|
عمانوئيل كانط
في التوطئة التي عقدها عمانوئيل كانط (1724-1804) على كتابه عقيدة الحق، طرح الفيلسوف "مسألة معرفة إنْ كان من الممكن فعلاً وجودُ أكثر من فلسفة". لا مناص، أولاً، من ملاحظة أنه قد وُجدت طُرُق عديدة للتفلسف، وأن هذه الطرق متنوعة وغالبًا متناقضة، وأنه كان لا بدَّ للأمر من أن يكون كذلك لأن كل واحدة من هذه الطرق "ذات جدارة". لكنه يؤكد أنه لمَّا كان لا يمكن أن يوجد "إلا عقل إنساني واحد فقط، ليس من الممكن لفلسفات عديدة أن توجد"[1]. ذلك أن من قبيل التناقض بالفعل القبولَ بإمكان وجود فلسفتين صحيحتين تتناولان الموضوعات نفسها. مفاد القناعة التي أود أن أتوسع فيها أمامكم هي أن الخيار اللاعنفي هو "الحدث" الأصلي المؤسس للمعرفة الفلسفية. بذا يصبح اللاعنف مبدأ الفلسفة، أي قضيتها الأولى والرائسة، بدؤها وأساسها، – الأمر الذي يعني في المحصلة أنه لا يمكن لفلسفة صحيحة أخرى أن توجد غير الفلسفة التي تأخذ بخيار اللاعنف. اللاعنف ليس فلسفة ممكنة، ليس إمكانية من إمكانيات الفلسفة، بل هو بنيان الفلسفة بذاته: ما من فلسفة ممكنة إلا وتصر على أن فريضة اللاعنف لا جدال فيها، على أنها التعبير عن إنسانية الإنسان الذي لا يقبل الطعن في صحته، وعلى أنها مكوِّنة لما هو إنساني في الإنسان. كثيرًا ما يُنظر إلى فلسفة كانط بوصفها إسهامًا حاسمًا في صياغة الفلسفة الأخلاقية. إنها "ذات جدارة"، على حدِّ تعبير كانط نفسه، وهذه الجدارة هائلة! فالفيلسوف الألماني ما انفك يتفكر في هوان الكائن الإنساني وفي عظمته. وقد حاول، بأكثر ما يكون من النزاهة الفكرية، أن يتفهم، في آنٍ معًا، النزوع الطبيعي إلى الشر و"الاستعداد الرائع للخير"[2] اللذين يتقاسمان قلب الإنسان. وقد أكد، أكثر من أي فيلسوف آخر، أن إنسانية الإنسان جديرة بالاحترام لأن "الإنسانية نفسها هي كرامة"[3]؛ وبصرامة فكرية قصوى، بيَّن أن أعمق فرائض الإنسان هي احترام "كرامة الإنسانية في شخصه هو"[4]، وفي الآن نفسه، الاعتراف بـ"كرامة الإنسانية في كل إنسان آخر"[5]. غير أن مدار حديثي بالطبع ليس الادعاء بأن كانط قد بسط، من حيث لا يدري، فلسفةً في اللاعنف – فهو يجهل مفهوم اللاعنف. لكن من المشروع قطعًا الاستناد إلى عبارات كانط نفسها لطرح تعريف بالعنف بوصفه "انتهاك [المرء] للإنسانية في شخصه هو"[6] وفي شخص الإنسان الآخر، واعتبارًا من ذلك، التعريف بمفهوم اللاعنف بوصفه احترام المرء الإنسانيةَ في شخصه هو وفي شخص الإنسان الآخر على حدٍّ سواء. سوف أقتبس من كانط إذن مادة فكرية لبناء تفكُّري أنا بقصد مقاربة فلسفة اللاعنف التي يبدو لي أنها تعبِّر خير التعبير عن حقيقة إنسانية الإنسان. لن أقوِّل كانط ما لم يقل، لكني سوف أقول ما لم يقل، مقتبسًا منه عناصر معينة من تفكُّره لتغذية تفكُّري الشخصي. ولسوف أختار هذه المواد بكل حرية: أي أنني، مستبقيًا بعضها، سوف أستبعد في الوقت نفسه بعضها الآخر مما يبدو لي غير قابل للاستعمال، من غير أن أصرف وقتًا في تبرير خياري، غير سالك طريق عرض فكره وتحليله نقديًّا، لأن هذه المقاربة أطول بكثير مما ينبغي. يعتبر إريك ڤايل أن كانط [...] كاتب عظيم، أي كاتب أثَّر فكرُه على الحاضر، وإذ رَفَعَ هذا الفكر إلى صعيد أعلى من الصعيد الذي انطلق منه الكاتب نفسه، زود أخلافه بمزية التمتع، من أجل اجتهاداتهم هم، بنوع من المقفز انطلاقًا مما كان يجب، بنظر ذلك الرجل العظيم، أن يبقى هو الغاية[7]. ومنه، أود أن أتكئ على فلسفة كانط الأخلاقية لكي أستخدمها كمقفز. في تساؤل كانط عن النزوع الطبيعي للإنسان إلى خبث النية mal-veillance، توصل إلى الإجابة بأنه يتعين بـ"حب الذات": إن جملة الميول (التي تُسمى تلبيتُها عندئذ السعادة الشخصية) هي التي تشكِّل الأنانية. والأنانية هي إما حب الذات، وهو عبارة عن مراعاة مفرطة للنفس، وإما إرضاء النفس[8]. بذا فإن "الاعتزاز بالنفس" amour-propre (نزوع المرء إلى حب نفسه على حساب الآخرين) طبيعي لدى الإنسان، وهو يستيقظ فيه قبل القانون الأخلاقي. الإنسان، بطبيعته، ميال إلى الحرص على مآربه هو أولاً. فحين يبادر المرء إلى الفعل "يصطدم دومًا بالأنا العزيزة التي تنتهي دومًا إلى الظهور"[9]. الإنسان، تأكيدًا لهويته، في حاجة لا تُقهَر إلى الاعتراف به؛ وهو يتوقع من الآخرين أن يُظهروا له هذا الاعتراف كانعكاس لحبِّه لنفسه. وهذا لا يعني وجوب إسكات كل طموح – فالطموح حافز من حوافز الإرادة: لكن الطموح ليس نبيلاً إلا عندما يكون في خدمة قناعة ما. غير أن الإنسان، بكل أسف، كثيرًا ما يغريه أن يقدِّم مطامحه على قناعاته. ومادام الإنسان خاضعًا لميوله الطبيعية – قد يستطيع ألا يستمع إليها، لكنه لن يُسكتها أبدًا –، فهو يتصف بشهوة هائلة إلى المجد، وهو يستظل بمجد الآخرين. إنه لا ينفك يعبد نفسه ويهيب بالآخرين أن يشاركوا في هذه العبادة. يريد الإنسان أن يكون شهيرًا وسط الآخرين، أي أن يُشهره الآخرون بذكره. والإنسان، في طلبه الشهرة، التي يأمل أن تستمر بعد موته بتركها أثرًا في التاريخ، يريد أن يشبع رغبته في الخلود. بيد أن الشهرة، لا تلك التي تُنال عفوًا بل تلك التي تُطلب، لا يفوز بها المرء إلا ضد الآخرين. إذ إن اشتهار المرء هو أن يكون على نحو ما في المرتبة الأولى. حين يلتقي كائنان، وكلٌّ منهما يريد أن يثبت حبَّه لنفسه، فهو الصدام لا محالة؛ وهذا الصدام من شأنه جزمًا أن يحرض العنف. العنف هو اصطدام أنانيتين، تجابُه نرجسيتين، احتدام غرورين. كل إنسان فهو شبيه نرجس Narcisse، ذلك الشاب في الأسطورة اليونانية الذي، إذ شاهد انعكاس صورته في الماء، وقع في هوى نفسه. إنه لا يحب إلا نفسه، ولا يهتم للآخرين إلا ليزدريهم. الإنسان، بطبيعته نفسها وفي علاقته مع سواه، يغار تلقائيًّا من غيره من البشر؛ إنه لا ينفك يقدِّر سعادته هو بالمقارنة مع سعادة سواه. الإنسان، حبًّا بنفسه، يقارن نفسه دائمًا بالآخرين، مريدًا أن يتفوق عليهم: من حب الذات هذا ينجم نزوع المرء إلى أن يؤمِّن لنفسه قيمة ما في رأي سواه؛ وأغلب الظن أنه لا يريد في الأصل إلا المساواة، فلا يتيح تفوقًا عليه لأحد، بينما هو يخشى دومًا أن يطمح آخرون إلى هذا التفوق؛ ومنه تنتج شيئًا فشيئًا الرغبة الجائرة في الفوز به للنفس على حساب الآخرين. – وفوقهما، أي على الغيرة والمنافسة، يمكن أن تنزرع أكبر الرذائل، ما بَطُنَ منها وما ظهر، من صنوف العداء ضد جميع الذين نعتبرهم بنظرنا غرباء[10]. والإنسان، إذا لم يستمع إلا إلى نوازعه ورغباته الطبيعية، يذعن طواعية للرذائل التي "تؤلف الأسرة المريعة للـحسد ونكران الجميل والفرح بمصائب الآخرين"[11]. وهذا الفرح الخبيث، المريع بالفعل، يتجذَّر في الرضا الذي قد نستشعره حين نعتبر أنفسنا سالمين من المصيبة التي تحل بسوانا. ولقد كان باروخ سپينوزا (1632-1677) سباقًا، في كتابه الأخلاق، إلى التشديد على أن الحسد والغيرة هما العلتان الطبيعيتان الرئيسيتان اللتان تعيِّنان سلوك الإنسان حين لا يحيا على هدي من العقل: بمجرد أن نتخيل أن أحدهم يستمد من شيء ما فرحًا، ترانا نحب هذا الشيء ونرغب في أن نستمد منه فرحًا. لكننا نتخيل أن العائق لهذا الفرح آتٍ من أن آخرًا سوانا يستمد منه فرحًا؛ ومنه فإننا لا نألو جهدًا لكي لا يعود مالكًا هذا الشيء[12]. ولهذا سوف ننازع الآخر ولن نتورع، عند الضرورة، عن اللجوء إلى العنف ضده: بمقدار ما يحرك الحسدُ أو أية علة من علل الكراهية البشرَ ضد بعضهم بعضًا فإنهم يناقضون بعضهم بعضًا، وبالتالي، تتناسب الخشية منهم طردًا مع تفوُّق سلطانهم على سلطان غيرهم من أفراد الطبيعة الآخرين[13]. أحكام القانون الأخلاقي لكن عقل الإنسان يجعله يكتشف وجود قانون آخر غير قانون "حب الذات"، ألا وهو "القانون الأخلاقي". على الإنسان، بوصفه كائنًا عاقلاً، أن يعمل بدافع إرادة الانصياع لأحكام القانون الأخلاقي. وهذا القانون يفني مآرب حب الذات: العقل يمحق الخيلاء تمامًا، بما أن جميع مآرب عزة النفس، السابقة للتوافق مع القانون الأخلاقي، تغدو باطلة وغير شرعية[14]. بذا يجب على الإرادة ألا تتعين إلا بالقانون الأخلاقي، بينما النزوع الطبيعي للإنسان، استعداده الأصلي، هو تعيين إرادته بقانون حب الذات. ومنه فإن القانون الأخلاقي لا يُحترم إلا على حساب الميول الطبيعة. لذا فإن "القانون الأخلاقي يتمثل أولاً بوصفه نهيًا"[15]. ومذ ذاك، "لا يكون أثر القانون الأخلاقي إذن إلا سلبيًّا"[16]. يتكون الشعور الأخلاقي من الاحترام الذي يكنُّه الإنسان العاقل للقانون الأخلاقي الذي يجبره على كظم ميوله ورغباته وضبطها، تلك الميول والرغبات التي لا تتوافق من تلقاء نفسها مع هذا القانون. بذا فإن "المعرفة الأخلاقية للنفس تُعارض عزة النفس بالذات التي تنجم عن حب الذات"[17]. إن الحد الذي يفرضه الإنسان الأخلاقي على مآرب اعتزازه بنفسه، احترامًا لكرامة غيره من البشر، يسمَّى "تواضعًا"[18]. ليس النازع الأول للإنسان نحو الإنسان الآخر إذن إبداء حسن النية bien-veillance تجاهه؛ بل إن ردَّ فعله الفوري أميل بالحري إلى الإذعان لإغراء استعمال العنف ضده حتى يزيحه من طريقه. فمادام البشر باقين على "الحالة الطبيعية" فهم "يتخذون العنف قاعدةً للسلوك ويُظهرون خبثًا [...] يقودهم إلى شن الحرب بعضهم على بعض"[19]. لذا فإن الفريضة الأولى للأخلاق هي الامتناع عن كل خبث نية mal-veillance تجاه الآخرين. فحالما يغادر المرء حلقة أصدقائه الضيقة ويصادف فردًا غريبًا عنه، فإن نزوعه إلى الحساسية يدفع به إلى إرادة الدفاع عن امتيازاته هو أكثر منه إلى الالتفات إلى حاجات الآخر. إنما في هذه اللحظة بالذات يقتضيه وجوبُ الأخلاق أن يتحلى بإرادة إبداء حسن النية تجاهه. إن ما يختص به الواجب الأخلاقي الذي يُلزم الإنسان هو إرادة إبداء حسن النية تجاه الإنسان الآخر في الوقت نفسه الذي تنزع مشاعرُه الطبيعية إلى خبث النية. يبدو مشروعًا، وخصبًا بصفة خاصة، الاتكاءُ، من ناحية، على آراء كانط فيما يخص "حب الذات"، تعليلاً للنزوع الطبيعي للإنسان إلى العَنَف بالإنسان الآخر، ومن ناحية أخرى، تأسيس فريضة اللاعنف على التصور الذي بسطه كانط عن "القانون الأخلاقي". إذ ذاك يبدو اللاعنف بوصفه فضيلة الإنسان الشجاع الذي تتحلى إرادته بالقوة الأخلاقية لمقاومة "ما هو فينا خصم النية الأخلاقية"[20]، وذلك كي يستطيع أن يبدي حسن النية تجاه الإنسان الآخر. هنا يتقاطع رأي كانط مع واحد من التأكيدات الأصلية للفلسفة الذي يكون الإنسان الفاضل بحسبه هو المرء الذي يكتسب قوة السيادة على نفسه، أي السيطرة على نوازعه وميوله ورغباته المتولدة عن حب الذات، أي عن الأنانية. هنا تبدو لنا ممكنةً صياغةُ تعريف بالعنف اعتبارًا من الإلزام الثاني الذي وضعه كانط في كتابه أسس ميتافيزياء الأخلاق: افعلْ بحيث تعامل الإنسانية دومًا، سواء في شخصك أو في شخص أي إنسان آخر، كغاية في الآن نفسه، وليس أبدًا كمجرد وسيلة[21]. إن أساس هذا المبدأ، بحسب كانط، هو أن الأشخاص، على العكس من الأشياء التي ليست إلا وسائل، موجودون كغايات بحدِّ ذاتهم. هو ذا يؤكد: الإنسان، وكل كائن عاقل عمومًا، موجود كغاية بحدِّ ذاته، وليس كمجرد وسيلة تستطيع هذه الإرادة أو تلك أن تستعملها كما يحلو لها؛ ففي أعماله كلها، سواء ما يخصه منها أو ما يخص كائنات عاقلة أخرى، يجب أن يُعتبَر دومًا بوصفه غاية في الآن نفسه[22]. بذا فإن مَن يستخدم غيره من البشر كمجرد وسائل ينتهك إنسانيتهم: إنه يعنف بهم. فريضة حسن النية حين اجتهد كانط في التعريف بالواجب الأخلاقي الملزم للإنسان تجاه الإنسان الآخر، لم يجرؤ على الكلام على المحبة، مفضلاً عليها حسن النية، فكتب: المحبة قضية شعور، لا قضية إرادة؛ فلا أستطيع أن أحب لأنني أريد ذلك، ولا بالأحرى لأن ذلك واجب علي (ما يعني: أن أكون مجبرًا على المحبة)؛ ومنه فإن وجوب المحبة من قبيل اللامعقول. في المقابل، يمكن لـحسن النية amor benevolentiæ، بوصفه فعلاً، أن يكون خاضعًا لقانون الواجب[23]. غير أنه يعترف بأنه كثيرًا ما يُسمى "محبة" حسنُ نية متجرد تجاه الآخرين، وإنْ لم يكن إلا "بطريقة مغلوطة جدًّا"[24]. هو ذا يدقق: غير أن المحبة يجب ألا تُفهم هنا كعاطفة [...]، ولا كحبٍّ على سبيل المجاملة (إذ ما من إلزام بأن نكنَّ عواطف بتاتًا يقدر آخرون أن يفرضوه علينا)، بل يجب تصوُّره كقاعدة سلوك بحسب حسن النية (بوصفها ممارسة) ينجم عنها الإحسان[25]. مذ ذاك، فإن الإحسان bienfaisance إلى غيرنا من البشر، بقدر ما نستطيع، واجب، "سواء أحببناهم أم لم نحبهم"[26]. وعلى حسن النية أن يكون شاملاً؛ أي أنه يجب أن يشمل البشر الآخرين كافة: يجب عليَّ أن أريد الخير لجميع البشر. أما الإحسان، الذي هو التعبير العملي عن حسن النية، فلا يمكن له أن يمارَس إلا تجاه أفراد بعينهم: ليس بوسعي أن أحسن إلا إلى الأقربين. واجب الإحسان يُلزمني أن "أسعى في ضمان سعادة سواي"[27]. ويقترح كانط أيضًا تعبيرًا آخر عن واجب الإحسان تجاه القريب: إنه عبارة عن واجب جعل غايات غيري من البشر غاياتي (على ألا تكون هذه مجرد غايات غير أخلاقية وحسب)[28]. وفي الغالب الأعم، يقتضيني ذلك، من ناحية، أن أتخلى عن إرادتي بأن يصير الآخر مجرد وسيلة لخدمة غاياتي الشخصية، ومن ناحية ثانية، أن أحدَّ من مأربي بلوغ غاياتي، وأحيانًا أن أزهد في غاياتي حتى. العَنَف بغيري من البشر إنما هو إرادة استخدامهم كمجرد وسيلة إلى غاياتي الشخصية: إن مَن ينتهك حقوق البشر ينتوي استخدام شخص الآخرين كمجرد وسيلة، من غير اعتبار أن الآخرين، بوصفهم كائنات عاقلة، يجب أن يقدَّروا دومًا في الوقت نفسه كغايات[29]. إن طيبة bonté الإنسان تجاه الإنسان الآخر لا تفترض المساواة، لكنها تقتضي ترسيخها: فالطيبة لا يجوز لها أن تكون غير مشارَكة النظير للنظير. الطيبة لا يمكن لها أن تمارَس من الأعلى إلى الأدنى. الطيبة ليست رأفة commisération، بل وصال communion. أولى فرائض الطيبة هي العدالة التي تعيد إلى الإنسان المُهان حقوقه. فإذا لم يكن العطاء مشاركة فهو لا يزال سيطرة، لا يزال إذلالاً. يقول "نبي" جبران خليل جبران:
بعض الناس يعطي القليل مما عنده من كثير – أولئك يعطون تباهيًا بالعطاء، فتذهب
نياتهم المستورة بطيبات عطاياهم. [...] "التصدُّق" على الإنسان الآخر تفضُّلاً هو كذلك من قبيل تجاهُل كرامته. وقد كتبت سيمون ڤايل في ذلك: لقد اخترعنا التمييز بين العدل والصدقة، ومن السهل فهم لماذا. إن مفهومنا عن العدل يعفي الذي يملك من العطاء. فإذا أعطى مع ذلك، يحسب أن بوسعه أن يكون راضيًا عن نفسه، يحسب أنه أحسن صنعًا. أما الذي يأخذ، فوفقًا للطريقة التي يفهم بها هذا المفهوم، إما أن يعفيه من كل امتنان، وإما أن يُكرهه على بذل الشكر متَّضعًا. وحده التطابق المطلق بين العدل والمحبة يجعل ممكنةً في آن معًا الرحمةَ والامتنانَ، من ناحية، واحترامَ كرامة البلوى عند المبتلى، لديه ولدى الآخرين، من ناحية ثانية. لا مناص من التفكير بأنه ما من طيبة يمكن لها أن تتخطى العدل، تحت طائلة ارتكاب خطيئة تتستر بمظهر طيبة مزيف[31]. أما نيتشه، فقد راح، بعبقريته الخاصة، يندد بالرحماء الذين، من خلال شفقتهم المباهية، يُذلون المتألمين[32]. هو ذا زرادشت يصرخ: "الحق أقول لكم، لا أحبهم، هؤلاء الرحماء السعداء بشفقتهم: فالحياء ينقصهم." يجدر بالمرء، أجل، أن يستقبل ألم الإنسان الآخر، لكن يحسن به أن يفعل ذلك من غير مباهاة: الإنسان النبيل يفرض على نفسه ألا يُذل غيره من البشر: إنه يلتزم الحياء حيال كل ما يتألم. [...] إذا وجب علي أن أكون رحيمًا فلا أريد على الأقل أن يقال عني ذلك؛ وحين أكون رحيمًا ليكن ذلك عن بُعد. أوثر أن أحجب وجهي وأهرب قبل أن يتعرف الناس إلي. زرادشت يفضل أن يتعلم الابتهاج مع غير المتألمين، لأننا "حين نتعلم كيف نُحْسِن الابتهاج، نُحسن نسيان ما تعلَّمنا من إساءة إلى الآخرين ومن اختراع للأوجاع". فلأن الناس لا يعرفون كيف يبتهجون يوجد على الأرض كل هذا العدد من الأشقياء! يجدر بالمرء كذلك أن ينسى الخير الذي يصنعه للإنسان الشقي. ويواصل زرادشت كلامه: لهذا أغسل يدي التي أسعفت المتألم، ولهذا أمسح روحي أيضًا. ذلك أنني أخجل من رؤيتي المتألم يتألم بسبب خجله؛ فحين مددت له يد العون أصبته في كبريائه إصابة قاسية. فحتى لا يكون العطاء إذلالاً يجب أن يتم في الصداقة: أنا ممَّن يعطون: يطيب لي أن أعطي، كصديق للأصدقاء. أما الغرباء والفقراء فليجنوا بأنفسهم ثمرة شجرتي: فهذا أقل إذلالاً لهم. وحتى حيال الأصدقاء، لا بدَّ من التغلب على كل شعور بالشفقة: إذا كان لك من صديق يتألم، فكن لألمه ملاذًا، لكن كن، على نحو ما، سريرًا قاسيًا، سرير معسكر: فهكذا تكون له أنفع ما تكون. [...] الويل لكل مَن يحبون حبًّا من غير أن يقفوا على علوٍّ يفوق شفقته! [...] احفظوا أيضًا هذه العبارة: كل حبٍّ عظيم فهو يفوق شفقته: لأن ما يحبه يريد أن يخلقه! [...] وجميع الخالقين قساة. حتى تكون الرحمة التي نكنُّها للإنسان الآخر تجليًا للطيبة بحق، يجب أن نكون بأنفسنا – وإنْ يكن في الحدِّ الأدنى – قد جابهنا الألم واجتزنا البلوى وتغلبنا على المأساة. فوحده الذي عرف القنوط بوسعه أن يتواصل مع الإنسان القانط، ولعله يقدر أن يجعله يستطيب مذاق الحياة من جديد. عن واجب حسن معاملة الحيوان ولا يغفل كانط عن معالجة موقف الإنسان حيال "الطائفة من المخلوقات التي تتصف بالحياة، وإنْ تكن عديمة العقل"[33]. إنه يعتبر أن على الإنسان، على سبيل الواجب تجاه نفسه، أن يجتهد في تجنب العَنَف بالحيوان، لأن معاملة كهذه تحضِّره سلفًا لقبول استعمال العنف ضد غيره من البشر. وقد كتب في ذلك: إن معاملة الحيوانات معاملة عنيفة، وفي الوقت نفسه قاسية، وثيقة التعارض مع واجب الإنسان حيال نفسه، لأن من شأنها أن توهن التعاطف مع عذاباتها في المرء ولأن ذلك يُضعف، وشيئًا فشيئًا يفني، استعدادًا طبيعيًّا نافعًا جدًّا للأخلاقيات في العلاقة مع غيره من البشر[34]. غير أن كانط لا يمضي بعيدًا مثل گاندهي، فيعتبر أنه يجوز للإنسان أن يقتل الحيوانات مادام، وهو فاعل ذلك، يجتنب كل صنوف القسوة. الترجمة من الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس *** *** *** سماوات نصٌّ أعدّه المفكر الفرنسي اللاعنفي
جان-ماري مولِّر لجامعة "أونور" (جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان في العالم العربي،
تولّى، university@houkoukmadania.org
ومقرُّها لبنان)، في سياق مادة "فلسفة اللاعنف" التي يدرِّسها في الجامعة.
ترجمه إلى العربية ديمتري أڤييرينوس، ويُنشر ضمن اتفاق خاص مع "أونور". ٭ فيلسوف ومناضل لاعنفي فرنسي والناطق باسم "الحركة من أجل بديل لاعنفي"؛ وضع كتبًا عديدة في فلسفة اللاعنف وإستراتيجية العمل اللاعنفي، منها: مبدأ اللاعنف: مسار فلسفي (1995)، گاندهي العاصي: ملحمة مسيرة الملح (1997)، إستراتيجية العمل اللاعنفي، حركة حقوق الناس (1999)، قاموس اللاعنف، معابر للنشر/الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية (2007). [1] Emmanuel Kant, préface à la Doctrine du droit, Paris, GF Flammarion, 1994, pp. 11-12. [2] Emmanuel Kant, Métaphysique des mœurs, Doctrine de la vertu, Paris, GF Flammarion, 1994, p. 300. [3] Ibid., p. 333. [4] Ibid., p. 283. [5] Ibid., p. 333. [6] Ibid., p. 279. [7] Éric Weil, Problèmes kantiens, Paris, Vrin, 1990, p. 10. [8] Emmanuel Kant, Critique de la raison pratique, Paris, PUF, 1960, pp. 76-77. [9] Emmanuel Kant, Fondements de la métaphysique des mœurs, Paris, Librairie Delagrave, 1952, p. 113. [10] Emmanuel Kant, La religion dans les limites de la simple raison, Paris, Vrin, 1968, p. 71. [11] Critique de la raison pratique, op. cit., p. 327. [12] Spinoza, Éthique, Paris, GF Flammarion, 1965, p. 166. [13] Ibid., p. 294. [14] Critique de la raison pratique, op. cit., p. 77. [15] La religion dans les limites de la simple raison, op. cit., p. 84. [16] Critique de la raison pratique, op. cit., p. 76. [17] Doctrine de la vertu, op. cit., p. 300. [18] Ibid., p. 332. [19] Doctrine du droit, op. cit., p. 126. [20] Doctrine de la vertu, op. cit., p. 219. [21] Fondements de la métaphysique des mœurs, op. cit., pp. 150-151. [22] Ibid., p. 149. [23] Doctrine de la vertu, op. cit., p. 246. [24] Ibidem. [25] Ibid., pp. 314-315. [26] Ibid., p. 246. [27] Fondements de la métaphysique des mœurs, op. cit., p. 172. [28] Doctrine de la vertu, op. cit., p. 315. [29] Fondements de la métaphysique des mœurs, op. cit., p. 152. [30] جبران خليل جبران، النبي، نقله إلى العربية وقدم له ثروت عكاشه، القاهرة، دار المعارف، طب 4: 1979، ص 83، 85. [31] Simone Weil, Attente de Dieu, Le livre de poche chrétien, 1950, p. 125. [32] Friedrich Nietzche, Ainsi parlait Zarathoustra, Paris, Gallimard, Le livre de Poche, 1963, pp. 103s. [33] Kant, Doctrine de la vertu, op. cit., p. 302. [34] Ibidem.
|
|
|