|
الله
لا يلعب النرد كان
هنري لابوري واحدًا من ألمع البيولوجيين
الفرنسيين. وقد اقتبس عنوانَ كتابه الله لا
يلعب النرد[*]
من جملة شهيرة قالها أينشتاين في معرِض نقده
للميكانيكا الكوانتية، قاصدًا بها أنه لا
يمكن لقوانين الطبيعة أن تكون "لاسببيَّة"
a-causales،
كما تقول بذلك الفيزياء الكوانتية. في كتابه هذا، يبسِّط
المؤلِّف العديدَ من آرائه التي شَرَحَها في
كتب عديدة، محاولاً تضمينها في تصوراته عن
الصيرورة الكونية والبشرية. يقول لابوري، على
سبيل المثال، إنه كما أن من حقِّ الفيزيائيين
أن يصنعوا "ميتافيزياء" métaphysique
فهو يطالب بحقِّه كبيولوجي في صنع "ميتابيولوجيا"
métabiologie. هنري
لابوري (1914-1995) والحق أن القارئ لن يجد في
هذا الكتاب المبسَّط والطريف ما يمت إلى
العنوان بصلة مباشرة، بل سيتلمس نوايا
المؤلِّف من خلال حتمية مستويات التنظيم، ولن
يجد "ميتابيولوجيا" فعلاً لسبب بسيط هو
أن القسم الأكبر من الكتاب مخصَّص لوصف
التنظيم المادي للكون، بدءًا من "الفراغ
الكوانتي" الذي خرج منه كلُّ شيء، بحسب
الفيزياء، انتهاءً بكوننا المرئي، بنجومه
ومجرَّاته وتطوُّره. فما هي، بالتالي، الفكرة
الرئيسة في الكتاب؟ إنها "مستويات التنظيم"
niveaux dʼorganisation،
أو سر الأسرار، كما يحب لابوري أن
يسمِّيها. المستوى الأول هو الفراغ
الكوانتي (أو "العدم" إنْ شئتم)، الذي
منه يتشكَّل مستوى القُسَيمات particules،
ثم الذرات atomes
والجزيئات molécules،
فالخلايا cellules
والكائن الحي. ولقد قمنا، طبعًا، بقفزات
نوعية في عرضنا لهذه المستويات التي
تتخلَّلها مستوياتٌ ومستوياتٌ تحتية أخرى.
وتقوم بين هذه المستويات علاقات "طاقية"
ومعلوماتية. وفي هذه العلاقات، يتحكم المستوى
الأعقد في المستويات الأبسط من خلال تواصُل
معلوماتي قائم معها. ويصرُّ لابوري على أن
مستويات التنظيم لا تعني أن هناك مستوى "أرقى"
أو "أفضل" من غيره، بل إن هناك مستويات
أعقد تشتمل على مستويات التنظيم الأبسط:
فمستوى الخلية، مثلاً، يشتمل على مستويات
الجزيئات والذرات والقُسَيمات، في حين أن
مستوى الجزيئات لا يشتمل على مستوى الخلايا. وإذا سألنا:
لماذا "سر الأسرار"؟، أي لماذا تنتظم
المادة في مستويات تزداد تعقيدًا؟، لأجابنا
لابوري بأن كلَّ ما يمكن لنا قولُه هو أنها
مصنوعة على هذا النحو. بقول آخر، نحن لا نعرف
حقًّا لماذا! وهل هناك تنظيم أعقد من الإنسان؟
قد يمثل المجتمع البشري مثل هذا التنظيم
لأنه يخضع لدينامية المستويات ذاتها (الميتابيولوجيا)
من خواص مستويات التنظيم – وهو واقع بيِّن: إذ
إن المستويات الأبسط لا تتصف بخواص المستوى
الأعقد، بمعنى أنه لا يمكن استنباط المستوى
الأعقد من الأبسط؛ فهو يكتسب دومًا خواصًا
جديدةً لم تكن موجودة. لكن المؤلِّف لا يقول
بأن ظهور المستوى الأعقد يحمل إلى الكمون بعض
خواص المستوى الأبسط؛ فهو، بالتالي، "أكثر"
من المستوى الأبسط و"أقل" منه في آنٍ
معًا. يبدو لنا
تحليلُ لابوري صائبًا في ما يخص هذه
المستويات وفي انتقاده للخلط المفرط لدى
السياسيين بينها، حيث يرى بعضُهم من خلال
مستوى جزئيٍّ المستوياتِ كلَّها (كما في
الإيديولوجيا)؛ أو كذلك إغفال البيولوجيين
لهذه المستويات، إذ يقفزون مباشرةً من
الشيفرة الوراثية، مثلاً، إلى السلوك
البشري، من دون أخذ المستويات الوسيطة في
الحسبان. ينتقد المؤلِّف أيضًا
الاتجاه الحديث الذي ظهر لدى بعض العلماء
والمفكرين فيما يمكن لنا أن نسميه "تصوفًا
علميًّا" mystique
scientifique، حيث يمكن للإنسان
أن "يتحد" مع طاقة الكون أو الفراغ
الكوانتي الذي يتخلَّله. فإذا أخذنا بعين
الاعتبار، بنظر المؤلِّف، مفهوم مستويات
التنظيم، فهذا يعني، بحسب نموذج التصوف
العلمي، الارتداد من مستوى التنظيم البشري
الشديد التعقيد إلى مستوى الفراغ الكوانتي
الأبسط. لكن، لابوري يُقحِم هنا، من حيث لا
ينتبه، فكرةَ "الأرقى" بعد أن رَفَضَها.
ومن ثم فإن المسألة، فيما أرى، أعقد من ذلك
ولا يمكن التصدي لها في أسطر قليلة. ومع هذا،
تبقى الملاحظة هامة، إذ تبيِّن سذاجة بعض
التصورات الحديثة فيما يخص التطور الروحي
للإنسان. ينتقد لابوري
أيضًا مفهومَي "الصراع على البقاء" و"بقاء
الأنسب" الداروِنيين، ويدعم نقدَه بأمثلة.
وفي رأي لابوري، يستلزم الانتقالُ من مستوى
إلى آخر أعقد تعاوُنَ العناصر بعضها مع بعض؛
أما على مستواها فإنه يمكن لمفهوم الصراع
التنافسي أن يظهر. أكثر ما يعجبني
في لابوري هي صراحته الفجَّة. فإنْ سألناه: ما
الذي يهمك؟ لأجاب: أنا! وهو ينظر إلى واقع
عالمنا وإلى علاقاتنا البشرية من خلال هذه
الصراحة التي تميِّز حديثه. لهذا كلِّه، وإنْ
كنت لا أشاطر المؤلِّف آراءَه كلَّها، فإنني
أسدي النصح إلى القراء بالتعرف إلى مؤلَّفات
لابوري التي تحوي العديد من الأفكار الأصيلة
والمثيرة والتي تلقي ضوءًا حقيقيًّا على
السلوك البشري. ***
*** *** [*]
Henri Laborit, Dieu ne joue pas aux dés, Éditions Grasset,
Paris/Éditions
de l’Homme, Montréal, 1987, pp. 235.
|
|
|