ثلاث قصص قصيرة

 

محمد الصخري

 

الخرفان والامتحان

اليوم يوم الامتحان، امتحان القراءة. أبي وأمي ينتظران بملئ الصبر نتيجة هذا اليوم.

بالأمس قالت لي أمي بصوت منكسر:

-       أعدادك لا تسر أحدًا فإن سقطت في القراءة فستسقط هذا العام.

أما أنا فكنت واثقًا من وقوع ما يخشاه والداي، وكعادتي لم أشعر بأي ذنب، فلم أتكاسل يومًا، ولم أكن غبيًا، لكن جرأتي كلفتني غضب المدرسين، ودفعت ثمن فطنتي شكهم في سلامة عقلي. كنت أفهم جيدًا ما يقولون لنا من دروس، ولكنهم لا يريدون فهم ما أقول فيها. كانوا كمن يحمل أثقالاً يريدك حملها مثله بلا نقاش ولا أنين، فاعتزمت مواصلة التفكير برأسي مهما احتدم غيظهم وتضاعف ضحك البلهاء من أترابي، فصرت لا أطاق، وأمسى عدد الأصفار في أعدادي صالحًا لقلادة.

واليوم جاء الامتحان كالمخاض. أمرني المدرس كما أمروه تلميذًا أن أقرأ الدرس، فقرأتُ بصوت مرتفع جدًا وبسرعة الواثق كمن يعيد استعراض قصيد معروف ومحفوظ وممجوج وممل، فقاطعني المدرس بغضب قائلاً: "لا تصرخ، وتأنى في قراءتك ولا تتسرع"، فأعدت القراءة بتأن ممل وبصوت يقارب الهمس، وفي الأثناء استرقت نظرة إليه فرأيت في نظراته رغبة مكبوتة في أن يصرخ فيَّ قائلاً: "ارفع صوتك واسرع". لم يفعل فواصلتُ القراءة:

-       يحكى أن نعجة حذَّرت خرفانها من دخول الغابة المجاورة للزريبة مخافة ذئب شرس يسكن هناك. وما إن بدأت النعجة تغط في سبات عميق حتى تسلَّل أحد الخرفان خلسة إلى أعماق الغابة. وسرعان ما تفطن إليه الذئب وافترسه.

أنهيتُ القراءة. لم يضحك أحد من التلاميذ ففرحت. سألني المدرس وهو يواصل امتحاني:

-       ماذا كان مصير الخروف الذي لم يأخذ بنصيحة أمه. وما مصيرالخرفان التي أخذت بنصيحة أمها؟

بوثوق وصوت مرتفع أجبت قائلاً:

-       الخروف الذي لم يأخذ بنصيحة أمه افترسه الذئب، أما الخرفان التي أخذت بنصيحة أمها فقد افترسناها نحن.

لا أظن أن حيطان الفصل خرجت سالمة من زلزال الضحك والقهقهات التي انفجرت تدك الأرض من حولي، فاحمرت أعين المدرس وقفز من كرسيه غاضبًا يضرب مكتبه بقبضة يده ضربًا انفلتت منه ساعته من معصمه كالقذيفة لترتطم بالسقف وتسقط أمامي فوق المكتب. خرست كل الأصوات.

جلس من جديد وتصنَّع الهدوء، وكمن لم يتأكد مما سمع من إجابتي أعاد السؤال وهو يتأهب لسماعي كقط قبيل الانقضاض على فأر أمامه، فأعدت الإجابة نفسها بثبات ووثوق وصوت مرتفع. انفجرت في الفصل براكين من الضحك، ودمدمت زلازل من الهقهات، وانهال المدرس على مكتبه يدكه دكًا بقبضته مزمجرًا وهو يأمرني بمغادرة القسم، وبحنق رهيب يبشرني بالطرد النهائي.

خرجت ولم أعد منذ ذلك الحين، ولكنني ما غيرت رأيي، ولم أزل بعد مصرًا على أن الخروف الذي لم يتبع نصيحة أمه أكله الذئب وأن الخرفان التي أخذت بنصيحة أمها قد أكلناها نحن. فهل يغير المدرس رأيه يومًا؟ لا أعتقد أن ذلك اليوم بقريب.

*

الوسام
عن أسطورة صينية

كان رجل يملك حمامة زاجلة شهيرة بسرعتها وذكائها. كانت تتحدى العواصف والبحار وذئاب الفضاء من النسور والكواسر، وتنجح دائمًا في تسليم الرسائل إلى أصحابها في العناوين المضبوطة، وتعود في كل مرة سالمة إلى سيدها.

شاركت في كثير من المسابقات، وفازت فيها كلها، فأمست بطلة شهيرة ومضرب الأمثال. وكرمها نادي أصدقاء الطيور فمنحها وسامًا ذهبيًا رفيعًا ثبتوه على أحد أجنحتها أثناء حفل بهيج طريف.

وبعد مدة قصيرة من ذلك اليوم كلَّفها صاحبها بتسليم رسالة، وبينما كانت في طريقها محلقة مطمئنة فوق هضبة شاهقة اعترضها نسر ضخم كما كان يحدث لها من قبل، كانت سابقًا في مثل هذه الحال ترتفع كالقذيفة عاليًا ثم تكثف كالسهم سرعتها إلى الأمام فيعجز النسر عن مواصلة ملاحقتها.

لكنها اليوم فوجئت بعجزها عن الارتفاع أكثر مما هي عليه، وشعرت بعدم قدرتها أيضًا على المزيد من سرعتها، فالوسام الذهبي ليس ثقيلاً فقط بل أخلَّ بتوازنها في الفضاء، وأعاق جناحها من سرعة الحركة، فلم تجد بدًّا من مواجهة النسر وهو يقترب منها وأجنحته تحاصرها كالطود ومخالبه تمتد إليها كالسيوف الضامئة للدماء، فأيقنت بكل حسرة نهايتها قائلة: "أنا التي هزمت كثيرًا من الأعداء، وتحدَّيت كل تقلبات الطقس المختلفة، لم أعتقد يومًا أن الوسام الذى كرَّموني به سيفقدني حياتي". وفقدت وسامها وحياتها.

*

الجار والكلاب

كل أهل القرية يعرف أن العم صالح والشيخ محمود صديقين حميمين منذ الصغر، والكل يعرف أيضًا أن صداقتهما لا تدوم إلا ثلاثة فصول في السنة؛ فالصيف فصل الخلافات والشقاق بينهما، وكثيرًا ما يصل الأمر إلى حد القطيعة طيلة تلك الأشهر الثلاثة. أما السبب فهو شجرة تين ضخمة شهيرة بوفرة ثمارها وجودتها.

يملك العم صالح قطعة أرض صغيرة ليس فيها غير تلك الشجرة الوحيدة، وهي بعيدة عن منزله وتقع بالقرب من سكنى صديقه الشيخ محمود أب الأولاد الاثني عشر أو الدزينة كما يسميهم العم صالح في فصل الخصومات.

فى بداية كل فصل صيف، وحين تبدأ ثمار التين في النضج، تنطلق الخصومات بين الرجلين؛ فالعم صالح لا يتوقف عن اتهام أبناء محمود بسرقة التين في حين أن العم محمود لا ينفك من تبرئة أولاده. وكل مساء يتحول الدكان الذي يجتمع فيه شيوخ أهل القرية إلى قاعة محكمة مفتوحة الجلسات بلا قاض ولا أحكام، والكل محامون فيها وشهود.

-       كيف تأكدت من براءة أبناءك الاثني عشر؟ هل تحرسهم كامل اليوم وأنت بالكاد تعرف أسماءهم...

قهقه الحاضرون واغتاظ العم محمود أيما غيظ لكنه كظم غضبه قائلاً بهدوء اليائس من اقناع السامع:

-       أتريدني أن أحرس شجرتك. لست أجيرًا لديك ولا أبنائي. فعليك حراسة شجرتك.

عمَّ الصمت برهة ثم نهض العم صالح غاضبًا وهو يقول:

-       لن أثير هذا الموضوع مجددًا أبدًا معك. وأقسم لن يستطيع أحد بعد اليوم أن يقترب من الشجرة ليلاً أو نهارًا، وسترى ما أنا فاعل.

وغادر العم صالح الجمع وسط صمت الحاضرين وتساؤلاتهم حول ما يعتزم فعله لمنع الاقتراب من شجرة التين – شجرة الخصومات الصيفية المتكررة بين الصديقين.

يملك العم صالح كثيرًا من الكلاب، اثنان للصيد واثنان لزجر الذئاب حماية لقطيع أغنامه ومنع دواجنه من غارات الثعالب ليلاً واثنان لحماية المنزل من الغرباء، وهذان الأخيران من أشرس كلاب العم صالح، فكثير من أطفال القرية ونسائها ممن يزورون منزل العم صالح لا يزالون يحملون آثار أنياب ومخالب هذين الكلبين. اختار العم صالح أحدهما لردع سارق التين.

ما إن اقترب محمود من منزله حتى ذهل لما رآى تحت شجرة التين. إنها إهانة أخرى يكيلها له صديقه صالح. توقف مشدوهًا يتثبت مما يحصل: صالح يغادر شجرة التين بعد أن ربط بجذعها كلبًا ضخمًا وترك له إناء من الماء وآخر للأكل. لم يفكر محمود طويلاً وما إن دخل منزله حتى خرج يحمل كماشة طويلة واتجه نحو الشجرة يجذب إناء الأكل تحت سورة من نباح الكلب وهيجانه محاولاً التملص من رباطه للهجوم على هذا الزائر العنيد. أمسك محمود بالإناء وشرع يرمي للكلب برهة بعد برهة بقطع الخبز المبلل بالحليب وبدأت سورة الكلب تخفت شيئًا فشيئًا إلى أن نفذ ما في الإناء من أكل.

فأعاد الإناء إلى مكانه بالكماشة. وعاد إلى منزله. وفي الغد رابط بالمنزل ينتظر قدوم صالح بالأكل لكلبه، ليعيد الكرة كما بالأمس. وبعد أيام ثلاثة أصبح الكلب يبصبص بذيله كلما طل عليه محمود. وشرع محمود في كل مرة بالاقتراب أكثر فأكثر من الكلب إلى أن توصل ذات مرة إلى ملامسته والتربيت على رقبته دون أن يبدى الكلب أي جفاء أو عداوة، حينها فك محمود رباط الحبل من جذع الشجرة وجذب الكلب من رباطه فانقاد له فاصطحبه متجهًا نحو الدكان الذي يجتمع فيه شيوخ القرية وأعيانها، ومنهم صديقه صاحب الكلب.

أصيب الحاضرون بذهول حين أطل عليهم محمود يجر الكلب وهو يتقدم نحو صالح ليعطيه طرف الحبل ويغادر المكان دون أن ينبس بكلمة.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود