"البلد" بلدي و"إيزيس" حبيبتي

لماذا نخسر البقية الباقية من أحلامنا؟!

 

علي سفر

 

ينقل لنا تاريخ العرب، في بعض صوره الجميلة، أن عددًا من المؤلِّفين والفلاسفة شاءوا أن يعملوا في صناعة "التوريق" أو "الوراقة"، أو ما نسمِّيه نحن بصناعة الكتب، وذلك كي تعينهم هذه المهنة في تدبُّر شؤون حياتهم والعيش مما يجنونه منها – وما كان هذا الشيء عمليًّا بقليل. ومن هؤلاء نتذكر ابن النديم، صاحب الفهرست، والجاحظ، وأبي حيان التوحيدي، "فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة"، كما وصفه ياقوت الحموي، الذي يُعَد نموذجًا رائعًا للعلماء الوراقين في عصره. حتى إن الوراقة أصبحت

مهنة راقية لكثير من الأدباء والمفكرين والعلماء، وانتشرت دكاكين الورَّاقين في طول البلاد وعرضها، وأصبح للمؤلِّفين الشهيرين ورَّاقون يختصون بهم، وأصبحت دكاكينهم أماكن ثقافية يرتادها الأدباء، وتُعقَد فيها المناظرات وتدور فيها المناقشات.

وعلى الرغم من أن هذه المهنة كانت عنصرًا فعالاً من عناصر التنوير، إلا أن كتب التاريخ لم تدفع بفكرة أن يتجه مؤلِّف ما صوب هذه المهنة تعبيرًا عن موقف فكري أو سياسي ما؛ بل إن الأمر لم يتعدَّ إيجاد مورد رزق في زمن كان يحترم هذه المهنة بأدواتها كافة.

وفي زماننا الحالي، ومن خلال المراجعة السريعة للعديد من هذه التجارب، نلمس قيام العديد من المثقفين باختيار العمل في صناعة الكتاب تعبيرًا عن موقف نقدي تجاه المجتمع، موقف ينطلق من ضرورة المساهمة في عملية التنوير ودفع الأفراد المكونين لهذا المجتمع صوب عالم المعرفة المدونة في الكتب. والتجارب التي نتحدث عنها عديدة وأوضح من أن نضيع الوقت في تعدادها. غير أن الواقع الحالي ينقل لنا – بكثير من القسوة – أخبار إفلاس العديد من هذه المشاريع الثقافية التي بُنِيَتْ على رؤى لا تخص أصحابها فقط، بل تخص المجتمع بأسره!

والسؤال الذي يَرِدُ حيال خيارات هؤلاء الأفراد يتعلق دائمًا بفكرة أنهم إنما يُقدِمون على مشاريعهم دون دراسة ولمجرد تعلقهم بفكرة الثقافة! ولكن أليس هذا التعلق وهذا الافتتان موقفًا يستحق أصحابُه أن يكونوا رابحين، لا خاسرين؟! – لا نقول رابحين للآلاف المؤلَّفة من الأوراق النقدية، بل رابحون لصورة المغامرين النبلاء الذين يخوضون في السيل وهم يعلمون أنهم، وإن قُيِّضَتْ لهم النجاةُ من دفقه وهديره، فإنهم لن ينالوا سوى البلل واحتمال الغرق!

فقبل أكثر من عامين، أقدم الصديق يعرب العيسى على افتتاح دار نشر أطلق عليها اسم "البلد" وقام بنشر العديد من الكتب الرائعة، ليس أقلها كتاب مذكرات غابرييل غارثيا ماركيز! وعلى الرغم من أن كتب يعرب وصلت إلى العديد من البلدان العربية، إلا أن مشروعه انتهى إلى الفشل بعد أن بات عليه أن يموِّله من قوت عيشه، في الوقت الذي كان يمكن للقليل من المساعدة في التسويق أو ابتياع المؤسَّسات الثقافية لبعض النسخ أن يتكفلا لهذا المشروع بأن يصل إلى نقطة اللاعودة، وأقصد نقطة الاستمرارية.

وفي مكان غير بعيد عن أحلام يعرب العيسى (مكانيًّا على الأقل)، وفي شارع صغير متفرع عن شارع العابد في دمشق، ظلت – لسنوات عديدة – "دار مكتبة إيزيس"، لصاحبتها الروائية أميمة سليمان الخش، تقاوم ثقافة السائد والمتاح السهل، محاولةً أن تبقي على بعض الرمق في عروق الثقافة في سورية عِبْر نشر الكتاب التقدمي والمعرفي وعبر الإعارة المباشرة للقراء. سنوات طويلة، لا أتذكر متى بدأت، ولكنني – للأسف – أعرف متى انتهت! فمذ أيام قليلة، أُغلِقَتْ المكتبة بعد أن كادت أن تفلس صاحبتَها، التي بات عليها أن تدفع أجور العاملين فيها من قوتها أيضًا!

وهكذا خسرت دمشق، وخسرت ذكرياتُنا في عالم الثقافة والكتب، ركنًا جميلاً مثَّلتْه هذه المكتبة التي كنَّا ندلف إليها بعد أن نخرج من مقهى الروضة أو من بار "فريدي" الذي أُغلِقَ أيضًا! وهكذا لم يبقَ لنا، ونحن ندخل إلى ذلك الزقاق، سوى أن نشم روائح الطبيخ وأن نرى أصحاب البطون الجائعة في طابور مُخْزٍ أمام أحد المطاعم يمتد ويمتد ليلفَّ الشارع كلَّه!

لم يكن مشروع "إيزيس"، كما دار "البلد"، مشروعًا ربحيًّا، كما لم نكن نحن مجرد مثقفين يبحثون عن كتبهم ويقطعون علاقتهم بالأمكنة وأصحابها بعد أن يجدوا ضالتهم. لقد كانت أمثال هذه المشاريع "بوابات أحلام" مشرعة على أزمنة جميلة، – وليعذرني البعض على رومانسيتي! – وكنَّا نحن وقود هذه الأحلام وأولادها أيضًا. وأعتقد أننا نتيتَّم كلَّ يوم، وبعد كلِّ خبر سيئ من هذه الأخبار، ولا يبقَ لنا سوى أن ننكفئ على ذواتنا ونغيب في أغوارٍ تعزِّز من حضور الأحلام فينا. إذ إننا خسرنا كلَّ شيء؛ أو لعلنا كنَّا، منذ البداية، نعرف أننا خاسرون وأن راياتنا البيضاء ليست سوى كناية عن حلم ضئيل مازال الجميع يطاردونه بأسلحتهم التي تُبيد العقل والمعرفة.

تحية ليعرب و"دار البلد"!

تحية لأميمة و"دار إيزيس"[*]!

وكفى...

*** *** ***

عن موقع مرآة سورية، 24/7/2005


 

[*] "إيزيس حبيبتي" عنوان مسرحية للمسرحي المصري الراحل ميخائيل رومان، الذي وُجِدَتْ جثته متحلِّلة في شقَّته، في زمن هزيمة الأحلام الجميلة أيضًا!

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود