سيمون ڤايل: عندما يغيِّب الألم الألوهة٭

حربي محسن عبدالله

 

منْ لايرى في الحياة إلا وجهها الدموي، بتعبير آخر منْ لايرى فيها غير صراع قوى، لن يتمكن من التعاطف أو الاستماع إلى ما تقوله سيمون ڤايل، ولن يرى فيها، في أحسن الأحوال، غير الإنسانة المثالية الحالمة، وهذه هي المقاربة الأسهل التي تميل إليها الأكثرية من البشر. بمعنى آخر منْ يؤمن أن الحياة هي هكذا أو هي ما يقع. ولكن منْ يتفحص مواقف وكتابات سيمون ڤايل بعين النقد الحقيقي الذي يرتكز على نظرة ومقاربة أخرى ترى الحياة مسيرة طويلة وشاقة نحو الكمال الإنساني الذي يصل إلى القناعة بأن القداسة والكمال من الأمور التي يمكن اكتسابها (كما تؤمن البوذية)، يرى فيما تقوله وتكتبه جرأة نادرة، وصدقًا، وصراحة، ونقدًا لاذعًا يخرج من إنسان حقيقي يعيش الحالة التي يكتب عنها، ويتماهى مع عذاب الآخرين، ويشاركهم بلواهم حقيقةً عمليةً لا مجازًا وتنظيرًا. بل نرى فيها أيضًا منْ يتنكب الطريق الصعب بعدم الإستسلام التام لأيِّ خيار من الخيارات التي تضعها أمامنا الأقدار، بل الوقوف أمام أيِّ رأي قد يفرضه القطيع، الذي يميل بطبعه إلى السهولة وهيِّن الخيارات، بالنقد والتعديل. كما أنها، عندما تصل إلى قناعة معينة بالتحول من دين آبائها "اليهودية" إلى "المسيحية"، أو عندما تقرر الانضمام إلى الحزب الشيوعي، أو مغادرته، لا يفوتها أبدًا أن تضع هذا التحوُّل تحت مبضع النقد، أي إنها لا تستسلم أبدًا لما يبدو أنه من الثوابت على أنه مطلق نهائي، وهذا ما كان يثير حولها اللغط، وقد تعرضت بسببه للنبذ والعداء من قبل رفاق الأمس.

سيمون ڤايل، الفيلسوفة والمناضلة الكبيرة، التي ولدت في باريس في 3 شباط 1909 من أسرة يهودية مثقفة غير متديِّنة، وتوفيت في 24 آب 1943 في قلب مسيحية لم تنتسب البتة إلى مؤسساتها، تحارب الإيمان الدوغمائي بمحاربتها للعجز، وتؤكد هذا الموقف في مقاربة لها قائلة:

... العجز الذي نجد أنفسنا أسرى له في لحظة معينة، والذي يجب عدم التعامل معه إطلاقًا كشيء نهائي، لا يعفينا من أن نبقى مخلصين لأنفسنا، ولا يبرِّر بأيِّ شكل كان التخاذل أمام العدو، أيًّا كانت المسمَّيات التي يتزين بها [هذا العدو]، فاشية كانت أم ديموقراطية أم ديكتاتورية پروليتارية. إن عدونا الرئيس هو الجهاز الإداري، البوليسي أو العسكري؛ ما يعني أنه ليس ذاك الذي يواجهنا والذي هو عدونا بمقدار ما هو عدو إخوتنا. إنما عدونا هو مَن يدَّعي أنه يدافع عنَّا ويحوِّلنا إلى عبيد. وفي كلِّ الأحوال، تبقى أحقر الخيانات أن نقبل الخضوع لهذا الجهاز وأن ندوس بأقدامنا، في سبيل خدمته، في أنفسنا وعند الآخرين، على القيم الإنسانية كلِّها.

عندما تتحدث سيمون ڤايل عن الشقاء والألم الذي يعيش فيه الملايين من العمال فإنها تتحدث عن شيء عايشته هي ولم تقرأ أو تسمع عنه من أحد، لذلك توجِّه سهام نقدها نحو من ينظِّر عن أمور لم يختبرها حقيقة، حتى وإن كان المعني لينين أو تروتسكي، لأنها، وببساطة، تعرف أنهم لم يكونوا عمالاً في يوم من الأيام. ومن السهولة بمكان وصف حالة من الحالات ولكن من المؤكد أن التماهي معها دون معايشتها أمرًا عسيرًا. فهي تعرف معنى الألم الذي يصل به الإنسان حدَّ الإغماء والرغبة الدفينة في الخلاص منه بالانقطاع عن حالة الوعي أو طلب الغيبوبة، الذي قد يكون بعيد المنال. عندما تتحدَّث عن العذاب والشقاء والألم فهي تدرك تمامًا اللحظة التي تغيب فيها الألوهة لبعض الوقت تاركةً الإنسان للفراغ، فتقول:

لا يمكن الفصل بين الشقاء وبين الألم البدني، على الرغم من أنَّ من الممكن جدًّا التمييز بينهما. فحين نتحدث عن الشقاء يبدو كل ما ليس له علاقة بالألم البدني، أو بما يشبهه، سطحيًّا وواهيًّا ومن الممكن إزالته عن طريق مراجعة فكرية مناسبة. [والألم] غالبًا ما يماثل الشقاء. هذا الشقاء الذي يمكن اعتباره انقطاعًا للحياة عن جذورها والذي يشبه الموت إلى حدٍّ ما. [...] فالألم أجبر المسيح على التوسل كي يتجنبه، ودفعه إلى البحث عن العزاء عن طريق البشر، معتقدًا أنَّ أباه قد تخلَّى عنه. و[العذاب] هو الذي دفع بارًّا [كأيوب] لأن يصرخ في وجه ربِّه [...] لأن الألم يغيِّب الألوهة بعض الوقت، فيجعلها تبدو بعيدةً كالموت أو كالضوء في زنزانة دامسة الظلام. عندئذٍ تغمر الرهبةُ النفسَ بالكامل. لأنه أثناء غياب كهذا لا يبقى شيء نحبه. والرهيب هو توقف النفس عن المحبة، لأنه وسط هذه الظلمات التي لا يوجد فيها ما نحب، يكاد غياب الألوهة أن يصير نهائيًّا. الأمر الذي يستلزم من النفس الاستمرار في حبِّها ولو للفراغ، حيث يجب عليها أن تستمر في رغبتها في أن تحب، ولو من خلال جزيء لامتناهٍ في الصغر. عندئذٍ يأتي ذلك اليوم الذي يتجلَّى لها فيه الإله، فيريها جمال العالم، تمامًا كما حصل مع أيوب. أمَّا إذا كفَّت النفس عن المحبة فإنها تسقط فيما يشبه الجحيم.

تذكِّرني هذه الكلمات بأحداث رواية شرق المتوسط للراحل عبد الرحمن منيف، وكيف يتساءل بطل الرواية، وهو تحت التعذيب في أقبية البوليس السرِّي، وعندما يصل العذاب ذروته، عن الإله الذي يحكم هذا العالم، وكيف يرضى بما يحصل في هذه الزاوية الرهيبة من الكون.

عندما اختارت سيمون ڤايل الوقوف إلى جانب الجمهوريين في الحرب الأهلية الاسبانية لم يفتها أن تلاحظ ما تطبعه الحرب في النفوس من آثار لا تمحى، من الهمجية والرغبة الدفينة بالقتل والقسوة، وإن تغلَّفت بالتضحية والفداء من أجل هدف نبيل؛ فتقول:

نتطوع في بادئ الأمر حاملين أفكارًا تدعو إلى التضحية، ثم ما نلبث أن نجد أنفسنا وقد وقعنا في أتون حرب تشبه حروب المرتزقة، بما يرافقها من وحشية وقسوة لا تراعي أية قيمة للأعداء. لأني أشعر بأنه حين تضع السلطات  الزمنية والروحية مجموعة من البشر خارج النطاق الذي يضفي قيمةً على الحياة الإنسانية فإنه يصير من الطبيعي أن يتحول الإنسان إلى قاتل. لأننا حين ندرك أنه صار بوسعنا القتل من دون أن ينالنا القصاص أو اللوم فإننا سنقتل، أو على الأقل، سنشجع بابتسامتنا أولئك الذين يقتلون.

تنقلنا سيمون ڤايل، في كتاب مختارات، الذي صدر عن دار معابر للنشر في دمشق ترجمة محمد علي عبد الجليل، إلى عوالمها المتعددة، فنتعرف على امرأة خبرت الحياة والأفكار، ولامس شغاف قلبها الحب الكبير للإنسان بقوته وضعفه. الملفت فيما تقول وتكتب هو العمق والتنوع، فكأنها مسبار يتفحص ما يمرُّ تحته بعدسة غاية بالدقة، غير مبالية بما يبدو للوهلة الأولى وكأنه من البديهيات. تتحدث في فصل بعنوان الإلياذة أو قصيدة القوة كيف تحوِّل القوة الإنسان إلى شيء فتقول:

إنَّ البطل الحقيقي، الموضوع الحقيقي، مركز الإلياذة هو القوة؛ القوة التي يستعملها الرجال، القوة التي تخضع الرجال، القوة التي تنقبض أمامها أجساد الرجال. فالنفس البشرية لا تفتأ تظهر لهم وهي تغيِّرها علاقاتها مع القوة، تجرُّها وتعميها القوة التي تعتقد النفس امتلاكها، تنحني تحت وطأة القوة التي تخضع لها. فالذين كانوا يحلمون بأن القوة أصبحت، بفضل التطور، شأنًا من شؤون الماضي، أصبح بإمكانهم أن يروا في هذه القصيدة وثيقةً؛ والذين يعرفون كيف يميزون القوة، اليوم كما في الماضي، في مركز التاريخ البشري بِرُمَّته يجدون فيها أجمل المرايا وأصفاها. القوة هي ما يحوِّل أيَّ شخص يخضع لها إلى شيء. فعندما تمارَس حتى نهايتها، تجعل الإنسان شيئًا بالمعنى الأكثر حرفية، لأنها تجعله جثةً. يكون هناك شخصٌ ما، وإذْ بعد لحظة ليس هناك أحد. إنها لوحةٌ لا تملُّ الإلياذة من تقديمها لنا:

... كانت الخيول تجرُّ العربات الفارغة.. ترنُّ على طرقات الحرب..
هي في حِداد على سائقيها الذين لا ملامةَ عليهم.
فهم كانوا على الأرض يرقدون، هم أغلى بكثيرٍ على الكواسر من غلائهم على نسائهم.

ثم تأخذنا في رسالة إلى رجل دين إلى وجهة نظرها في الخيط الذي يربط الأسطورة بالدين، فتربط بهذا الخيط، على سبيل المثال، أسطورة اسكندنافية عن كبير الآلهة وهو "أودن" مع المسيح، وأودِن أو أودين أو ﭭوتان Odin، Odhin، Wotan - وهو كبير الآلهة في الميثيولوجيا الإسكندناﭭية - يُدعى بأبي الآلهة. اسمه مشتق من كلمة تعني الحماسة والغضب والشعر. هو إله الحكمة والحرب والمعركة والموت. وهو الذي ابتكر الأبجدية الرونية أو الفوثاركية (الفوثارك: نسبةً إلى الأحرف الستة الأولى)، وهذا ما تُعبِّر عنه صراحةً قصيدةٌ إسكندناﭭية قديمة تُدعى هَفَمال وتعني: "كلمات الواحد الأعلى"، وهي تحتوي على نبؤة تسترعي الانتباه:

أعلم أنني معلَّق على شجرة تهزُّها الرياح، تسع لياليَ كاملةً، مجروحًا برمحٍ، مقدَّمًا إلى أودين، نفسي إلى نفسي. معلَّق على هذه الشجرة التي لا يعلم أحدٌ من أي جذر خرجتْ. لم يعطني أحدٌ خبزًا ولا قدحًا مصنوعًا من قرن لأشرب منه. نظرت إلى أسفل، عكفت على حروف الرُّون، تعلمْتها وأنا أبكي، ثم نزلت من هناك.

ثمَّ تكمل ما بدأت بالقول:

لا شك أنَّ لتعبير "حمَل الله" علاقةً بمنقولاتٍ قد ترتبط بما نسميه اليوم الطوطمية. فقصَّة زيوس عمون Zeus Ammon عند هيرودوت (عندما ذبح زيوس كبشًا ليتجلى لمن كان يتوسل إليه بأن يتراءى مغطَّىً بجِزَّة من صوفه)، تلك القصة القريبة من كلام القديس يوحنا: "الحمَل المذبوح منذ تأسيس العالم"، تلقي ضوءًا ساطعًا على الموضوع. إنَّ القربان الأول الذي نال رضا الله، أيْ قربان هابيل، والذي يُذكَر في قانون القُدَّاس كرمز لقربان المسيح، كان ذبيحةً حيوانية. وكان الأمر كذلك في القربان الثاني، قربان نوح، الذي أنقذ البشرية في نهاية الأمر من غضب الله وأدَّى إلى وضع ميثاق الله مع البشر. وهنا تكمن النتائج نفسها لآلام المسيح. فهناك علاقة خفية بين الاثنين. لا بدَّ أنهم فكروا، في عصور موغلة في القِدم، بوجود حضور حقيقي لله في الحيوانات التي يقتلونها ليأكلوها؛ بأنَّ الله قد حلَّ فيها ليُقدِّم نفسه طعامًا للبشر. كانت هذه الفكرة تجعل من الطعام الحيواني تقرُّبًا من خلال تناول القربان المقدس، في حين أن ذلك يُعدُّ بتعبير آخر جريمةً، على الأقل من وجهة نظر فلسفية نوعًا ما وديكارتية إلى حد ما. ربما كان هناك في مدينة طيْبة Thèbes، في مصر، حضورٌ حقيقي لله في الحمَـل المضحَّى به ضمن طقوس، كما هي الحال اليوم في خبز الذبيحة المكرَّس. هذا يستدعي أن نلاحظ أنَّ الشمس كانت في برج الحمَـل لحظة صلب المسيح.

وهكذا ننتقل مع مختارات سيمون ڤايل، عبر محاور متعددة، إلى صور مكثَّفة ذاتية وموضوعية، وبنفس العمق والجرأة، إلى مختلف المواضيع التي شغلت بال المفكرين والعلماء ورجال الدين والسياسة ومنظريها. فمن تجربتها الإنسانية العميقة إلى معاناتها إلى آرائها بالأحداث التي مرَّ بها العالم قبل النازية والفاشية وخلال فترة نفوذها، ثمَّ نقدها لنظرية الكوانتم ورهانات العلم، ثمَّ رسائلها التي نقلت بها خبرتها الروحية التي تسلِّط الضوء على فهم ديالكتيكي للدين وما تنطوي عليه سريرة من يعاني الألم الذي يغيِّب الألوهة.

*** *** ***

موقع الأوان


 

horizontal rule

٭ مختارات، سيمون ڤايل، ترجمة محمد علي عبد الجليل، معابر للنشر، دمشق، 2009.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود