نعم للمقاومة، لا للعنف

في فلسطين[*]

 

وليد صليبي

 

سعداءً يُفترَض فينا أن نكون اليوم بعد أن بلغنا مرحلةً بات فيها الخيارُ المدني اللاعنفي يُبحَث جديًّا، – وبصوت عالٍ، – على الرغم من الصدِّ والتخوين، ويتجسد فعليًّا في نضالاتٍ وتحركاتٍ، هنا وهناك، في العديد من البلدان العربية.

ولكن تعالوا، أولاً، ننظر إلى العنف، إلى الإيديولوجيات التي حيكت من حوله. ألا تلاحظون كم أضفتْ الإيديولوجيا العنفية من سمات "تجميلية"، ومن قيمة إيجابية، على كلِّ عمل أرادت تثبيتَه وعلى كلِّ حرب أرادت خوضَها؟! ما رأيكم لو نكشف معًا ذاك "المعجم التجميلي"، تنبيهًا دائمًا لأنفسنا، لئلا نقع في فخِّه المغري؟

تعالوا نردد تلك المفردات "المشبوهة" التي تُستخدَم مثلاً لتجميل الحروب (وهنا لا يمكن لي إلا النصح باتخاذ الحيطة والحذر لدى سماع أيٍّ منها): حروب "إلهية"، حروب "ديموقراطية"، حروب "استقلال"، حروب "مقدسة"، حروب "أمنية"، حروب "سيادية"، حروب "عادلة"، حروب "وقائية"، حروب "قومية"، حروب "دفاعية"، حروب "طبقية"، حروب "صليبية"، حروب "توحيدية"، حروب "اجتماعية"، حروب "جهادية"، حروب "حقوق–إنسانية"، حروب "ثورية"، حروب "تبشيرية"، حروب "قانون–دولية"، حروب "تحريرية" – وتبقى القائمة طويلة... ذلك أن الحرب، كما قال الأديب الفرنسي پول فاليري، ليست غير

صراع بين أناس لا يعرفون بعضهم بعضًا، يقتتلون من أجل أناس يعرفون بعضهم جيدًا ولا يقتتلون أبدًا.

ففي حين من المفترَض أن الإنسان هو الغاية التي تسعى إليها كلُّ إيديولوجيا أو قضية أو دين، يبدو أن الإنسان أمسى مجرد وسيلة، وأمست الإيديولوجيا هي القضية، الدين، الأمة، الوطن، الحزب... هي "الغايات" التي باسمها، ومن أجلها، يقتل الإنسانُ ويُقتَل.

من جهتي، لا أرى العنف يحقق أية غاية "عادلة" مرجوة – على الإطلاق – وذلك لسبب بسيط: ليس لأنه لا يمكن له الانتصار على صاحب المشروع الظالم، بل لأنه يهزم صاحب القضية المحقة!

فالعنف يحوِّل المناضلَ من شخص مؤمن بمجموعة من القيم الإنسانية إلى شخص قاسٍ، بارد، يتخلَّى تدريجيًّا عن القيم التي يسعى إليها، الواحدة تلو الأخرى، لتسويغ مسيرته العنفية. وكلما تقدَّم في طريق العنف خطوة، تراجعت الغايةُ النبيلة خطوات. لذا تراه في مأزق كبير: تراه، وقد أضحى مثقلاً بأعمال العنف، لا يستطيع الرجوع إلى الوراء؛ والتقدم إلى الأمام بالنهج العنفي إياه يُبعِده عن الغاية التي كان يسعى إليها؛ فيغدو وكأن ليس في مكنته سوى سلوك طريق وحيد: تحوير الغاية النبيلة المرجوة نحو أهداف أخرى: السلطة، المال، المناصب، القمع، الاستبداد، الحكم، الانتصار العسكري، إلخ.

لقد هُزِمَ المناضل!

حتى إنه يمكن القول إن لحظة قمة الانتصار العسكري على الخصم هي لحظة قمة هزيمة المناضل. انتصرت القضية، هُزِمَتْ القضية! مات الملك، عاش الملك! مَن يصل بالعنف يحكم بالعنف. والحصيلة: هُزِمَ الخصمُ عسكريًّا، هُزِمَ المناضلُ إنسانيًّا: انتصر العنف.

هُزِمَ المناضل لأنه اتبع المبدأ القائل: "الغاية تبرر الوسيلة"؛ في حين أن الغاية هي الشجرة، والوسيلة هي البذرة: "الغاية كامنةٌ في الوسيلة كمونَ الشجرة في البذرة"، على حدِّ قول صديقنا العظيم غاندي.

ألا ترون معي أن التلازم بين الغاية والوسيلة مسألةٌ رئيسية وليست ثانوية؟ إنه التلازم بين العمل السياسي الفاعل ومتطلبات الأخلاق. هذا التلازم بين الغاية والوسائل ضروري، ليس من أجل أخلاقية العمل فحسب، بل من أجل فاعليته أيضًا. إذ إن "فاعلية" وسيلة ما تقاس بمدى تحقيقها للغاية النبيلة التي تسعى إليها، وليس بالقضاء على الخصم؛ تُقاس بمدى إزالتها الظلم، وليس بإلغائها الظالم. كم أود لو يتذكر المناضلون أن الفاعلية ليست إلا وسيلة في خدمة الإنسان، ولا يمكن تحديدها إلا تبعًا لمتطلبات الإنسان التي هي، في العمق، متطلبات أخلاقية. وهل تُعتبَر فاعليةٌ لا تستجيب لهذه المتطلبات "فعالةً" حقًّا؟!

أخلاقية وفاعلية في آنٍ واحد – هذا ما يميز العمل اللاعنفي. فاللاعنف لاءان: لا لعنف الذات، ولا لعنف الآخرين، أي لا للظلم. الـ"لا" الأولى هي لا أخلاقية، بمعنى أنها تمنع الذات من القيام بعمل لا نقبل أن يمارسه الآخرون تجاهنا؛ الـ"لا" الثانية هي لا فاعلية، إذ إنها تسعى أن تكون فعَّالة في مواجهة الظالم، في إزالة الظلم.

"لا" أخلاقية و"لا" فاعلية: تلك هي خلاصة العمل اللاعنفي. وهذا ما يميِّزه بالذات عن العمل العنفي؛ وهذا ما يجعل فاعليةَ العمل اللاعنفي ضعفَي فاعلية العمل العنفي: إذ في حين قد يُستخدَم كلٌّ من اللاعنف والعنف في مواجهة طغيان الآخرين، وحده اللاعنف يستطيع مواجهة طغيان الذات.

صحيح ما يقال من أن السياسة قد انفصلت إلى حدٍّ كبير عن الأخلاق. أوليس الانفصال هذا وراء جزء كبير من المآسي التي يتخبط فيها مجتمعُنا المعاصر؟ أليس الانفصال هذا وراء اليأس أو الاشمئزاز الذي يشعر به معظم مواطني العالم، إلى درجة اعتبار العمل السياسي عملاً موبوءًا لا يمكن أن يؤدي إلى أية نتيجة إنسانية؟

تعلمون أن هناك نظرية متكاملة تقول بأن العمل السياسي، لكي ينجح، عليه بالضرورة أن ينفصل عن متطلبات الأخلاق ويستقل عنها. فعالم السياسة مختلف تمامًا عن عالم الأخلاق. حتى إن العمل السياسي "اللاأخلاقي" اقترن بمجموعة من الصفات "الإيجابية"، كالشطارة والتكتيك والدبلوماسية. على هذا، يمسي الرياء سيد الموقف، ويمسي العمل السياسي فنَّ إبراز كلِّ ما يُظهِر أننا على حق وإخفاء كلِّ ما يُظهِر الحقيقة!

ولكن في حال اعتنقنا تعريف العمل السياسي بأنه عمل في خدمة الإنسان والإنسانية، لا يمكن اعتبار العمل الذي نشهده اليوم عملاً "سياسيًّا"، بل هو عمل يخدم سلطةَ مَن يمارسه ومصالحَه أكثر مما يخدم الإنسانية؛ إنه عمل "سلطوي" يطلق على نفسه لقب عمل "سياسي". أما النهج اللاعنفي فيسعى إلى إعادة العمل السياسي إلى جوهره، إلى أخلاقيته، وبالتالي، إلى تعزيز الأمل بفاعليته.

حين أعود بالذاكرة إلى فلسطين المنتفِضة في العام 1987، يعزُّ عليَّ أن أقول لمناضليها ومفكريها إنه بعدما حققتْ "انتفاضةُ الحجارة" اللاعنفية إنجازاتٍ رئيسية، كان عليها أن تتخذ مباشرة قرارًا تاريخيًّا: تصعيد المقاومة في وجه المحتل من انتفاضة "الحجارة" إلى انتفاضة "الزهور"!

ربَّ سائل يسأل: هل تريدنا أن نواجه الدبابة والطائرة بالزهرة؟! وأقول: كم نستخف بالزهرة!

هنا أريد أن أطرح بدوري سؤالاً: في رأيكم، ما الذي يخشاه شارون أكثر: زهرةَ ممانعة في يد الشعب الفلسطيني بأسره، أم حزامًا ناسفًا على وسط بعض الرجال؟ قد يقال: لكن شارون لا يفهم إلا لغة العنف... وأقول: بالطبع، إنها لغته المفضلة! فهل نسدي إليه خدمةً كبيرة كهذه بأن نخاطبه بلغته المفضلة؟!

بالطبع، إن سياسة العنف تخدم أهداف الحكومات الإسرائيلية. فهل نعتنقها؟! ليست سياسة الخصم هي التي تحدِّد سياستنا من طريق التقليد. لسنا ببغاوات سياسية! فهل نبني سياستنا على أساس ردة فعل؟! للخصم قضية ظالمة اختار لها وسيلة ظالمة. هدفه لاأخلاقي، يتطلب، بالتالي، وسيلة لاأخلاقية. أما القضية الفلسطينية فقضية عادلة وأخلاقية، وتتطلب، تاليًا، وسيلة عادلة وأخلاقية. الخصم الإسرائيلي يستخدم العنف؛ وهو يهدف بالضبط أن يردَّ الفلسطيني عليه بالعنف؛ فهو، بهذه الطريقة، يحقق أضعاف ما يستطيع تحقيقه بالعمل السياسي البحت.

حين نرد بالعنف نسهِّل عليه إبعادَ النقاش والضوء عن المسألة الحقيقية، أي عدالة القضية الفلسطينية، ونَقْلَ الحديث في اتجاه أعمال العنف؛ ندعه يجر الفلسطينيين إلى ميدان العنف، حيث يتفوق بأشواط، وحيث يستطيع استخدام طاقته العسكرية كلها؛ نتركه يستكمل سياسته الاستيطانية في ظلِّ الملهاة العنفية؛ نساعده كي يُظهِر للعالم أحقيةَ قضيته حين يدَّعي أن الفلسطيني "إرهابي" وأنه "يدافع عن نفسه" ضد الإرهاب؛ نسمح له بتوحيد مجتمعه وبتجنيده وراء تطرُّفه؛ كما نسمح له بشلِّ قوى الاعتدال داخل مجتمعه...

عنف الظالم يخدم قضية الظالم؛ أما عنف المظلوم فيخدم أيضًا قضية الظالم! أنا مقتنع، مع غاندي، أن العنف "فخ ينصبه الظالم ويقع فيه المظلوم". العنف حوَّل المسيحيةَ إلى محاكم تفتيش وحروب صليبية، الإسلامَ إلى فتوحات وتكفير لذوي الرأي المختلف، الاشتراكيةَ إلى ستالينية؛ حوَّل حركات التحرير الوطني من الاستقلال عن احتلالات الأنظمة الخارجية إلى أنظمة احتلال لشعوب الداخل؛ حوَّل مكافحة الجريمة وحماية المجتمع إلى عقوبة إعدام، فأمسى تاريخ "العدالة" أبشع من تاريخ الجريمة! استخدم الله شعارًا، وحمَّله رشاشًا، وختم الأسلحة وجُدُر المعارك برموز دينية...

فلنتذكر الغاية دومًا. خطر في بالي، منذ مدة، أن من المفيد، ربما، ابتكارَ آلة ناطقة تنبِّه المناضل باستمرار إلى الغاية التي يسعى إليها كلما أوشك على الانزلاق في طريق العنف – آلة شبيهة بـ"العصفور المنبِّه" الذي يخرج من علبته حين تدق ساعة الخطر، لكنْ بدلاً من تكرار كلمتَي "كوكو، كوكو"، يردِّد: "محبة، محبة!" للمسيحي، "رحمة، رحمة!" للمسلم، "عدالة، عدالة!" للاشتراكي، "حرية، حرية!" للمناضل في سبيل التحرير.

فلنعُد إلى انتفاضة تُشرِك الشعبَ الفلسطيني بأسره: أطفالاً وشبابًا ومسنين، رجالاً ونساء، فلاحين وعمالاً وأصحاب مهن ورؤوس أموال...

فلنطلق انتفاضةً تشل التفوق العسكري الإسرائيلي، فتجعل من الجيش الذي يستخدم أكثر الطائرات والدبابات تطورًا جيشًا يستخدم العصا؛ انتفاضةً تحوِّله من جيش قاهر للجيوش العربية إلى جيش مطارِد للأطفال في الأزقة!

فلنعد إلى مقاومة تستقطب الرأيَ العام العالمي وتستنهض الاعتدالَ الإسرائيلي. فلنطلق انتفاضةً تجبر الإسرائيليين على خوض القضية الوحيدة المحقة، القضية الفلسطينية، التي جعلت أحد الوزراء الإسرائيليين يقول، إثر انتفاضة الحجارة الأولى (في سنواتها الأولى خاصة):

يبدو أنه أسهل تدمير جيوش كاملة من إزالة البسمة الساخرة عن وجوه النساء اللواتي يتحدَّيننا في الشوارع.

إن الحلَّ الوحيد للقضية الفلسطينية هو في اجتماع جميع القوى والتيارات الفلسطينية على استراتيجية مشتركة شعارها واحد وحيد لا غير: "نعم للمقاومة، لا للعنف!"

إنها كلمتي المتواضعة لكلِّ فلسطيني، ولكلِّ صاحب حقٍّ في العالم:

نعم للمقاومة، لا للعنف!

*** *** ***


 

[*] قُدِّم هذا النص في المؤتمر العالمي الأول احتفاءً بالمقاومة المدنية اللاعنفية في فلسطين الذي انعقد في بيت لحم بين 27 و30 كانون الأول 2005؛ وقد تولَّى قراءته بالنيابة عن د. وليد صليبي، مؤسِّس "مشروع اللاعنف وحقوق الناس" في لبنان، د. سامي الكيلاني، الأستاذ المحاضر في جامعة النجاح، نابلس، ومدير مركز التنمية المجتمعية فيها.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود