محمد خاتمي

ريعيَّة احتلال المثقَّف موقع القيادة

 

سامي العباس

 

الأمن والتنمية هدفا العالم الإسلامي الرئيسيان، كما يرى الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي[1]. يفتح هذا التشخيص على الربح الإضافي الذي يفضي إليه صعودُ المثقف إلى هرم السلطة لجهة تبويب الأهداف وتحديد الوسائل. وترتفع هذه المهمة (التشخيص) إلى مستوى الإشكالية كلما أفصحت البنيةُ الاقتصادية–الاجتماعية وفضاؤها الثقافي عن تزاحُم شديد للأهداف والوسائل في مراحل التحول على احتلال الأولوية.

والقارئ الجيد لتجارب الأمم يدرك الأكلاف الباهظة التي تفضي إليها جدوَلةٌ غير موفقة للأهداف أو للوسائل: يتضخم الخطأ على امتداد الزمان، كما تتضخم مساحةُ القطاع الزاوي في امتداد المكان. هل نكشف هنا عن تبديد مروع للوقت فقط؟!

ما يميز المثقفَ سعةُ خزان تجربته. و"التجربة" هنا هي جماع ما اطَّلع عليه المثقفُ من تجارب الأمم والشعوب التي أنجزت إنجازًا ناجحًا عمليةَ الانتقال إلى العصر. ما يميز عملياتِ الانتقال بعضها عن بعض هو وجود المثال من عدمه. ووجود المثال يستدعي بالضرورة مَن يتمثَّله. ولذلك تتضخم الحاجةُ إلى المثقف في التطور المسبوق وتقل في التطور غير المسبوق. ذلك أن التطور "الأعمى" يحكمه التجريب؛ وهذا الأخير حقل فسيح يستدعي الابتكارُ فيه التخفف من الحمولات الفكرية الزائدة، وهي هنا الأفكار المسبقة التي يختزنها المثقف.

إلا أنه لا يوجد في التاريخ مثال كامل النقاء لجهة نموذجَي التطور. فالحضارات مستقلة وعلى تماس في آن. إلا أن المشترك هو الطلقات الأولى التي تفتتح المعركة – معركة التغيير: إذ إنها تجري في حقل العقل. فكما أن عصر "الأنوار" قد سبق الثورة البرجوازية في نموذج التطور غير المسبوق (الأوروبي)، كذلك فإن الثورة العقلية تصبح مطلوبة على نحو مضاعف في النموذج الذي ننتمي إليه كعرب (التطور المسبوق). وفي هذا السياق، يمكن لنا فهم الظاهرة اللينينية كـ"حماقة ثقافية" ارتُكِبَتْ في مجرى معاندة المثقف لإكراهات الشروط الموضوعية، مما ولَّد حالةَ الانكسار الراهنة التي يعيشها المثقف العالمثالثي، أيًّا كان انتماؤه الإيديولوجي.

* * *

الأمن والتنمية: تكثيف شديد لحاجات العالم الإسلامي، لا بل للعالم الثالث ككل. وليس في هذا التكثيف إفقار للبصيرة أو تضييق لمساحة الرؤية، بل فيه غربلة للحاجات بغربال الأولوية. والرئيس الإيراني نموذج للسياسي المسلح بعقل الفيلسوف. وهي فرصة للتغيير كي يحدث تحت القيادة الواعية للفلاسفة في الشروط التي يفرضها التحول المتأخر إلى الرأسمالية[2].

إن ما تعانيه عمليات "التحديث" في العالمين العربي والإسلامي من مصاعب إضافية يمكن لنا إرجاع بعضها إلى ضآلة دور المثقف في هذه العملية التاريخية. فالسلطات السياسية والاجتماعية التي وحَّدتْ في ذهنها بين الثقافة والإعلام وضعت المثقف بين خيارين اثنين: الانسحاب إلى الظل أو العمل كمبخرة!

* * *

حوار الحضارات بديلاً عن صِدامها – تلك هي "الرسالة" التي يودِعها الرئيس خاتمي صندوقَ بريد الحضارة الغربية. هل هي رد على مقولات صموئيل هتنغتون؟ أم هي رسالة سياسية تستعير لغة المفكر؟ لعلها هذا وذاك في آن. فالمرسل مزدوج الموقع، والرسالة تحمل بصمتَي السياسي والمفكر، وتذهب إلى صندوقَي بريد اثنين:

1.     صندوق بريد العالم الخارجي، حيث تعالج همومًا أمنية تثيرها صيغةُ هتنغتون للعلاقة "الصدامية" بين الحضارات.

2.     صندوق بريد العالم الإسلامي، حيث تعالج التوتر الزائف بين معسكرَي الأصالة والمعاصرة: فالتعصب الأعمى لأحد المنهلين الثقافيين يمنع البصيرة من التقاط المشترك التقدمي. إن صيغتَي "التتريث" أو "التغريب" المعروضتين على العالم العربي–الإسلامي تتقاسمان بالتساوي الفقر المعرفي والتقليد الأعمى للغرب أو للأسلاف.

وبالعودة إلى سيرة الأهداف والوسائل، يثير تحديد الرئيس خاتمي للأهداف بالأمن والتنمية أسئلةً حول الوسائل المقترحة.

إن الكلام على "سوق إسلامية" أو تكتل اقتصادي إسلامي يصب في خانة الوسائل التي يقترحها خاتمي للخروج من صيغة مجحفة لتبادل المنافع بين المركز الأوروأمريكي، من جهة، وبين العالم الثالث، من جهة أخرى. فالأكلاف المرهقة لعملية التنمية التي تتمخض عنها عمليةُ التبادل في السوق الدولية تستدعي بالضرورة البحثَ عن صيغ لتبادل المنافع داخل سوق أكثر عدلاً وتوازنًا. ولا شك أن الأسواق الإقليمية التي تنشأ بين دول متقاربة في مستوى التطور الصناعي تمنح من هذه الزاوية (زاوية العدالة في التبادل) فرصًا أكبر لتقليص جريان الثروة في اتجاه واحد.

إن بناء سوق إسلامية أو تكتل اقتصادي إسلامي يطلق (إن حدث) ديالكتيك القوة/الثروة. ومن هنا فإن الأمن كهدف يبلور وسائلَه عِبْرَ جدل مركَّب من مستويين: مستوى الاقتصاد ومستوى القوة (بالمعنى الشامل للجانب العسكري منها).

ولا شك أن نسج العالم الإسلامي لعلاقات اقتصادية بينية يجر في ذيله ويخلق شروطًا ملائمة لتصفية التوترات الأمنية البينية ويمهِّد الطريق لسيرورة مفضية إلى تكتل اقتصادي–عسكري يتعامل مع جواره القريب أو البعيد من موقع الند للند، الغائب منذ فقد العرب والمسلمون المبادرة التاريخية.

بين جولة الرئيس خاتمي على الدول العربية قبل بضع سنوات وجولته كمحاضر في الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرًا، مرت مياه كثيرة تحت الجسر! لكن خاتمي لم يضيع اتجاه البوصلة: ما تكلَّم به في الجولتين، في الإطار الذي حدَّده لنفسه، ظل هو هو، بوصفه مثقفًا إسلاميًّا مستنيرًا ينافح عن شمعته أن تطفئها رياحُ "التتريث" التي مازالت تعصف بالعالم العربي–الإسلامي.

*** *** ***


[1] من محاضرة ألقاها الرئيس محمد خاتمي بالمكتبة الوطنية في دمشق في أثناء جولته العربية.

[2] انظر: عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، فصل "الماركسية ومثقف العالم الثالث".

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود