لبنان، عالمٌ مصغَّر للنزاعات في المنطقة[1]

تيري رود لارسِن[2]

 

اسمحوا لي، أولاً، أن أُعرِبَ عن شكري لـ"مركز الملك فيصل للأبحاث والدراسات الإسلامية". وأودُّ، بالأخص، أن أشكر رئيس مجلس إدارته، الأمير تركي الفيصل، على الدعوة وحسن الضيافة. يسرُّني كثيرًا أن أكون هنا اليوم، فقد جمعتْنا في "أكاديمية السلام الدولية" علاقةٌ خاصةٌ جدًّا بالأمير تركي منذ الفترة التي أمضاها في واشنطن؛ إنَّه عضو في مجلس إدارتنا. وإنَّه لسرور وشرف عظيمان أن أكون هنا معكم اليوم.

أودُّ التشديد، في البداية، على أنَّي أتكلَّم بصفتي رئيس "أكاديمية السلام الدولية"، وليس باسم الأمم المتَّحدة حيث أعمل أيضًا مبعوثًا خاصًّا للأمين العام لتطبيق قرار مجلس الأمن 1559.

عندما اتَّفقنا، قبل بضعة أشهر، على أن أحضر إلى هنا وألقي كلمة، لم نكن لنتوقَّع أنَّ النقاش سيحل في الوقت الأنسب على الإطلاق. كلُّ مَن شاهد شاشات التلفزيون في الأيام القليلة الماضية رأى بلا شك الصور التي تصل من لبنان وغزَّة. في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، نرى أزمة عميقة، تزداد عمقًا. ربَّما كانت الأكثر حدَّة الآن في لبنان وغزَّة، لكن يبقى العراق والمسائل الإيرانية في المقدمة أيضًا.

لبنان: عالم مصغَّر عن الأزمة في الشرق الأوسط

في العقود القليلة الماضية، كان من نافل القول إنَّ الشرق الأوسط في أزمة. ففي هذه المنطقة، هناك أزمة دائمًا. لكنَّ نظريتي اليوم هي أنَّ الأشكال والأنماط التي اتَّخذتْها الأزمةُ في الشرق الأوسط في الأعوام القليلة الماضية تختلف عن السابق اختلافًا أساسيًّا. تغيَّر المشهد الجيوسياسي في المنطقة إلى حدٍّ كبير، حيث ظهرت تحدِّيات ذات ديناميَّات أكثر تعقيدًا، ومسبِّبة للاضطراب على نطاق أوسع، وأكثر خطورة، كما لم تشهده المنطقة منذ وقت طويل جدًّا.

تَظهر هذه الديناميَّات في شكل أساسي في لبنان، الذي هو، من نواحٍ عدَّة، صورة مصغَّرة عن المنطقة ونزاعاتها وأزماتها. الأزمة – أو بالأحرى الأزمات – في لبنان هي، على غرار الأزمات في الشرق الأوسط كلِّها، محلِّية وإقليمية في الوقت نفسه، إنَّما عالمية أيضًا.

يواجه لبنان على وجه الخصوص تحديًا رئيسًا يتمثَّل في إعادة بناء الدولة وترسيخها. ولطالما كانت طبيعة البلاد وتوجُّهها الأساسيان محطَّ نقاش في سياق تركيبتها الشديدة التنوع. كان هذا عاملاً مسبِّبًا للحرب الأهلية التي دمَّرت ما كان يُعرَف في السابق بـ"سويسرا الشرق"، وفي قلبه بيروت، "باريس الشرق الأوسط". لم يدمْ نجاح لبنان طويلاً لأنَّ المسائل الجوهرية المتعلِّقة بطبيعة الدولة والمجتمع بقيت من دون حل.

أدَّت حربٌ أهلية مدمِّرة جدًّا إلى استنزاف البلاد طوال خمسة عشر عامًا، وانتهت بتوقيع "وثيقة الوفاق الوطني" التي سعت إلى إرساء أُسُس نظام سياسي جديد. وضعت اتِّفاقات الطائف، التي جرى التوصلُ إليها هنا في السعودية، خريطة طريق لإزالة الطبيعة الطائفية للسياسة والمجتمع اللبنانيَّين. ومع تسلُّم رفيق الحريري الدفَّة – هذا الرؤيوي اللبناني الذي جنى معظم ثروته الشخصية هنا في السعودية – انطلق لبنان في عمليَّة إعادة إعمار اقتصادية وسياسية.

ومع ذلك، بقي لبنان بعد الحرب الأهلية مشروعًا غير مكتمل لترسيخ الدولة. أُرسِيَ نظامٌ مؤقَّت بدا مستقرًّا، لكنَّه ظلَّ حلاًّ مؤقتًا في أفضل الأحوال، إذ حافظ كلٌّ من إسرائيل وسوريا على وجود عسكري. ساد توازن هش.

تغيَّر هذا الوضع تحت تأثير عملية السلام في التسعينيات وانسحاب القوَّات الإسرائيلية في أيار 2000. كنت محظوظًا بأن أشارك في هذه العملية بصفة المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتَّحدة المكلَّف شؤون المفاوضات الفعلية بين الإسرائيليين واللبنانيين والسوريين. وقد أدَّت هذه العملية إلى انسحاب كامل للقوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية. وكان ما حصل ذا طبيعة مترامية الأبعاد. ومع انتهاء الاحتلال الإسرائيلي، وُجِدَ زخمٌ جديدٌ من أجل تثبيت لبنان دولةً مستقلَّة وسيِّدة في قلب الشرق الأوسط.

قاد هذا الزخم في نهاية المطاف إلى تبنِّي مجلس الأمن القرار 1559، ثم إلى سحب سوريا جنودها وعتادها العسكري واستخباراتها العسكرية في آذار/نيسان 2005. ومجددًا، حظيتُ إبان هذه العملية بفرصة العمل مبعوثًا خاصًّا لأمين عام الأمم المتَّحدة ومفاوِضًا على الانسحاب السوري. وتفاوضنا أيضًا حول تنظيم أول انتخابات حرَّة وعادلة في لبنان، حصلت في أيار وحزيران 2005.

لبنان ساحة بالوكالة عن صراعات إقليمية أوسع نطاقًا

لكن، في الوقت نفسه، ظلَّ هناك خلاف حاد حول التأثير والدور اللذين يملكهما كلُّ طرف في لبنان. يبقى القادة السياسيون اللبنانيون على ارتباط وثيق بقوى خارجية. وهكذا يبقى لبنان ساحةً يخوض فيها الآخرون صراعاتهم بالوكالة. يظل عالمًا مصغَّرًا يعكس التحدِّيات التي تميِّز الشرق الأوسط في الوقت الراهن وتصوغه.

خير مثال على أنَّ لبنان لا يزال ساحةً تُخاض فيها الصراعاتُ الإقليميةُ الأوسع هو الحرب بين إسرائيل و"حزب الله" الصيف الفائت [2006]. كانت الحرب تدور على الأراضي اللبنانية، لكنَّ الحكومة اللبنانية لم تكن تشارك فيها؛ ففي الواقع، كانت الحكومة اللبنانية تُعارِضُها إلى حدٍّ كبير. لكنَّ الحرب كانت مثالاً على الترابط بين الصراعات في الشرق الأوسط التي تتقاطع جميعًا في لبنان.

تقع في قلب التحدِّيات في لبنان طبيعةُ البلاد وتوجُّهها، وموضوع السياسة اللبنانية والسيادة والاستقلال اللبنانيين. هذه المسألة مستقلَّة إلى حدٍّ كبير عن الصراع العربي–الإسرائيلي، لكن لا شكَّ في أنَّ هناك روابط متعدِّدة الجانب بينهما.

عدم الاستقرار المستمر الذي يعاني منه لبنان في أعقاب الحرب – لا بل بدأ قبلها – يتمحور أيضًا حول المحكمة الدولية في قضية اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في شباط 2005. إنَّها مسألة أساسية، داخلية في طبيعتها، إنَّما إقليمية وحتَّى دولية أيضًا. فمسألة المحكمة الدولية التي غذَّت منذ كانون الأول الماضي مأزقًا وشللاً سياسيَّين مستمرَّين في لبنان، تُظهِر في طبيعتها الترابط بين لبنان وساحات أخرى، مثل سوريا وإيران؛ لكنَّها تُظهِر أيضًا التدخل العميق لقوى دولية، لاسيَّما فرنسا والولايات المتَّحدة، وروابطها التاريخية مع لبنان.

سوريا هي الأكثر تأثُّرًا بطريقة مباشرة بمسألة المحكمة الدولية في لبنان. هناك مزاعم – ولو لم تكن هناك أدلَّة حاسمة حتَّى الآن – بأنَّ سوريا قد تكون متورِّطة، بطريقة أو بأخرى، في اغتيال الحريري. تنكر سوريا هذا الأمر إنكارًا شديدًا.

لدى سوريا مصالح مترامية الأبعاد في لبنان. تجمعها روابط وثيقة ومستمرَّة منذ وقت طويل بميليشيا "حزب الله" اللبنانية؛ وتضم أيضًا المراكز الرئيسة لعدد من المجموعات الفلسطينية التي تعمل في لبنان، حيث التوازن بين الميليشيات الفلسطينية والقوى الحكومية مسألة اشتهرت بحساسيَّتها. ولسوريا، تقليديًّا، علاقة بالرئيس [السابق إميل] لحود وأحزاب أخرى موالية لها. هناك بلا شك علاقة تاريخية بالاستناد إلى مفهوم "سوريا الكبرى". وهكذا فإنَّ تحدِّي بناء الدولة وترسيخها في لبنان هو أيضًا تحدِّي تحديد طبيعة علاقاته بسوريا.

ينطبق الأمر نفسه، إلى حدٍّ ما، على إيران ودورها في لبنان وحياله. لدى بعض المجموعات اللبنانية، مثل "حزب الله"، روابط وثيقة مع إيران؛ وبالتأكيد يحافظ الشيعة اللبنانيون على علاقة خاصة بالطائفة الشيعية في إيران وقيادتها. لكن، في خلفيَّة هذا الأمر، وفي سياق تحدِّي ترسيخ الدولة في لبنان، تقع مسألة التعايش الطائفي والتأثير الذي تمارسه القوى المختلفة. وهناك أيضًا اعتقاد قوي بأنَّ "حزب الله" ليس مجرَّد عصبة أو ميليشيا سياسية محلِّية لبنانية، بل يشكِّل أيضًا جزءًا من تحالف أوسع يسعى إلى التأثير في السياسة في لبنان ويرغب في تحدِّي إسرائيل. وقد اعتبر بعض المحلِّلين أنَّه حتى جزء من تحالُف أوسع يسعى إلى فرض نفوذ شيعيٍّ متنامٍ في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وتجمعه روابط بالعراق و"جيش المهدي" بقيادة رجل الدين مقتدى الصدر.

صلة لبنان بالعراق هي برهان آخر على أنَّ لبنان هو فعلاً عالم مصغَّر عن الأزمات الكبرى في الشرق الأوسط. ونصل هنا إلى الأحداث الأخيرة. لطالما كانت هناك مخاوف من أن تتسلَّل المجموعاتُ السنِّية السلفية المقاتلة من العراق إلى لبنان. يُزعَم أنَّ للمجموعة التي تتواجه مع القوَّات الحكومية اللبنانية، "فتح الإسلام"، صلات بسوريا – لكنَّ سوريا تنكرها؛ ويقال أيضًا إنَّ لديها روابط مع المجموعات الإرهابية العراقية ومع تنظيم "القاعدة". قائدها المزعوم، وهو أردني من أصل فلسطيني، متورِّط في مقتل مسؤول في "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" في الأردن في العام 2001. ويعتقد كثيرون أنَّ أسلحة ومقاتلين وصلوا إلى لبنان من العراق، مع أنَّي لا أستطيع أن أجزم إذا كان هذا صحيحًا أم لا.

الانطباعات والوقائع وأهمِّية الصراع العربي–الإسرائيلي

في الواقع، دعوني أتوقَّف قليلاً للتحدث عن أهمِّية الانطباعات في صراعات الشرق الأوسط وأزماته. للعديد من عناصر الأزمة المتعدِّدة الوجه في لبنان علاقة بالانطباعات والمزاعم أكثر من أيِّ شيء آخر. لست مخوَّلاً القول إذا كانت هذه المزاعم مبنيَّة على أُسُس أم لا. لكن المهم هنا هو الإشارة إلى أنَّ الانطباعات هي التي تحرِّك الوقائع، وليس الحقائق الفعلية للأمور.

لا شكَّ في أنَّ مصير لبنان مرتبط أيضًا ارتباطًا وثيقًا بالصراع العربي–الإسرائيلي. وقد أظهرت الحرب الصيف الفائت الرابط الإسرائيلي المستمر بالساحة اللبنانية. وهناك أيضًا الرابط الفلسطيني العميق الذي يتجلَّى من خلال وجود مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين في البلاد. بعض هؤلاء اللاجئين عالقون الآن وسط القتال بين القوَّات الحكومية اللبنانية و"فتح الإسلام"؛ إنهم يتحمَّلون وزر المواجهة كمدنيين أبرياء.

بناءً عليه، لبنان هو ساحة معركة للعديد من المصالح المتداخلة والمتعارضة في الشرق الأوسط، وعالم مصغَّر عن الصراعات الكثيرة في المنطقة. يعتبره بعضُ الدول العربية المعتدلة ساحة معركة بين السنَّة والشيعة. والأهم من ذلك، هناك اعتقاد قوي في العديد من العواصم العربية بأنَّ الصراعات في لبنان على صلة وثيقة بما يُعتبَر الخط الفاصل الجديد في المنطقة بين قومية إيران الفارسية التي تزداد إثباتًا لوجودها، من جهة، وبين القومية العربية، من جهة أخرى. والتدخل الأميركي في لبنان هو أيضًا دليل على الأزمة الأوسع نطاقًا في المنطقة المتَّصلة بالتدخل الخارجي. ويتجلَّى هذا أكثر فأكثر في العراق، إنَّما أيضًا في أماكن أخرى.

هكذا يعكس العالم المصغَّر اللبناني الصراعات الإقليمية للمصالح الوطنية والانقسامات الدينية/الإيديولوجية. إنَّه قدر اللبنانيين السيئ والمأسوي، الذي لا يُحسَدون عليه، أن يخوض الجميعُ حروبَهم على أرضهم.

كما يتبيَّن لنا من الحالة اللبنانية، هناك مسائل وأزمات متعدِّدة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. ويُظهِر واقعُ أنَّها تتحرَّك على أبعاد ومستويات كثيرة تعقيدات المنطقة وهشاشتَها في الوقت الراهن.

من مركز ثقل إلى أربع بؤر للصراعات والأزمات

إلى جانب تحدِّي ترسيخ الدولة في لبنان، يبقى هناك مشروع بناء الدولة في العراق، مع تداعيات إقليمية وعالمية مماثلة. وهناك – أيضًا – المسائل المتعلِّقة بإيران وبرنامجها النووي، وبالتأكيد، الصراع العربي–الإسرائيلي الذي لم يلقَ حلاًّ بعدُ، وفي قلبه الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني. يمكن إلقاء مداخلة مشابهة جدًّا تُسلِّط الضوء على التعقيدات الإقليمية، إنَّما عبر الحديث عن غزَّة.

لا داعي لأن أكرِّر أنَّ هذه المحن كلَّها ليست ذات أهمِّية لسكَّان المنطقة وحسب؛ فعدم الاستقرار والصراع في الشرق الأوسط يكتسبان، بطبيعتهما، حجمًا عالميًّا. هذه المنطقة مهمَّة جيوستراتيجيًّا وجيواقتصاديًّا أكثر من أية منطقة أخرى في العالم.

وفي هذه المنطقة أيضًا، يترابط المحلِّي والإقليمي والعالمي ترابطًا لا نشهده في أية منطقة أخرى: كلُّ ما يعني مجتمعًا معيَّنًا في المنطقة يؤثِّر في المجتمعات الأخرى كلِّها؛ وتُصدَّر أزماتُ الشرق الأوسط على الفور أيضًا إلى جميع العواصم في مختلف أنحاء العالم الإسلامي؛ وتُلامِس القلوبَ والعقولَ في العواصم الغربية كلِّها أيضًا. لذلك فإن هذه الصراعات المحلِّية والإقليمية هي عالميَّة الحجم بطبيعتها. وفي الوقت نفسه، تجدر الإشارة إلى أنَّ البعد العالمي لهذه الصراعات ليس عبارة عن مواجهة بين المجتمعات أو الحضارات أو المجموعات المذهبية. فالخطوط الفاصلة هي داخل المجتمعات والثقافات، وحتَّى المتَّحَدات، سواء كانت إثنية أم مذهبية. بدلاً من "صِدام الحضارات"، نحن أمام صِدام القيم والتفضيلات المتعارضة.

أودُّ في البداية الإشارة إلى أنَّ المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط تغيَّر كثيرًا في الأعوام القليلة الماضية. طوال عقود، كانت المسألة الأساسية التي تسيطر على هذه المنطقة وتصوغها هي الصراع العربي–الإسرائيلي. شكَّل هذا الصراعُ مركز ثِقَل تدور حوله المنطقة. رسم كلَّ شيء وطغى عليه. أثَّر تأثيرًا أساسيًّا في السياسة المحلِّية العربية، وكذلك في العلاقات العربية والإقليمية، وحدَّد السياسة الإجمالية والروابط والصلات الدولية للمنطقة.

لكنَّ هذا تغيَّر تغيرًا نموذجيًّا في الأعوام الأربعة أو الخمسة الأخيرة. لم يعد الصراع العربي–الإسرائيلي الصراع الوحيد الذي يطبع المنطقة. قطعًا لا يزال أساسيًّا، وهو في حاجة ماسَّة إلى حل، لأنَّه يظل شرطًا مسبقًا أساسيًّا لتغيير الديناميَّات السياسية والدبلوماسية. ويجب أن يستند هذا التغيير إلى المبادرة العربية وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة وخريطة الطريق.

لكن، بدلاً من وجود مركز ثقل واحد، هناك الآن أربع بؤر من الأزمات والنزاعات وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط. تختلف هذه البؤر في أصولها ونماذج المواجهة فيها؛ وهي، في الوقت نفسه، مترابطة إلى حدٍّ كبير، كما سبق أن أشرت في موضوع لبنان. بؤر النزاعات والأزمات الأخرى هي: العراق وإيران والساحة الإسرائيلية–الفلسطينية.

نتيجة هذا التحول، شهدنا تكيُّفًا في إدارة الأزمات وتسوية النزاعات في المنطقة. فعلى سبيل المثال، المملكة العربية السعودية هي في طليعة انخراط جديد في الساحات المتعدِّدة للأزمات والالتباسات. لقد استبطنت – ربَّما أكثر من أيِّ بلد آخر – الحاجة إلى انخراط شامل في مجال السياسية الخارجية على الجبهات كافة. من دون مقاربة شاملة، لا يمكن تحقيق الكثير. فعلى سبيل المثال، لا يستطيع لبنان التخلص من المأزق الداخلي الحالي بين الحكومة وقوى المعارضة أو تجاوز الصدام بين الدولة والفاعلين المتطرِّفين غير الدولتيين إذا جرت معالجة كلِّ تحدٍّ على حدة.

نتيجةً لذلك، كانت الجهود الدبلوماسية التي بذلتْها السعودية العام الفائت كاشفةً من الناحية التحليلية، وجديرةً بالثناء وخلاَّقةً من الناحية السياسية. رأينا المملكة تقود مبادراتٍ لتجاوُز الانقسامات في لبنان وبين الفلسطينيين. في موازاة ذلك، وبقيادة السعودية، أطلقت الجامعة العربية من جديد مبادرة السلام العربية كأداة لإعادة إحياء عملية السلام في الشرق الأوسط. رأينا السعودية تبذل جهودًا كجزء من انخراط جيران العراق – وحتَّى مع إيران التي يشكِّل برنامجُها النووي مصدر قلق كبيرًا لكثيرين في العالم العربي. ومن المهم الإشارة إلى أنَّه حتَّى لو لم تؤدِّ هذه الجهود إلى نتائج فورية، فالانخراط فيها مهم في حدِّ ذاته: فهو يساهم في احتواء النزاعات التي يمكن لها أن تخرج بسهولة عن السيطرة.

دعوني أورِد، في اختصار، طبيعة بؤر النزاع والمواجهة الثلاث الأخرى والمسائل الأساسية التي تطرحها.

العراق: تحدٍّ للاستقرار الإقليمي الأوسع نطاقًا

لا شكَّ في أنَّ العراق يشكِّل أزمةً أساسيةً في الشرق الأوسط اليوم، سواءٌ في خصوص دول الخليج العربي أم في خصوص فاعلين آخرين في المنطقة وخارجها. غنيٌّ عن القول إنِّ الساحة العراقية ليست على ارتباط مباشر بالصراع العربي–الإسرائيلي ولا بلبنان، للوهلة الأولى. لكنَّ عدم الاستقرار في العراق يوجِد فراغًا تدور فيه صراعاتٌ كثيرةٌ أوسع نطاقًا، كما في لبنان. يتحدَّى بعض المجموعات الولايات المتَّحدة وحلفاءها. هناك تطرُّف وقتالية يضفيان على الإسلام، الذي يدَّعي الإرهابيون أنهم ينفِّذون عملياتِهم باسمه، صورةً سيئةً غير عادلة. هناك تشنجات بين السنَّة والشيعة، ومصالح متعارضة بين العرب والأكراد. وهناك قطعًا ما يُعتبَر صراعًا بين تأثير فارسي يزداد إثباتًا لوجوده وبين أمَّة عربية محاصَرة بالمصاعب.

كما في لبنان، يجب معالجة مصير العراق على المستوى المحلِّي أساسًا، بين العراقيين أنفسهم؛ لكن، على غرار لبنان، لن يكون هذا ممكنًا أو مُستدامًا إذا لم ترافِق عمليةٌ سياسية إقليمية هذا التقدم الداخلي وتمكِّنه وتدعمه.

إيران والبرنامج النووي

كما سبق أن ذكرت، تُعتبَر التحدِّيات المتعدِّدة الجانب في كلٍّ من العراق ولبنان على ارتباط وثيق بتحول إقليمي أوسع نطاقًا. في الواقع، إلى جانب إعادة الترتيب الجوهرية لميزان القوى في الشرق الأوسط، فإن أحد التغييرات الأساسية هو التحول الزلزالي في جيوسياسة المنطقة. برزت إيران الآن لاعبةً أساسيةً في المنطقة بأسرها، وتُعتبَر منخرطةً في العديد من الساحات. في الواقع، هذه الحالة حاضرة بقوَّة إلى درجة أنَّ بعضهم يعتبر إيران مركز الثقل الجديد للصراعات في المنطقة.

الصيف الفائت، عندما رافقتُ أمين عام الأمم المتحدة آنذاك كوفي أنان في أسفاره إلى هذه المنطقة وسط الأزمة حول الحرب بين إسرائيل و"حزب الله"، لمسنا مرارًا وتكرارًا أنَّ العيون في المنطقة لم تكن تتركَّز فقط على تل أبيب، بل كانت مسدَّدة أيضًا نحو طهران. وأظن أنَّ الحال مستمرة على هذا النحو.

هكذا تمثِّل إيران، في تحليلي، بؤرة الأزمة الرابعة. أثار البرنامج والطموحات النووية الإيرانية أسئلةً كثيرة في المجتمع الدولي الأوسع، كما في هذه المنطقة. جرى التعبير عن مخاوف، عن حقٍّ أم خطأ، حول ما إذا كنَّا نشهد إعادة إحياء للمطامع القومية الفارسية القديمة. دعوني أقول في وضوح إنَّ الجمهورية الإسلامية، كأية دولة أخرى موقِّعة على معاهدة حظر الانتشار، تتمتع بحقٍّ لا يقبل الجدل في تطوير طاقة نووية لأهداف مدنية. لكن ينبغي عليها أن تفعل ذلك ضمن حدود نظام حظر انتشار السلاح النووي. يجب الإجابة عن الأسئلة التي بقيت من دون معالجة حتى الآن. ومن دون حلٍّ لأزمة البرنامج النووي الإيراني، من غير المحتمل أن نشهد الكثير من التقدم نحو تسوية أية من المسائل الأساسية الأخرى في المنطقة، مثل لبنان أو العراق أو الصراع العربي–الإسرائيلي.

سوف تترتَّب أيضًا مضاعفاتٌ مهمةٌ أخرى إذا لم تجرِ معالجةُ المسائل المتعلقة ببرنامج إيران النووي. وهي مقلقة جدًّا. أولاً، فإنَّ نظام عدم الانتشار العالمي، الضعيف أصلاً، سيتداعى أكثر فأكثر وقد ينهار. ثانيًا، قد ينجم عن ذلك سباقُ تسلُّح يبدأ على الأرجح هنا في المنطقة، لكنه، ولا شك، لن يبقى محصورًا فيها لفترة طويلة.

أشرت آنفًا إلى أنني أعتقد أنَّ الانطباعات تكون أحيانًا أهم بكثير من الوقائع، لأنَّ الانطباعات هي التي تحفِّز الأفعال. وبرنامج إيران النووي هو أحد الأمثلة على ذلك. فهو لا يتعلَّق بالضرورة بما يجري في المنشآت النووية الإيرانية. إذا بقيت الأسئلة التي طُرِحت من دون أجوبة، فقد يستنتج عددٌ كبيرٌ من الفاعلين السياسيين في المنطقة أنَّ المسألة الحقيقية تتعلَّق بطموحات ناشئة تسعى إلى الهيمنة. إذا سُمِحَ للصدع بين "الفرس" و"العرب" أن يتعمَّق فسوف يهدِّد المنطقة بكاملها ويزيد الانقسامات فيها.

الترابط بين بؤر الأزمات ومبادرة السلام العربية

نظرًا للترابط الشديد بين الساحات المتعدِّدة والصراعات في الشرق الأوسط، من المهم جدًّا أن تُعالَج كلُّها على مسارات متوازية. وأظن أن الدبلوماسية السعودية أرست مثالاً يمكن الاقتداء به. من مصلحة الجميع التعاطي تعاطيًا إيجابيًّا مع المبادرات والاقتراحات التي وُضِعت على الطاولة.

لا يمكن لنا أن نفي مبادرة السلام العربية، التي أعدَّها وكان رأس الحربة فيها الملك عبد الله، الذي كان آنذاك وليًّا للعهد، حقَّها من التقدير. إنَّها الأداة الواعدة التي نملكها الآن للبدء في تخطِّي الشك والصراع بين العرب وإسرائيل. وسوف تسمح لنا ببناء مزيد من الزخم نحو مفاوضات إسرائيلية–فلسطينية وعربية–إسرائيلية.

تتولَّى حركة "حماس" الحكم في السلطة الفلسطينية منذ كانون الثاني 2006. وقد أدَّى العنف بين الفصائل في غزَّة إلى معاناة جديدة وأزمة أخرى للمدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين الذين تنهال عليهم صواريخ "القسام" باستمرار. من هذا المنطلق، من الضروري للغاية أن يكون هناك إحياء مستدام وناجح لعملية السلام. ولا شكَّ أيضًا في أنه سيساعد على تحقيق تقدم في العراق، ومع إيران، وفي لبنان.

ومبادرة السلام العربية هي الآن الأداة التي يمكن لها أن تخلق زخمًا جديدًا وتقود إلى تجدُّد المفاوضات. هنا، التحدِّي المطروح على المجتمع الدولي هو أن يتبع المسار الذي سلكتْه السعودية وأعضاء آخرون في الجامعة العربية. يقع على عاتق اللجنة الرباعية، المؤلَّفة من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، التجاوب مع المبادرة وإيجاد دينامية جديدة من التفاعل والتفاوض.

لا شكَّ أنه من شأن تجدُّد الزخم على الجبهة العربية–الإسرائيلية أن يعود بأثر إيجابي على لبنان. ستخسر الفصائل الفلسطينية المقاتلة ومَن يُعرَفون بـ"الإرهابيين الإسلاميين" تبريرًا مهمًّا لأعمالهم التخريبية، وسيتمكَّن اللبنانيون من التركيز على التحدِّي الداخلي المتمثِّل ببناء دولة ناجحة وترسيخها.

مصير لبنان في المستقبل

قد لا يتغيَّر أبدًا قدرُ لبنان الذي يجعل منه عالمًا مصغَّرًا للصراعات في الشرق الأوسط. لكن من المتعذر معالجة مصاعبه الداخلية في معزل عن المعطيات الإقليمية والعالمية الأوسع. في العام 1916، كتب شاعر لبنان الكبير، جبران خليل جبران، عن اللبنانيين الذين ماتوا في المجاعة الكبرى عامذاك:

مات أهلي جائعين، ومَن لم يمت منهم جوعًا قضى بحدِّ السيف.
[...]
ماتوا جوعًا في الأرض التي تدرُّ لبنًا وعسلاً.
[...]
ماتوا لأن الأفاعي أبناء الأفاعي قد نفثوا السموم في الفضاء الذي كانت تملؤه أنفاسُ الأرز وعطورُ الورود والياسمين.[3]

أظن أنَّ ما يعلِّمنا إياه جبران وما أدركَه بعضُهم في الشرق الأوسط هو الآتي: لا يمكن تحسين قدر لبنان المأسوي إلا إذا تمَّ العثور على جميع "الأفاعي أبناء الأفاعي" وعُطِّلَت "سمومهم"، فتزدهر أرض لبنان الخصبة وتثمر. وبما أنَّ لبنان هو بالفعل عالم مصغَّر للصراعات في المنطقة بأسرها، ينطبق القولُ نفسه على الشرق الأوسط في مجمله.

*** *** ***

ترجمة: نسرين ناضر


[1] مداخلة قُدمت في "مركز الملك فيصل للأبحاث والدراسات الإسلامية".

[2] رئيس "أكاديمية السلام الدولية"، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لتطبيق قرار مجلس الأمن 1559.

[3] جبران خليل جبران، "العواصف"، في المجموعة العربية الكاملة...، بإشراف وتقديم ميخائيل نعيمه، دار صادر، بيروت (بلا تاريخ)، ص 428، 430. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود