بلاغات في الابادة٭

 

لنا أنطاكي
سوسن رسلان

 

ليست مصادفة أننا نتذكر هذا اليوم العام الثاني والثلاثون من ذكرى يوم الأرض، ذلك اليوم الذي سقط فيه ستة شهداء دفاعًا عن الأرض بعد إصدار وزير الحرب الصهيوني، في 30-3-1976، إسحاق رابين قراره بمصادرة حوالي 21 ألف دونمًا من الأراضي العربية التي تعود لبلدات دير حنا، سخنين، وعرابة في منطقة الجليل في فلسطين التي احتلت عام 1948 (وهي القرى التي تدعى اليوم مثلث يوم الأرض)، وذلك في نطاق مخطط تهويد الجليل. حينها قام العرب الفلسطينيون بإعلان إضراب عام، وقامت مظاهرات عديدة في القرى والمدن العربية، وحدثت صدامات بين الجماهير المتظاهرة وقوى الشرطة والجيش الإسرائيلي، فكانت حصيلة الصدامات مقتل 6 أشخاص برصاص الجيش والشرطة. ورغم مطالبة الجماهير العربية إقامة لجنة للتحقيق في قيام جيش وشرطة إسرائيل بقتل مواطنين عزل يحملون الجنسية الإسرائيلية إلا أن مطالبهم قوبلت بالرفض التام بادعاء أن الجيش واجه قوى معادية. يُعتبر يوم الأرض حدثًا مهمًا في تاريخ الفلسطينيين ذوي الجنسية الإسرائيلية؛ فللمرة الأولى، منذ النكبة، تنتفض هذه الجماهير ضدَّ قرارات السلطة الإسرائيلية المجحفة، وتحاول إلغائها بواسطة النضال الشعبي، مستمدةً القوة من وحدتها. وقد كان لهذا اليوم أثر كبير على علاقتهم بالسلطة، وتأثير عظيم على وعيهم السياسي، ويقوم الفلسطينيون (أينما كانوا) بإحياء ذكرى يوم الأرض، ويعتبرونه رمزًا من رموز الصمود الفلسطيني.

كما أن معركة الأرض لم تنتهي في الثلاثين من آذار، بل هي مستمرة حتى يومنا هذا، فلا تزال سياسات المصادرة تطارد الفلسطينيين، والمخططات المختلفة تحاول خنقهم والتضييق عليهم. لهذا فإن إحياء ذكرى يوم الأرض ليس مجرد سرد أحداث تاريخية، بل هي معركة جديدة في حرب متصلة لاستعادة الحقوق الفلسطينية. فمن أصل 774 مدينة وقرية فلسطينية، وقعت تحت حكم ما يسمى إسرائيل، هجر أهالي 675 قرية خارج خط الهدنة، كما تعرض الشعب الفلسطيني في تلك الكارثة التاريخية إلى 70 مذبحة ومثلها 70 حادثه من الفظائع.

من ناحية أخرى أضحى يوم الأرض مناسبة يجري فيها فلسطينيو 48 وقفة مع الذات تسترجع قواهم الشعبية والسياسية التي باتت أكثر تطورًا وبلورة وتأطيرًا لمسيرتها وإتجاهاتها إزاء الأوضاع الذاتية من ناحية والعلاقة مع المؤسسة الصهيونية المهيمنة من ناحية ثانية، وأواصر الصلة مع القضية الوطنية الفلسطينية الأم من ناحية ثالثة، وعلينا أن نعترف أن العدو الصهيوني فعل الشيء ذاته؛ فغداة يوم الأرض انتبهت الأجهزة الاسرائيلة إلى التفاعلات التي تعمل داخل شريحة فلسطيني 48 وتداعياتها إسرائيليًا وفلسطينيًا وعربيًا ودوليًا، فبعد يوم الأرض صدر تقرير بنفنستي لعام 1976، وبعد الانتفاضة صدر تقرير لجنة اور لعام 2002، ورغم مرور ربع قرن بينهما فإن كليهما سعى للإجابة على الأسئلة ذاتها: ما الذي حدث؟ ولماذا؟ وكيف يمكن مواجهة وإعادة السيطرة على الأقلية العربية؟

إن الرسالة الأهم في يوم الأرض تكمن في أن إحقاق حقوقنا لن يتحقق إلا بالنضال الجماهيري المنظم، وإن أقصر الطرق وأضمنها لتحقيق أي حق يعود بنا إلى تجربة يوم الأرض في المقاومة المنظمة للظلم والظالمين.

وبالرغم من الأفك السياسي والتضليل المنظم الذي نشرته الصهيونية في الغرب وعلى عقود من السنين:
فلسطين أرض بلا شعب.
إسرائيل تدافع عن حياتها ضدَّ العدوان العربي الكاسح.
نحن مددنا لهم يد السلام قابلوها بطلقات المدافع... وغيرها كثير.
إلا أنه وجد على الساحة العالمية حركات ومنظمات وأفراد كان لهم دور إيجابي في نقل الصورة الحقيقية والحية للعالم، ومنها على وجه الخصوص حركة التضامن الدولية، وهي منظمة فلسطينية متجذرة أُسِّست لتعمل مع المتطوعين الدوليين للمشاركة في نشاط مباشر غير عنيف لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، يعملون ويعيشون في المجتمعات الفلسطينية، ويدونون المعلومات الخاصة بالعنف الذي يتعرض له الفلسطينيون كل يوم من القوات العسكرية الإسرائيلية، وهم يتحملون مع الفلسطينيين المخاطر نفسها، والمكرهين للأسف على العيش معها ونشرها للعالم في كل بقاع الأرض، ومؤكدين للفلسطينيين أن العالم لن ينساهم، وأن الكثيرين مستعدين للتخلي عن حياتهم المرفهة ليعيشوا ويخاطروا بأنفسهم من أجل الفلسطينيين، معتمدين على علاقاتهم الفردية في بلادهم وإعلامهم وسفاراتهم لجلب الانتباه العالمي للمأزق الفلسطيني، كما يعملون كمراقبين للخروقات الهائلة التي تقوم بها إسرائيل، وتوثيق هذه الخروقات بالتعاون مع منظمات حقوق الإنسان.

هذه المنظمة عملت لمدة طويلة في فلسطين بالرغم من أن العاملين في الأمم المتحدة وأفراد الإعلام الدولي لم يستطيعوا البقاء في هذه المنطقة.

في شهادة لأحد المتطوعين قال: لقد إخترت الحضور إلى فلسطين والعمل مع حركة التضامن الدولية لأني شعرت بأن هذا واحد من أفضل الطرق لاستخدام إمتيازاتي كواحد من البيض في الولايات المتحدة ومن الطبقة الوسطى لأخدم مباشرة الشعب المسلوب من كل إمتيازاته بسبب إسرائيل وحكومات غربية أخرى، خاصة حكومتي، فأنا آمنت بأن إمتيازاتي الفائقة هي نتيجة مباشرة لسلبهم إمتيازتهم. لقد كسبت من معاناتهم وهذا أمر لابد من وقفه تمامًا.

أمي،
تحياتي للأصدقاء والأهل والجميع.
مضى الآن أسبوعان وساعة وأنا في فلسطين، ومازلت لا أجد الكلمات لأصف ما أشاهده. وأجد صعوبة بالغة في التفكير في ما يحدث هنا، فلا أدري كم من الأطفال هنا عاشوا في بيوت لا تمزق حوائطها شظايا القنابل ومن غير أبراج مراقبة على مرمى البصر يراقبهم من خلالها جيش احتلال. أعتقد، وإن كان لا يمكن أن أجزم بذلك، أن حتى أصغر الأطفال هنا يعرف أن الحياة ليست هكذا في أي مكان في الدنيا.

تلك كانت كلمات راشيل كوري من رسالتها الأولى لأهلها في 7 شباط 2003.

ولدت راشيل في 10 نيسان 1979 في أولومبيا واشنطن، وهي ابنة غريغ كوري، موظف تأمين، وسيندي كوري، عازفة فلوت هاوية. بعد تخرجها من الثانوية والتحاقها بجامعة ايفرجين استات انضمت إلى حركة أولومبيا للعدالة والسلام، وفي سنتها الأخيرة في الجامعة انضمت إلى حركة التضامن الدولية، وشاركت في نشاطاتها في الولايات المتحدة، ثم سافرت بعد التخرج إلى الشرق الأوسط والتحقت بالحركة في قطاع غزة في 18 كانون الثاني 2003، حيث تدربت هناك على المقاومة اللاعنفية والخدمة كدرع بشري، وشاركت في اضرابات المناهضين للحرب على العراق.

خلال تواجدها في فلسطين شاركت في حماية آبار المياه في رفح، والعمال الفلسطينيين العابرين لنقاط التفتيش الإسرائيلية، كما شاركت في حركات احتجاجية على تدمير البيوت المأهولة في المنطقة الأمنية على الحدود مع مصر.

وليس هناك تعبير أوضح عن أفكار راشيل ونشاطاتها داخل رفح إلا من خلال رسائلها لأهلها حيث تقول لهم في رسالتها الأولى:

أعتقد أن لا القراءة، أيًّا كان مقدارها، ولا حضور المؤتمرات، ولا مشاهدة الأفلام الوثائقية وسماع الشهادات، كان يمكن أن يعدني لاستقبال الوضع كما هو في الواقع. هذا الواقع ببساطة لا يمكن تخيله من دون رؤيته بالعين، وحتى حين تراه فإنك تعرف جيدًا أن تجربتك ليست هي الواقع أبدًا.

أقول إنني هنا في رفح، مدينة من 140 ألف نسمة، ستون بالمائة منهم تقريبًا من اللاجئين. رفح كانت موجودة قبل 1948، ولكن أغلب الناس هنا إما مهجرون أو أبناء مهجرين من الذين أبعدوا عن ديارهم في فلسطين التاريخية أي إسرائيل الحالية.

ويبني الجيش الإسرائيلي حاليًا حائطًا فاصلاً يبلغ ارتفاعه 14 م خالقًا بذلك أرضًا محايدة على أنقاض البيوت الواقعة على الحدود. لقد قامت البلدوزرات بتسوية ستمائة واثنين من البيوت بالأرض طبقًا لإحصاءات اللجنة الشعبية للاجئين في رفح. وهناك عدد أكبر من البيوت التي تم هدم أجزاء منها.

ثم تتابع راشيل:

في الفترة الماضية كان عددنا يتراوح ما بين خمسة وستة نشطاء دوليين. وقد طلب منا سكان الأحياء السكنية تواجدًا دائمًا بينهم لمحاولة حماية البيوت ضد المزيد من الهدم وهي يبنا وتل السلطان وحي السلام والبرازيل وبلوك J وبلوك D. كما أن هناك حاجة لوجود دائم في الليل عند البئر الواقع على أطراف رفح منذ أن دمر الجيش الإسرائيلي البئرين الكبيرين. وطبقًا لهيئة المياه فإن تلك الآبار التي تم تدميرها في الأسبوع الماضي كانت تشكل نصف إمدادات المياه في رفح.

ولأن الجيش الإسرائيلي يتعامل مع كل من في الشارع على أنه من المقاومة، ويطلق النار عليه، فيصعب علينا كثيرًا التنقل بالليل ومحاولة حماية كل هذه الأماكن، وبالتالي فنحن كما هو واضح قليلون جدًا.

الكثيرون يرغبون في إسماع أصواتهم، واعتقد أن علينا أن نستخدم بعضًا مما لدينا من امتيازات كنشطاء دوليين حتى يمكن لهذه الأصوات أن تسمع مباشرةً في الولايات المتحدة.

الرسالة الثانية

أمي،
الجيش الإسرائيلي قام بالفعل بحفر الطريق إلى غزة، وتمَّ إغلاق نقطتي التفتيش، وهو ما يعني أن الفلسطينيين الراغبين في التسجيل للفترة الدراسية القادمة في جامعاتهم لن يتمكنوا من ذلك. ولا يستطيع الناس الذهاب إلى أعمالهم، ولا يستطيع من قفل عليه الطريق قبل عودته أن يعود إلى بيته. ولن يستطيع النشطاء الدوليون حضور اجتماع كان مقررًا غدًا في الضفة الغربية. ولعلنا نستطيع الوصول إذا ما قمنا باستغلال امتيازاتنا كأفراد ينتمون للعرق الأبيض والمجتمع الدولي استغلالاً حقيقيًا، وإن كان في ذلك احتمال التعرض للقبض أو للترحيل، برغم من أننا لن نكون قد خالفنا القانون بأي شكل.

ولتعلمي أن لدي كثير من الأصدقاء الفلسطينيين الذين يعتنون بي. وقد أصبت ببعض البرد وحصلت على مشروبات لذيذة من الليمون لعلاجي. كما أن المرأة التي تحفظ مفتاح البئر حيث ننام لا تكف عن سؤالي عنك، وهي لا تتكلم أي انكليزية ولكنها تسأل عن أمي كثيرًا وتريد أن تتأكد أنني اتصل بك.

الرسالة الثالثة

بالأمس بينما كنت أشرب الشاي عند عائلة فلسطينية، وألعب مع الطفلين الصغيرين، تكسر زجاج المنزل نتيجة انفجار قنبلة في الحي، إن ذلك صعب علي جدًا. أشعر بالغثيان من ذلك الاهتمام الذي يحيطني به طوال الوقت، وبمنتهى الرقة، من ناس يواجهون الهلاك. أعرف أنه في الولايات المتحدة يبدو كل هذا كأنه مبالغة. ولكن، صدقيني، أن هذه الطيبة الغامرة للناس هنا مع كل ما يحيط بهم من أسباب التدمير المتعمد لحياتهم يجعل كل هذا يبدو لي كأنه غير حقيقي. إنني لا أصدق حقًا أن كل هذا يحدث من دون أن تتصاعد احتجاجات العالم. وأتألم حقًا حين أشهد كيف نسمح للعالم بأن يكون بتلك البشاعة.

لعلني حين أعود من فلسطين ستنتابني الكوابيس وأشعر دائمًا بالذنب لأنني لست هنا، ولكن يمكن لكل ذلك أن يصب في مزيد من العمل. إن هذه الرحلة هي أحد أفضل الأشياء التي قمت بها في حياتي، لذلك عندما أبدو وكأني أتكلم كالمجانين، أو إذا ما قامت القوات العسكرية الإسرائيلية بإلحاق أي أذى بي، على عكس ميلها العنصري الدائم بعدم إلحاق الأذى بأصحاب البشرة البيضاء، فأرجوا أن تعرفي أن السبب في ذلك بلا أدنى شك هو إنني أعيش وسط حرب إبادة، وإنني بشكل غير مباشر قد ساهمت فيها، وأن الحكومة التي تمثلني مسؤولة مسؤولية أساسية عنها.

الرسالة الرابعة

بعدما كتبت لك قضيت حوالي عشر ساعات بعيدًا عن باقي أفراد المجموعة عند عائلة في الخطوط الأمامية لحي السلام، الذين أعدوا لي العشاء وكان تلفزيونهم متصلاً بالقنوات الفضائية. الحجرتان الأماميتان للبيت لا تستخدمان لأن رصاص البنادق قد اخترق حوائطهما قبل ذلك، فتنام العائلة كلها: الأطفال الثلاثة والأبوان في حجرة الأبوين. أما أنا فنمت على الأرض بجوار إيمان الابنة الصغرى، واقتسمنا البطاطين فيما بيننا. وقد قمت بمساعدة الابن لإنجاز واجب اللغة الإنكليزية، ثم شاهدنا جميعنا فيلم رعب، واعتقد أنهم جميعًا ضحكوا على ما عانيته أثناء مشاهدة الفيلم.

إن مجرد سماعي عما تقومون به من احتجاجات وتظاهرات يخفف من شعوري بالوحدة، وبعدم جدوى ما أفعله، وبأنني كالخيال غير المرئي. إن في تلك الأبواق وإشارات التشجيع والصور ما يعين علي التحمل، فلا الإعلام الدولي، ولا حكومة بلادنا، ستقول لنا إننا مؤثرون أو مهمون أو على حق فيما نقوم به من عمل، ولن تصفنا بالشجعان أو أصحاب العقول والقيم. علينا أن نقوم بذلك لبعضنا البعض، وأحد الطرق للقيام بذلك هو أن نقوم بعملنا بحيث يراه الجميع.

كما أعتقد أنه من المهم بالنسبة للناس في الولايات المتحدة، لما عندهم من غنى، أن يدركوا أن المحرومين سيقومون بهذا العمل أيًّا كان الأمر لأنهم يعملون في سبيل حياتهم. فإما أن نعمل معهم ويعلمون أننا نعمل معهم، أو أن نتركهم يقومون بالعمل بأنفسهم ويلعنوننا على تواطؤنا في قتلهم. والحقيقة إنني لم أشعر هنا أن أحدًا يلعنني.

الرسالة الأخيرة

تحياتي يا أبي
واحدة من الأعضاء الأساسيين في مجموعتنا ستغادر غدًا، وقد أدركت وأنا أراقبها وهي تودع الناس كم سيكون ذلك صعبًا. فالناس هنا لا يستطيعون المغادرة، وهو ما يعقد الأمر. وهم يتحدثون ببساطة عن عدم ثقتهم في بقاءهم على قيد الحياة حتى عودتنا مرة أخرى.

أنا لا أريد أن أعيش بشعور عميق بالذنب تجاه هذا المكان، لأنني قادرة على الزيارة والمغادرة بكل سهولة، وقادرة كذلك على عدم العودة هنا مرة أخرى. أعتقد أن الارتباط بالمكان شيء ذو قيمة، ولذلك أود أن أستطيع التخطيط للعودة هنا في خلال سنة تقريبًا.

مقتل راشيل:

اللحظات قبل قتل راشيل في رفح بشهادة جوي كار عضو حركة التضامن الدولية.

في 16-3-2003،
بين الساعة 11- 1.00،
انقسمنا إلى مجموعتين: واحدة تعمل كجدار إنساني لحماية عمال المياه المتواجدين في البئر الكندي في تل السلطان، والأخرى تعمل لحماية عمال الكهرباء في حي السلطان. إنه خطر كبير على هؤلاء العمال أن يعملوا قرب الحدود لأن الدبابات الإسرائيلية بالعادة تطلق النار على أي فلسطيني في خط النظر بما في ذلك المدنيين والأطفال الذين يلعبون في المكان.

من الساعة 1.00- 1.30
لاحظ نشطاء حي السلطان أن بلدوزرين إسرائيليين ودبابة كانوا قد دخلوا إلى منطقة فلسطينية مدنية قرب الحدود، وقاموا بتدمير مزرعة ومنشآت مهدمة أصلاً، وكانت هذه الآلات العسكرية تهدد بشكل جدي البيوت المجاورة. فقام النشطاء الثلاثة بالصعود على سطح أحد البيوت وأخبروا الآخرين للقدوم إلى المكان.

من الساعة 1.30- 2.00
عندما وصلت إلى المكان انضم إلي أحد الناشطين من على السطح، وبدأنا نعيق عمل البلدوزرات، عندها وصلت راشيل مع ناشطين آخرين قدموا من موقع البئر ومعهم راية ومكبر صوت، حيث كانت راشيل والناشط البريطاني يرتدون ستر برتقالية فسفورية وعليها أشرطة عاكسة.

من الساعة 2.00- 3.00
أبلغ مكتب الحركة الإعلامي السفارة الإنكليزية والأميركية بأن جرافات الجيش الإسرائيلي تتصرف بشكل شديد العدائية، وأنها تعرض حياة مدنيين بريطانيين وأمريكيين للخطر، لكن السفارتين لم تتخذا أي فعل. واستمرت الجرافات تحاول تدمير البناء واستمرينا بالوقوف في وجهها. ووقفنا على سطحي البيتين المستهدفين، وبدأت راشيل، وناشطين آخرين، بالوقوف في وجه الجرافة التي تنوي تدمير المزروعات، فكانوا يجلسون في طريقها، وكانت الجرافة تقوم بتحريك التربة التي يجلسون عليها، ولكنها كانت تقف قبل أن تصيبهم، وتراجع البلدورزان إلى جانبي الدبابة، ورفعت راية حركة التضامن الدولية بينما كانت راشيل تهتف عبر المكبر. فصرخ الجنود في الدبابة بكلام بذيء، وطلبوا منا الرحيل، وأطلقوا عيارات محذرة، ثم أطلقوا قنابل مسيلة للدموع لكن الريح أخذت الغاز إلى الشرق بعيدًا عنا.

من الساعة 3.00- 4.00
بدأت البلدوزرات بالتحرك شرقًا، وقامت بدفع ناشط أميركي اسمه "ويل" نحو سلك شائك، ولحسن الحظ توقف البلدوزر وتراجع لكي يتجنب جرحه، وكان علينا أن نحفر لكي نخرجه من بين الركام، وأن نفك ملابسه من السلك الشائك.

من الساعة 4.45- 5.00
أحد الجرافتين، رقمها المتسلسل 949623، بدأت العمل بالقرب من بيت طبيب فلسطينيي صديق لنا حيث كانت راشيل تقيم عنده، جلست راشيل في طريق البلدوزر، وكانت على ارتفاع 2 م منها وهي ما تزال ترتدي معطفها الفسفوري، وبدأت تصرخ وتلوح بيديها كما كان يجري الحال عشرات المرات قبل هذا بنجاح، واستمر البلدوزر بالتقدم مباشرة باتجاه راشيل مع تحريك التراب تحت أقدامها، فتسلقت كومة من الردم وتقدمت عاليًا نحو قمتها حتى أصبحت بمستوى عين السائق. رأسها وجذعها كانا فوق حافة البلدوزر، وكان السائق ومعاونه يشاهدانها بكل وضوح، ورغم ذلك استمر السائق بالتقدم مما جرها إلى داخل كومة الردم، فلم نعد نراها، فركضنا باتجاه السائق نلوح ونصرخ عليه، وواحد من النشطاء يصرخ بالمكبر، لكن السائق استمر بالتقدم حتى أصبحت راشيل تحت جسم البلدوزر، وعلى الرغم من هذا الوضع أخذ السائق بالتراجع ليمر عليها مرة أخرى دون أن يرفع جرافته إلى الأعلى، واستمر بالتراجع حتى أصبح على خط الحدود تاركًا جسدها في الرمال.

ركضنا إليها وأجرينا الإسعافات الأولية، لكن جسدها كان كالأسطوانة ووجهها يدمي بشدة وبشرتها تحولت إلى الزرقة، فقالت ظهري مكسور ولا شيء آخر، وحاولنا أن نبقي رقبتها مستقيمة ونحركها إلى جنب لنخرج أي قيئ أو نزيف حيث كانت تظهر علامات نزيف دماغي، لهذا رفعنا رأسها قليلاً للسماح بصرف الدم النازف، لأن هذه الإصابة كانت أخطر من إصابة عمودها الفقري، واستمرينا بمحادثتها حتى تبقى واعية.

الجرافة الأخرى التي كانت تعمل على بعد 30 متر إلى الغرب توقفت عن العمل، وانسحبت لخط الحدود، ووقفت إلى جانب الجرافة القاتلة، وتقدمت الدبابة لتستكشف ما جرى. وصرخنا بالجنود: "لقد دهستم رفيقتنا وهي تحتضر"، ولم يرد علينا الجنود في الدبابة، ولم يسألوا أو يستفسروا أو يعرضوا المساعدة، بل تكلموا باللاسلكي وانسحبوا إلى خط الحدود، فطلبنا إرسال سيارة إسعاف، واستخدم أحد النشطاء المكبر ليعلم الجنود الإسرائيليين أن سيارة إسعاف فلسطينية قادمة وطلب عدم فتح النار على المسعفين.

من الساعة 5.00- 5.15
وصلت سيارة الإسعاف وخاطر المسعفون الفلسطينيون بأنفسهم وتقدموا إلى خط الحدود ووضعوها على نقالة وأحطنا بهم لنحميهم بأجسادنا ونمنع الدبابة من أن تطلق النار على المسعفين كما حدث في الماضي. وبينما كان المسعفون ينقلونها إلى النقالة اقترح أحد النشطاء أن التقط صورة للبلدوزر القاتل ورقمها بشكل واضح، مشيت حتى خط الحدود وبدأت بالتقاط الصور رغم محاولتهم منعي من ذلك. وما إن أكملت عملي حتى كان المسعفون يحملون راشيل إلى سيارة الإسعاف، وكانت حتى هذه اللحظة ما تزال تتنفس وعينيها مفتوحتين، وكان واضحًا أنها في ألم شديد. وانطلقت السيارة إلى مشفى النجار، وأدخلت فورًا إلى غرفة العناية المشددة.

الساعة 5.20
أعلن رسميًا عن وفاتها، وأخرجت من الغرفة مغطاة بغطاء أبيض.

موت راشيل، الذي شغل الإعلام يومين ثم اختفى، قد قوبل تمامًا بصمت رسمي، وبرغم ما شهد به شهود العيان من أن مقتلها كان متعمدًا لم ينطق بوش بحرف واحد حول مقتل مواطن أميركي ببلدوزر من صنعها تمَّ منحه لإسرائيل بواسطة أموال دافعي الضرائب. دفن قرار مجلس الشيوخ الأميركي المطالب بتحقيق مستقل تاركًا التحقيق العسكري الإسرائيلي التحقيق الوحيد بالحادث.

بعد أن قتلت راشيل انتظرت السلطة العسكرية الإسرائيلية رد فعل السلطات الأميركية، لكن هذا الرد كان مثيرًا للشفقة مما شجعهم على الاستمرار في عدوانيتهم والتفرد بالقيام بالتحقيق.

وعد الاسرائيلين بتحقيق شفاف وعميق وصادق، وجاء في هذا التقرير ما يلي:

إن السائق لم يرى ولم يسمع كوري بأي شكل لأنها كانت تقف خلف ركام مما منع رؤيتها من قبل السائق، وخاصة أن للسائق مجال رؤيا محدد جدًا بسبب القفص الموضوع فوق قمرة القيادة للحماية. لقد استجوب السائق والمسؤولين عنه استجوابًا عميقًا جدًا ولفترة زمنية طويلة، وأجريت تجارب على الكومبيوتر، واستعملت صور وفيديو، وتبين أنه لم يكن يعلم أنها كانت تقف على طريق الآلية. بيَّن تشريح جثة كوري أن سبب وفاتها كان من تساقط قطعة بيتون من الركام عليها وليس دهسها من قبل الآلية. لقد كان حادثًا مأساويًا ما كان يجب أن يقع، وإن حركة التضامن الدولية التي تنتسب إليها كوري مسؤولة بشكل مباشر عما حدث بسبب خلفيتها الغير شرعية وسلوكهم في المنطقة التي قادت أعمالهم مباشرةً إلى هذه المأساة.

ويقول التقرير أيضًا:

أن الجيش لم يكن يهدف إلى تدمير بيت إنما كان يبحث عن متفجرات ضمن المنطقة الحدودية المحددة له كمنطقة آمنة.

رفضت حركة التضامن الدولية التقرير الإسرائيلي مصرحةً بأنه يتناقض مع ما شاهده عينيًّا أعضاؤها في الموقع، وأن التحقيق يفتقد إلى الموثوقية والشفافية.

لأشهر كانت السلطة العسكرية الإسرائيلية تبحث عن عذر للتخلص من نشطاء حركة التضامن الدولية. وقد وجدته في آصف محمد حنيف وعمر خان شريف البريطانيين اللذين جعلا من نفسيهما قنابل موقوتة، وقد ظهر أنهما حضرا حفل تأبين راشيل في رفح، حقيقة حاولت السلطات العسكرية أن تزيد حجمها لتربطها مع نشطاء حركة التضامن، لكن أعضاء بالحركة أشاروا أنهم لا يعلمون أي شيء عن نوايا البريطانيين.

تمَّ بعد ذلك القبض على أعضاء من حركة التضامن، وتمَّ إبعاد آخرين عن البلاد، وهوجمت مقرات المنظمة، وهذا التدمير طال منظمات دولية أخرى. الإجراءات الصارمة اتخذت بحق جميع النشطاء الدوليين، وبالنتيجة بقي عدد قليل جدًا في المناطق المحتلة يمكن أن يشهد على الإساءات الإسرائيلية أو أن يساعد الضحايا، ثم تمَّ منع عدد كبير من العاملين في مساعدات الأمم المتحدة من الدخول أو الخروج من غزة.

قصة راشيل، التي رويت بعد حادث موتها، تمَّ طيُّها وتشويهها لكي تظهر هي وزملائها النشطاء من حركة التضامن الدولية على أنهم شريرون يساريون.

طالبت منظمة العفو الدولية الحكومة الأميركية والكونغرس بالقيام بتحقيق مستقل وقالت إن البلدوزرات الأميركية الصنع قد تحولت إلى أسلحة ونقلهم إلى إسرائيل يجب أن يتوقف فورًا.

أقامت عائلة كوري دعوى قضائية ضد شركة كاتر بيلر استنادًا إلى القوانين الفدرالية مؤكدين أن مسؤولية وفاة ابنتهم لها علاقة بهذا النوع من البلدوزرات، لكن هذه الدعوة رفضت في نوفمبر 2005 لفقدانها للأدلة.

ثم طلبت الأسرة من محكمة استئناف فدرالية بأن تعيد فتح دعواها ضد الشركة مبررةً أن الشركة تعلم أنها تبيع البلدوزرات إلى إسرائيل لتستخدم في عمليات تعدي وخرق لحقوق الإنسان، فهي كانت تعلم أنها ستسبب هذا الدمار. والدا كوري ادعيا على الشركة آملين أن يثبتوا أن الشركة مسؤولة مدنيًا بأنها ساندت وحرَّضت على انتهاك حقوق الإنسان بتدمير المنازل المدنية. أربعة أسر فلسطينية، ممن أقربائهم قتلوا أو جرحوا حين قام الجيش الإسرائيلي بتدمير منازلهم، انضموا إلى أسرة كوري.

كُرِّمت راشيل بطرق أخرى بعيدة عن التلفاز والإعلام، تلقى والدها أكثر من 10 آلاف رسالة من جميع أنحاء الولايات المتحدة، كما نُظِّمت احتفالات بذكراها في عدد كبير من الجامعات والمسارح، وألِّفت أغان تتحدث عنها، وأهديت إليها المقطوعات الموسيقية كما أهديت لذكراها بعض الكتب، وسُمِّي عدد كبير من أطفال الأراضي المحتلة باسم راشيل.

الممثل والمخرج البريطاني آلين ركمان والصحفية كاثرين فينر من الفاردين ألفا مسرحية حوارية من ممثل واحد مدتها 90 دقيقة معتمدين على رسائل كوري ورسائلها الالكترونية وهي تعيش في غزة مع أسرة فلسطينية.

الحزن تعدى كل الحدود 27 تموز 2007 بقلم الينور مليف نيوزويك:

مسرحية جديدة حول حياة شابة فتية قتلتها القوة العسكرية الإسرائيلية في غزة ربما تعتبر من الناحية السياسية مثيرة للجدل. لكنها تظهر أن التثاقف الثقافي الإنساني يستحق الاهتمام.

ربما تكون قد سمعت شيء عن المسرحية اسمي رشيل كوري، وعلى الغالب لم تشاهدها، فقلة من الناس شاهدتها. لكنك تعلم أنها مثار جدل ذلك أنها ليست متوازنة. وأنها متعاطفة مع وجهة النظر الفلسطينية ولا تقدم بشكل عادل وجهة النظر الإسرائيلية. كل هذا حقيقة، وهي كافية لأن تسبب إلغاء جدول الإنتاج لمدينة نيويورك. لكن المسرحية أيضًا قطعة فنية رائعة، ولم يكن لها أن تكون متوازنة، أنها تستند بشكل وحيد على الكتابة وعلى الصحافة والبريد الالكتروني الصادر من امرأة شابة متطوعة مع منظمة سلام قد تمَّ سحقها بالبلدوزر الإسرائيلي العسكري في رفح في شريط غزة بتاريخ 16-3-2003.

خذ بالاعتبار ردود الفعل حين أعلن في مهرجان المسرح الأمريكي الحديث في مدينة شيفيردستون أن واحدًا من أربعة إنتاجات لعام 2007 سيكون مسرحية اسمي راشيل كوري، مسرحية ممثل واحد تستند إلى المأساة. وخلال 24 ساعة من الإعلان قام محامي ومدير مهرجان متقاعد اسمه يونج مع زوجته بسحب منحتهما البالغة 100 ألف دولار لبناء حملة المهرجان. وقال أد هرندين المدير الفني للمهرجان: "يقدر المنظمون أن قرار البرنامج هذا سوف يزيد التكاليف بـ 20 - 50 ألف دولار أخرى بسبب الخسارة في بيع التذاكر". مبدئيًا انقسم أعضاء المجلس الـ 27 فيما بينهم حول الحكمة من تسمية هذا العرض المثير للجدل الذي أجره المهرجان كوسيط. وفي نهاية المهرجان في شباط قرر مجلس الإدارة، وباعتراض عضو واحد، الاستمرار بهذا الإنتاج.

في 30 آذار تقدمت جمعية التضامن مع حقوق الفلسطينيين في أستون تكساس من قسم الدراما في جامعة سنت ادوردز بطلب أن يقوم طلابها المهتمين بعرض رسائل راشيل كجزء من مهرجان الفيلم الفلسطيني. اتبع أدائهم بعرض جزء من فيلم منطقة القتل انتهى بعرض موت راشيل. قام المدير الفني بدور ممتاز. لبس القراء ملابس سوداء وعليهم سوار راشيل الأخضر. عدد الحضور كان 50. بطريقة ما كانت كوري من الشيء نفسه الذي تكرهه في ممارسة بلدها. آمنت بأن حياة الأمريكيين أكثر أهمية من أي شيء آخر. ولذا حاولت استخدامه كي تنقذ عدد من منازل الفلسطينيين من التدمير.

النهاية

إذ كان المحزمين بالقنابل قد حولوا أجسادهم إلى سلاح قاتل فهي قد حولت جسدها إلى النقيض: سلاح من أجل الحياة، "شرنقة إنسانية".

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ قُدِّمت هذه الندوة بمناسبة الذكرى الثانية والثلاثين ليوم الأرض، المنتدى الاجتماعي، دمشق.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود