة فرصة القيلولة، في استعداد للتوجه إلى بيت شاعر المدينة. نهمُّ بالانطلاق، فيلفتني منظرُ زميلنا الشاعر التركي، المسنِّ نوعًا، وقد استغرق بلا مبالاة فوق كرسي الخيزران المضفور بأناقة أنتيكية. ألتفتُ إلى زميلنا الآخر، الكاتب الكردي، مستفهمًا عن أمر الرجل، فيهمس في أذني: "إنه تركي، على أية حال، ولا يرغب في زيارة كهذه!" هكذا ننطلق من دون حفيد أرطغرل الأول، ميمِّمين وجهتنا صوب الحيِّ الأوروبي القديم، مجتازين جاداتٍ جانبية صاعدةً من الكورنيش، أنيقة المنظر وكئيبته في الوقت نفسه، – جادات ما برح يفوح منها عبقُ المجد القديم المندثر، رغم ما يطغى عليه من روائح مختلفة لبيئة أكثر جدة وأقل تمدنًا. في طريقنا نمر بدكان أثريٍّ، له صيت على ما يبدو، يقدم لزبائنه القهوة المهيَّلة بتقليد يتناسب مع المكان وتاريخه التليد. أبعد منه قليلاً، يقع أحد أكبر كُنُس اليهود في الإسكندرية، وهو عظيم العمارة، وزخارفه مزيج من البيزنطية والطليانية والأندلسية. أمام بوابة هذا المعبد الموصد كانت هناك كتيبة مدججة من الجند، شاكي السلاح في حركة استعراضية على الأرجح، أكثر منها احتياطية لعمل إرهابيٍّ محتمل، كردِّ فعل على حرب تحرير العراق من طاغيته ذي الشعبية المعلنة في بلاد الفراعنة!
العمارة التي كان يقطن فيها كفافيس في الإسكندرية. كان زميلنا اليونانيُّ دليلنا إلى منزل مُواطِنه كفافيس. ثمة في أقصى جادة "شرم الشيخ" تقوم عمارة مهيبة، ذات لون أبيض ناصع، إغريقية الهندسة، كما يبدو من عضائدها الخارجية وأفاريز مدخلها ونقوشه. لا تظهر للبناء سوى شرفة واحدة فارهة تحتل أوسط الطابق الثالث: "هناك كان يقيم كفافيس"، يشير دليلنا اليوناني إلى تلك الشرفة، المتوحِّدة كصاحبها الأصليِّ. على جدار المدخل الرئيسي، ثمة لوحة كُتِبَ عليها، باليونانية والإنكليزية، ما يشير إلى أن شقة كفافيس تلك سبق أن تملكتْها القنصلية اليونانية في المدينة وحوَّلتْها إلى متحف. نرتقي إلى وجهتنا المنشودة عِبْر سلم رخاميٍّ نظيف ومغسول للتو. باب الشقة الخشبي، بلونه الحائل، مافتئ، على ما يبدو، يحمل لمسات ساكنه القديم. يستقبلنا عند البهو المعتم دليلٌ آخر من أهل البلد، انبرى إلينا فورًا كخبير في آثار الشاعر، دون أن ينسى عرض كتب وكتالوغات وصور تذكارية مخصصة للبيع. دفعتُ للرجل الثرثار أولاً ثمن قسيمة الدخول إلى "المتحف"، ثم اشتريت كتابًا لمختصٍّ مصري ترجم فيه إلى العربية أعمال كفافيس الشعرية عن اليونانية مباشرة. الشقة مكونة من حجرات مفتوحة بعضها على بعض، يتناثر فيها أثاثٌ غاية في القدم، مقتصد وبسيط. على الجدران لوحات بالحبر الصيني بريشة كفافيس، بعضها يصوِّر رجالاً عراة بطريقة الهاوي الذي يعتمد على حضور المخيلة لا الموديل.
اسكتش لكفافيس بقلم الرصاص لألكسندروس إيساريس. ثمة أيضًا في الصالون وحجرة النوم صور شخصية وعائلية قليلة نادرة. سألتقي ثانية، في مكتبة الإسكندرية الشهيرة، بأشياء أخرى شخصية تخص شاعرنا: عكازه، غليونه، مفكرته، سبحته، وغير ذلك، موضوعةً داخل صندوق زجاجيٍّ حافظ، جنبًا إلى جنب مع متاع عائد للكاتب لورنس داريل.
من أشياء كافافيس الشخصية: بطاقة دخول مؤقتة باسمه إلى "البورصة الخديوية"، مؤرخة في 18 شباط 1886، بصفته مراسلاً لجريدة الـTélégraphe. روح الشاعر، المنطلقة إلى بارئها منذ اثنين وسبعين عامًا بالتمام (1933)، لم تبرح هذا البيت الذي أحبه – وكان نادرًا ما يغادره لفترة مطوَّلة – البيت الكئيب للغاية، بشيوع الظلمة في أركانه وزواياه وحجراته جميعًا – اللهم إلا بصيص شموع خافتة، شموع أُنيبَ بها عن المصابيح الكهربائية. هذا الشعور بالعزلة والكآبة والضياع أحسَّ به، على ما يبدو، كل من كان له حظُّ المثول في حضرة الشاعر. وها هي ذي إحدى معاصراته اليونانيات – وهي شاعرة قادمة من موطن أجداده الأصليِّ – تنقل لنا انطباعها عن لقاء كفافيس: [...] عندما دخلت غرفة استقباله، كان الضوء خافتًا، شحيحًا. كان يحب الضوء الخافت – ضوء شمعة أو مصباح غازي – ولا يستخدم الكهرباء. ولما ألفت عيناي الظلمة، رحت أتأمل كفافيس: كان نحيفًا، شاحب اللون، حسير البصر، أشعث الشعر، وأنيق الملبس. على وجهه مسحة من الحزن، وفي عينيه جاذبية عميقة. تلمع في نظراته أسرارٌ قديمة، ويأتي صوته من بعيد، من أغوار الزمن السحيق. [...] ولما ودعتُه وانصرفت، أضحيت، وأنا أنزل الدرج الرخاميَّ، غير متأكدة من لقائه والجلوس إليه. خيل إليَّ أن كلَّ شيء كان في المنام: صوته وشكله ولقاؤه كان أشبه بحلم ولَّى.[3] لقد انتابني، إلى هذا الحدِّ أو ذاك، شعورٌ مماثل، من ناحية الإحساس بوهم الحضور وغرابته وغموضه وسرَّانيته. بيد أنني عدتُ مرات كثيرة – خرافية أو واقعية، سيَّان – إلى تلك الشقة التي أقام بها شاعري الأقرب إليَّ من الآخرين، الغاوين، المفضلين لديَّ: الشاعر الذي يذكِّرني دومًا بنفسي، بما يجمع بيننا من الانتماء إلى بيئة غريبة، من قَدَر الهجرة من جيل إلى آخر، ومن شعور التأصُّل والاغتراب في آن؛ وأيضًا – وبشكل أخص – العزلة والحنين إلى ماضي طفولة ماثلة أو وجاهة سلالية أو هوية ضائعة خلال أوابد غابرة. مازلت أرى كفافيس في حجرة نومه الضيقة، دائمًا في الضوء الشاحب كلون بشرته. تتيه نظراته عني إلى أشخاص آخرين – أطياف تستحضرهم مخيلتُه الفذة – تمامًا كما كان يفعل في لياليه المؤرقة، الطويلة، المتوحِّدة، إلا من عدَّة الكتابة ومن أشباح الماضي الإغريقيِّ، الأثير لديه، ومن أشباحٍ أخرى حبيبة، عابرة، مفتقَدة: شمعة واحدة تكفي. ضوءُها الخافت أكثر ملاءمة، وسيكون ألطف حين تأتي [أشباح] الحب، حين تأتي الأشباح. [من "لكي تأتي –"، 93، 1920] 3. الأمكنة: الأبعاد الأربعة للمدينة الكونية كان شاطئ البحر يزهو بالأضواء رغم الشتاء، وخطوط "الكورنيش" الطويلة المنحدرة تتثنى بعيدًا، تتلاشى في أفق يميل إلى الهبوط، وآلاف النوافذ الزجاجية تشع بالأنوار، وخلفها جلس سكانُ الحيِّ الأوروبي من المدينة، كأسماك استوائية رائعة، إلى مناضد متألقة، عامرة بزجاجات المستيكا واليانسون أو البراندي...[4] ما أنأى مدينة كفافيس – الأكثر محافظة اليوم بين مدن وادي النيل – عن هذه الصورة المنطبعة في المتن الضخم لرواية رباعية الإسكندرية التي سجَّلها لورنس داريل! – إسكندرية الأربعينيات، التي كانت، بتنوعها الثقافي وتعدُّدها الإثني، منارةً بحق للشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. وكفى بنا مثالاً لوقتنا الحاضر حقيقة أن الجالية اليونانية الوطنية قد اندثر وجودُها في الحاضرة التي مُنحتْ اسمَ رمز الإغريق الأكثر إشعاعًا على مرِّ العصور – الاسم وما تصرَّف عنه من وجود تاريخيٍّ متجذر، تجاريٍّ وثقافيٍّ وسياسي، – في الإسكندرية التي يفخر ابنُها كفافيس بأنها كانت مفخرة لليونانيين وتحوي كلَّ ما يطلبه المرء من علم: أما إذا كنتم تطلبون أمورًا أخرى، فها هي ذي بيِّنة: المدينة المعلِّمة، ذروة بلاد الإغريق قاطبة، في كلِّ علم، في كلِّ فنِّ هي الأوفر حكمة. [من "مجد الپطالمة"، 30، 1911] كان ذلك في ظهيرة يوم عطلة، طال سهرُ ليل أمسه – ليل المدينة المتساهلة مع سمر المقاهي والحدائق المفتوحة لروادها. أوقِظْتُ على هدير بشريٍّ وعلى ما يشبه مكبِّر للصوت، لا يمكن أن يكون مصدرهما سوى الجادة المفضية لنزل "سيسيل"، مقرِّ إقامتنا. هرعتُ إلى الشرفة، وقد تبادر لذهني – أو لوهمي بالأصح – أنها مظاهرة من مظاهرات التنديد بـ"غزو العراق"، كما دأب الشارع المصري خلال تلك الأيام على مؤالفته. بيد أني بوغتُّ بمرأى صفٍّ من الخلق – من الرجال حصرًا – وهم في حالة من القيام والسجود، على بعد ثلاثة أمتار وحسب من مدخل فندقنا الدوليِّ! وخلال دردشة الإفطار في مطعم النزل السخيِّ علمتُ من النادل – وهو شابُّ قبطيٌّ غاية في التهذيب – ما انعقد من أسباب صلاة الجماعة تلك: كان أهل الإيمان من موظفي ومستخدمي الفنادق والپنسيونات، المكتظ بها ذلك الحيُّ الأوروبي القديم وما تفرَّع عنه، يشكون دومًا من عدم وجود مسجد في المنطقة. لكن يبدو أن المحافظة، ربما لسبب سياحيٍّ بالدرجة الأولى، لم ترَ من الضروري المغامرة بتشويه هذا المكان الأثريِّ ببناء جامع مستحدَث. فما كان من جمهرة المؤمنين سوى استئجار سيارة "لوري" بعلوِّ مئذنة، تمَّ في مقدمتها تثبيت ذلك المكبِّر الصوتي الجهير الذي شاء أن يقتحم نكيرُه نومي الحالم! يبدو أن الجوَّال المعاصر لا محيد عن تيهه في مفهوم "المكان" الخاص بهذه المدينة المجبولة بالتناقضات، مذ انبثقت كزهرة معجزة من برونز سيف الفاتح الإغريقي. فالحي الأوروبي القديم لا يني المرء يداور فيه – وانطلاقًا منه – إلى الأمكنة الأخرى، المسكونة أيضًا بوجود البحر وشطِّه وكورنيشه – حيٌّ لم يبقَ منه سوى اسمه، والأصح وَهْمُه، لأنه حتى الأسماء الأصلية "عُرِّبتْ" جميعًا بعدما انطلست معالمُ مسمَّياتها الحضارية وأحاق بها التشوُّه الريفي في الصميم: كمثال على ذلك، كانت الجادة التي تقع فيها العمارة المحتوية شقة كفافيس تُعرَف بـ"شارع ليپسيوس"، ثم تحولت إلى "شارع شرم الشيخ" – وهذه الأخيرة، كما هو معروف، اسم منطقة في سيناء كان إسرائيل يحتلها، وأعيدَت إلى السيادة المصرية بعد إحلال السلام بين البلدين: فكأنما اختيار المعنيين بالمحافظة للتسمية هو ضربٌ مألوف من السلوك الخبيث، السائد عربيًّا، الذي يقرن الأقلِّيات الإثنية بأيِّ طارئ خارجي: غازٍ أو محتلٍّ أو مهيمن. وفي علَّة السياق هذه، استكثر المعنيون هؤلاء أن يُطلَقَ اسمُ "كفافيس" على الجادة المحتضِنة إرثَه وروحَه – وهو الاسم المتواشج مع اسم الإسكندرية والملحق أبدًا به: يا محيط الدار، الساحات، الحي، الذي أراه وفيه أسير، سنين وسنين.
لقد خلقتُكَ من قلب الفرح ومن قلب الأحزان: عِبْر حوادث شتى، عِبْر أشياء كثيرة.
وها قد استحلتَ بأسركَ شعورًا، من أجلي. ["في المكان نفسه"، 147، 1929]
پورتريه لكفافيس بقلم الفحم ليانيس بسيخوپيديس. تقسيم الأمكنة، إذًا، إلى "حيٍّ أوروبي" و"حيٍّ سوري" و"حيٍّ عربي" إلخ فيه مساهلة لا يجيزها واقعُ الإسكندرية الراهن، ولا تاريخُها المعاد تشكيله "قسريًّا"، وخصوصًا منذ النصف الأول من القرن المنصرم واعتلاء الانقلابيين العروبيين سدَّةَ السلطة. ويمكن الافتراض، بشيمة حسن النيَّة، أن "المدينة المحظية"، بحسب كفافيس، و"البغي بين المدن"، بوصف داريل، قد انتقمت من "عشاقها" الجدد – الأجلاف القادمين من أعماق القرية – بالتمنع عنهم والاستحالة عليهم، كما يجدر باسم البغي المقدسة/الأم–الأرض، بحسب عقائد الشرق القديمة: أليست الكآبة المحوِّمة على هذه الحاضرة، المقيمة في أهليها، هي من لوامع هذا الانتقام؟! – كآبة مهيمنة خصوصًا على الصروح والأوابد والنُّصُب المطابقة لحضارة الإسكندرية المتنوِّعة ثقافيًّا: فمكتبة الإسكندرية ("مكتبة العالم"، بحسب تعبير بورخيس)، المندثرة رمادًا في لهيب الفاتحين الأمِّيين، يُعاد بعثُها حديثًا في المكان المفترَض نفسه، ولكن بهيئة كـ"الأكسسوار"، المتفترِضة أيضًا روح المعاصرة: الأعمدة وأقواس النصر والتماثيل المتناثرة في الميادين العامة، منسوخةً نسخًا رديئًا عن الأصل الپطلمي والروماني والبيزنطي، المنسيِّ والضائع. الآثار الإسلامية – وأغلبها أيوبية ومملوكية – حجبتْها وغمرتْها في آنٍ أولوياتُ السياحة وتراتيبها. إلا أننا ما إن بلغنا أطراف "الحيِّ العربي" حتى طرح جانبًا هذه السلوكيات كلَّها: زال عنه توترُه، أزاح طربوشه ليجفف عرق جبهته، وحملق فيما حوله في مودة وإلفة. كان ينتمي إلى هذا الحيِّ بالتبني. هنا كان يحسُّ، حقًّا، أنه في داره.[5] قليلة هي الإشارات في رباعية داريل المتطرِّقة إلى هذا الحيِّ المصري، الصميمي، "الأنفوشي"، المتعاظم حجمه بسبب الهجرة من الريف إلى المدينة خلال الحرب العالمية الثانية – وهي الفترة التي تدور فيها أحداثُ الرواية. وكأنما قَََدَر الغريب القادم إلى الإسكندرية أن يحلَّ فيه هذا الانجذاب الممغنِط نحو الدائرة المحوِّطة للحيِّ الأوروبي واللامبالاة بالأحياء الأخرى، المتطرِّفة عن مركز المدينة وروحها: "الكورنيش". غير أنه، بمحض المصادفة، جرَّني إلى تلك الحارات الشعبية تحويلٌ لاواعٍ في سيري الساهم خلال الكورنيش البحري في الاتجاه المعاكس لميدان "المنشية" المحاذي للنزل الذي أقيم فيه. رأيتني مطمئنًا إلى خطِّ سيري مادام الشاطئ الأثير – ظلِّي الحارس، الظل المزبد، الفضي المشوب بالسمرة، المعتلج بين زرقة البحر والسماء. حتى إذا اختفى ذلك الظل، ولجتُ يقظًا، حذرًا أكثر فأكثر، في دروب متربة، سيِّدها الغبار، في قلب الفقر والبؤس والفاقة، النابض على أيسر صدر المدينة: "المدينة الأم التي لا تعي شاعريتها، والتي مثَّلتْها الأسماءُ والوجوهُ التي صنعت تاريخها"، كما يقول داريل في الرباعية. بيد أن الكاتب، في إشارته آنفة الذكر، ما كان يعني هذي الحارات الشعبية، العشوائية، التي لا تشبه في شيء أحياءَ القاهرة القديمة الأثرية، ناهيك عن أحياء الإسكندرية الأوروبية الطراز والتصميم: فهذه، بكلمة أخرى، قرى وجدت نفسها، في غفلة منها على الأرجح، على الناصية المهملة، المنسيَّة، من "مدينة الخطيئة" التي لم تأبه بها يومًا. من قلب هذا البؤس المستشري، في الأمكنة وناسها على حدٍّ سواء، خرجت رموزٌ أخرى "بلدية"، ما كان لصاحب رباعية الإسكندرية أن يعرف أسماءها أو وجوهها: سيد درويش وناجي وغيرهما من فناني ذلك الجيل؛ وكذا عتاة البلد، من بلطجية وبرمجية وقتلة ومشبوهين وغيرهم من الأشخاص المسرفين في القسوة والإجرام، بحسب أفلام الأربعينيات المصرية الرومانسية. ما كان ليدور في خلد روائيٍّ مثل داريل، الموهوب بالدقة في التفاصيل والمغرم بالحبكة المنسوجة من جريمة ما غامضة ملغزة، أن نموذجًا فنيًّا، كالذي جسَّده الثنائي القاتل ريا/سكينة، كان يعيش بين ظهرانيه، على مقربة من قلمه، دون أن يدري به! كنتُ قد وصفت من قبل كيف تقابلنا في ليلة كرنفالية – في تلك المرآة العالية، في "سيسيل"، مقابل بوابته المشرعة على صالة الرقص. الكلمات الأولى التي تبادلناها معًا ربما وجدت لها صدًى ما في تلك المرآة.[6] هذا ما تسجله الرباعية عن لقاء بطلها دارلي بمحبوبته الإسكندرانية اليونانية ميليسا في ذلك الفندق الأثري "سيسيل" – الفندق الذي حُجِزَ لبعثتنا السويدية بعد مرور عقود ستة من زمن الرواية. وأنا أقرأ مجددًا رباعية داريل، يتبادر إلى ذاكرتي عن ذلك النزل فورًا تَواري صالة الرقص تلك، الأرستقراطية، وراء لافتة جديدة: "صالة الأفراح" – لافتة جديرة بتحولات الزمن الريفيِّ الظافر! كنَّا، بدورنا، على موعد مع ليلة كرنفالية أخرى تشابه، إلى هذا الحدِّ أو ذاك، تلك التي وَصَفَها داريل: اقترح علينا زميلُنا، الشاعر اليوناني، قضاء السهرة في مقهى "أورورا" – المقهى الواقع في مجاهل الحيِّ الأوروبي القديم. كان هذا البار المكان الليلي المفضل لدى كفافيس، وربما التقاه هناك مؤلِّف الرباعية – وهي الرواية التي زخرت صفحاتُها بلمحات عن "شاعر المدينة، العجوز"، كما قدَّمتْه للقراء. ومثلما في المسرى الليليِّ الذي قادني منفردًا إلى الجادة التي تقع فيها شقة كفافيس، والمتبدي لي، فيما بعد، كأنه أضغاث حلم، كذلك الأمر في هذه الجولة المسائية التي جمعتنا تحت سقف المقهى، العتيق جدًّا والشاهد المعتق، الحاضر دومًا، على حضور شاعر المدينة. فالجادة حين وصولنا كانت مغرقة في غلسة كثيفة، حتى إن دليلنا، الزميل اليوناني، اضطر إلى أن "ندلَّه" نحن على الطريق الصائب بوساطة من الوسيلة اللغوية التي يجهلها هو. أشار لنا أشخاصٌ متسامرون، ملتحفون عتمة إحدى الزوايا، باللهجة الإسكندرانية المميزة، إلى وجهتنا المطلوبة. صعدنا إلى الطابق العلويِّ من المقهى الغارق، هو أيضًا، في عتمة مبهمة، تنيرها ومضاتٌ خافتة من شموع مثبتة بدرابزون السلم وتلك الموضوعة على المناضد: هكذا أراد أصحاب المكان – وهم من مواطني المدينة الإغريق – تكريم ذكرى شاعرهم العظيم الذي اشتهر عنه ضيقُه بالإنارة القوية التي تبعثها مصابيح الكهرباء. توزعت مجموعتنا، إذًا، على المناضد، فرأيتُني في جيرة زميلنا الشاعر التركيِّ، المقيم منذ عقود ثلاثة في ستوكهولم. كان رجلاً في أواسط العمر، أبيض الشعر، وعلى شيء من البدانة؛ وبهذه الصفة الأخيرة، ربما، كان مرحًا للغاية – فيما عدا اللحظة التي يأتي أحدُهم فيها على ذكر هذه المفردة "كردستان"، المحرَّمة في قاموس الشخصية التركية المعتدَّة! وإذا كان الرجل في يوم أسبق قد رفض قطعيًّا مرافقتنا إلى شقة كفافيس، إلا أنه، هذه المرة، أبدى تساهلاً كريمًا، متناسيًا الضغينة التقليدية الواجبة تجاه اليونانيين! الستائر الكثيفة، المسدَلة على النوافذ الشبيه بلورها بالكريستال لشدة نظافته، أوحتْ لشاعرنا التركيِّ بملاحظته الأولى، معرِبًا عن تذمره من الرطوبة الخانقة. عبثًا كان فتحنا للنوافذ جميعًا إكرامًا لمزاج الرجل، المتدهور شيئًا فشيئًا مع حصر الحديث في موضوع كفافيس. فها هو ذا يتذمَّر، كطفل مدلَّل، مع كلِّ كأس شراب أو طبق "مازة" يوضع أمامه: "ما هذه السلطة الـ.....؟! رباه، ألا يوجد لديهم غير الأوزو اللعين؟!" – وعلى هذا المنوال. كان ينقص إسكندرية كفافيس حقًّا مدَّعي الكلمة ذاك، وهي في نكبتها واغترابها بما أحاقه بها مدَّعو العروبة والثورة! الإسكندرية: المدينة "الفريدة"، بحسب داريل، الذي أفرد لها رباعيته الضخمة، الرائعة، التي نَظَمَها، كما تقول مقدمةُ جزئها الثاني، كرواية: ذات أسطح أربعة، كما يقوم هيكلها على نظرية النسبية. إن ثلاثة أبعاد مكانية وبُعدًا زمنيًّا واحدًا تشكِّل الخطة المتجانسة لفكرة التواصل. إن الروايات الأربع تسير على هذا المنهج نفسه. مدينة كونية، إذًا، بأبعاد أربعة، بثقافات متنوِّعة ومشارب متعددة، متبددة الآن جميعًا في بُعد واحد، وثقافة واحدة، وجنس موحَّد! مافتئت ذكريات إسكندرية كفافيس تداهمني، على الأخص حينما أكون في ليلي متوحِّدًا، كما كانتْه حالُ شاعرها وابنها الخالد، الذي غامر بعيدًا، ثمَّ عاد إلى مدينته نفسها، قدَرِه ذاته: بلادًا جديدةً لن تجد، ولن تجد بحارًا أخرى. المدينة سوف تتبعك. بالشوارع ذاتها سوف تطوف. وفي الأحياء نفسها سوف تشيخ؛ وفي هذه البيوت بعينها سوف تشيب. [من "المدينة"، 23، 1910] *** *** *** عن موقع إيلاف [1] جميع المقاطع الشعرية لكفافيس الواردة في المقالة من ترجمة ديمتريوس أفييرينوس عن اليونانية. [2] رحلة ابن جبير، طبعة بيروت، 1964، ص 17. [3] ديوان كافافيس (شاعر الإسكندرية)، ترجمه عن اليونانية د. نعيم عطية، القاهرة 1991، ص 5-6. [4] لورنس داريل، رباعية الإسكندرية (الرواية الثانية: "بلتازار")، بترجمة فخري حبيب، الكويت 1992، ص 227. [5] لورنس داريل، المصدر نفسه، ص 34. [6] لورنس داريل، رباعية الإسكندرية (الرواية الأولى: "جوستين")، الطبعة السويدية، ستوكهولم 1998.
|
|
|