بين الصداقة والمحبة

 

المطران جورج خضر

 

الصداقة ارتباطك بآخر على وجه التخصيص، وهي متبادلة في الصدق وموفورة المودة بلا منفعة في هذه الأرض. وهي سرٌّ، أي لا تعرف كيف حلت، وقد جاء في الأدب الفرنسي: هذا صديقي لأنه هو هو وأنا أنا. وهي متسعة للمحبة الإلهية عند الاثنين، وليس إلا شرط الفضيلة المستمرة عند الصديقين، وما فيها إلا الصدق، فهي تحمل قوة ديمومتها. بهذا المعنى وإن بدت ثنائية إلا ان الله، سميته أم لم تسمه، هو في وسطها ويعززها ويغذيها حتى يبلغ الاثنان بلورية كاملة.

وهي قائمة في البشر لأن أحدًا منا لا يعيش في العزلة لكونه يحتاج إلى التكامل، إلى مشاركة تقويه فيلحظ أنه موجود ليس فقط بصفاته ولكن بصفات الآخر الذي يقويه. هي مشاركة حياة وتعاون. أنت تحتاج إلى أن يرعاك أحد وأن يقوِّيك ويصفيك ويقيمك من الموت الروحي إذا انتابك. هي إذًا قوة قيامية بسبب من الفرح وذاك الذي تتقبَّله. الفرح من الكيان الفصحي الكامن في كل إنسان.

والصدق فيه مكاشفة لكونك تلتمس المساعدة، وأن تتحرر وتعلو، وليس فيها نكث لعهد العطاء حتى لا تتقوقع وتعود إلى صحرائك ولا تقع في يأس. أرسطو القائل: "يا أصدقائي ليس من صديق". لا، هناك ناس صادقون يبغون إصلاح نفوسهم ويختارون الأعزة يرفعونهم. ما من شك أن الأصدقاء ليسوا على الود الواحد ولكن هناك من تحتاج إليه احتياجك إلى الزوج، والود درجات، وأما من طفح عندهم الود والطهارة معًا فهم قلَّة لأن الفضيلة قليلة وصعبة. وإذا ضعفت في الآخر فتزول العلاقة ويكون اختيارك خاطئًا.

أما إذا ثبتت الصداقة فيعني أنها نازلة من السماء، وما هي بمودة عابرة. وهنا يأتي الكلام عن المحبة التي ليس فيها تخصيص، وهي تجمع الشمل كله، أو هدفها أي إنسان أعطاك أم لم يعطك، رد لك خدمتك أم لم يردها. هي مجانية إطلاقًا، أي قد لا تؤسس على مقابلة أو مبادلة. وتحب فلانًا لأنه يحتاج اليك أو بالحري لأنه يحتاج إلى العطاء الإلهي الذي فيك. وقد تخدمه وتذهب ولا تعود إليه إلا إذا عرفت أنه في حاجة إليك، وأنت له لأنه مجرد إنسان يبكي أو يتوجع أو هو معزول، وأنت له مخلص لأن الله انتدبك لعملية خلاص في وقت مناسب، ثم ينتدبك لإنقاذ غيره. تمشي أنت في صحراء الوجود لتفتح يديك لإنسان متروك، وأنت تفتقر إليه إذا أعطيته، وقد تفتقر ماديًا بصورة كاملة أو شبه كاملة لأن الوجود هو لذاك عندك، لأنك بهذا أنت معطي الله أو مقرضه كما يقول الكتاب: "هذا هو العطاء الكامل لأنك تمحى وتقيم الآخر حتى هو لا يمحى في قساوة القلوب". وهنا لا فرق عندك بين أن يكون على دينك أو دين آخر أو أن يكون مزينًا بالبهاء الإلهي أو بقباحة الشيطان، لأنك قررت أن ترى الله فيه. العقائد مختلفة والمحبة واحدة لكل الناس لأنك بها جعلت نفسك صديق الله.

*

الهبة المجانية كثير الحديث عنها في الأناجيل. نقتطف من لوقا، مثل هذا قوله: "احبوا أعداءكم وأقرضوا غير راجين عوضًا، فيكون أجركم عظيمًا وتكونوا أبناء العلي، لأنه هو يلطف بناكري الجميل والأشرار" (٣٥:٦). وهنا عندنا نقطة لاهوتية وهي أن العطاء المجاني يرفعكم من مرتبة العبيد إلى مرتبة الأبناء. والنقطة التابعة لها أن الأشرار هم أيضا أبناء لأن التساوي في قيمة الناس هو في رؤية الله لهم ووضعهم كأبناء يأتي من مجانيته.

وقراءتي هذه راسخة في قوله توًا بعد هذا الكلام: "كونوا رحماء كما أن أباكم رحيم... ستعطَون في أحضانكم كيلاً حسنًا مركومًا مهزهزًا طافحًا لأنه يكال لكم بما تكيلون، فإنكم إن أعطيتم يعطيكم الله بلا حساب". يعاملكم بما هو أفضل مما عاملتم الآخرين. الإنجيل يضرب الحساب.

لذلك يصل إلى القول: "الإنسان الطيب من الكنز الطيب في قلبه يخرج ما هو طيب". أنت لا ترى إذًا بعيني الحكمة البشرية القائلة أن انظر إلى ثروتك وأعطِ ما استطعت ليبقى لك شيء، تقول الحكمة الإلهية فيك: انظر إلى قلبك المحب وأعطِ لكل ما يأمرك به القلب وليتدفَّق قلبك إذًا، وإذا كنت غير متعلِّق بدرهم واحد تدفعه إلى الآخر وتعطي لتنجي قلبك من الموت الذي جانب من جوانبه البخل. والبخل هو اعتبار أن كل ما عندك أساسي لك. غير أن لا شيء في الدنيا أساسي إلا للآخر، ويكافئ الله الحب بالحب، وإذا كنت في الأساس غير مخصوص بالحب الإلهي لأنك ابن ككل أبناء يخصك الله – إن أعطيت – بمحبة شخصية لك، والله حرٌّ بأصدقائه. في هذا المعنى ليس الله معشوق عابديه الأكابر لكنه عاشقهم من دونه، وقد يصل محب الله إلى درجة لا يراه الله فيها معشوقًا فحسب لكنه يراه جوهر العشق على ما قاله القديس أغناطيوس الأنطاكي (+ ١١٧) عن المسيح: "إن عشقي مصلوب".

لقد استعار الكتاب المقدس لفظة رحمة ولفظة رحيم من رحم المرأة، فالجذر واحد والمعقول يؤخذ من المحسوس، فرحمة القلب هي السعة التي تنجب أولادًا كثرًا، وإذا كنا جميعًا أبناء الله بعد أن اعتقنا من عبودية الخطيئة فنحن مرحومون بطبيعة الله بلا كيل ولا تفريق وبلا دينونة. ولذلك يقول آباؤنا النساك الذين جاهدوا جهادًا حسنًا موصولاً متعبًا، يقولون جميعًا: أنت لا تدخل إلى السماء بجهدك ولكن برحمة الله، أي إنه هو الذي يتقبَّلك بعطف منه لأنك صرت بالمحبوبية التي نلتها من عائلة الآب.

لذلك لا يعد الله عليك خطاياك لكنك تعدها أنت لتتوب إليه ولتخشى وترتدع. إذ ذاك لا تبقى أنت بشريًا محضًا من تراب. الرب يعرف أنه خلقك من تراب لكنه لن ينظر إلى ترابيتك بل إلى ما صدر منه إليك، أي النور المخفي فيك. والله يرى ما يريد أن يرى وعيناه عيناه. ويأتي يوم على طريق خلاصك أن تقول له: "بنورك نعاين النور".

*

أي سرٍّ كل هذا؟ الأناجيل تحدثت عن الرحمة واللطف الإلهي والتواضع والوداعة عند يسوع الناصري الذي هو وجه الله إلينا. إنسان واحد وهو يوحنا الإنجيلي قال: "الله محبة" وكأنه يقول في قراءة أولى: إن كل صفاته تجمعها أو تلخِّصها المحبة، في قراءة أخيرة عليا أقول إن الله في جوهره وليس فقط في صفاته هو محبة – هو محبة في ذاته أو حركته في ذاته – وكل ما عندك أنت من محبة للآخرين، للبعيد والقريب، مصب فيك لهذه المحبة، وعند ذاك تكون متألهًا أي إلهيًا.

قبل ذلك ليس عليك هنا إلا أن تحب. تضم إلى صدرك عدوك وصديقك بالمحبة الإلهية الواحدة. تستنزل عليهما ربك ويستجيب لك إذ ليس عنده إلا ما كان في جوهره ولا يبقى من فرق في قلبك بين السماء والأرض، أو بالحري جعلت ما كان في قلبك من هذه الأرض أي سماء ويكون ملكوت السموات قد دخلك، وعند اعترافك بأن الخالق ملك عليك يمنُّ هو عليك بالملك ويجعلك في نعمته جالسًا عن يمينه على العرش، لأن المسيح لم يجلس عن يمين الآب إلا لتجالسه.

هذا يتطلَّب منك طاعة، ومن الرب حنانًا. دعوة من هذا الحنان إلى الطاعة ومن الطاعة إلى الحنان.

*** *** ***

جريدة النهار، 26-1- 2008

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود