|
غاندي المتمرد 10: سفير الهند لدى الشعب البريطاني
وصل غاندي إلى مرسيليا بتاريخ 11 أيلول/سبتمبر 1931 في الساعة السادسة صباحًا. وقد استقبلَه سيلٌ من المصوِّرين والصحفيين الذين استقبلَهم غاندي بكل سرور في حجرته الضيقة من الدرجة الثانية. وأعلنَ قائلاً: لم أُحَـضِّـرْ أيَّةَ خطة ولا أيَّ خطاب ولا أيَّ عرض موجَز ولا أيَّ برنامج من أجل إقامتي في إنكلترا. سأقوم بكل شيء بحسب ما تمليه علَيَّ اللحظةُ الراهنة، واثقًا بصوتي الداخلي. فإذا كانت إنكلترا تُقَدِّر حجمَ قوة الحركة الوطنية فإنني أتوقَّع أنْ تأخذَ مطالبَنا بالحسبان، ولكنْ إذا كانت للأسف ترى أننا أقلية فعندئذٍ يجب عليَّ أنْ أكونَ مستعدًّا للعودة إلى الهند ولاستئناف النضال[1]. عندما مرَّ غاندي على الجمارك، سأله المفتِّشُ إنْ كان يمتلك شيئًا عليه أنْ يُصرِّح به. فأجاب غاندي: إنني متسوِّل مسكين. هذا كلُّ ما أملكه على الأرض: ست بكَرات غزْل وأواني خاصة بالسجن ووعاء فيه حليب ماعز وستة مآزر مصنوعةٍ منزليًا ومنشفة وسمعتي التي لا يمكن أنْ تساويَ قيمةً كبيرة. وسأله المفتِّشُ أيضًا إنْ كان في حوزته سجائر أو سيجار أو كحول أو أسلحة نارية أو مخدِّرات. فأجاب غاندي: أنا لا أدخِّن أبدًا، ولا أشربُ الكحولَ أبدًا، ولا أتعاطى المخدِّراتِ أبدًا. بالإضافة إلى ذلك، ولأنني محامي اللاعنف، فإنني لا أحمل أبدًا سلاحًا ناريًا[2]. وبعد أنْ أعطى الصحفيين عدةَ مقابلات، التقى بطلابٍ مَـرْسِـيْـلِـيِّـينَ حرصوا على تنظيمِ حفلِ استقبالٍ على شرف «سفير الهند الروحي». فعرضَ لهم مبدأَ اللاتعاون الذي يقوم عليه كفاحُ الشعب الهندي من أجل حريته إذْ صرَّحَ لهم بقوله: يوصَف هذا النضالُ اللاعنفيُّ بأنه عملية تطهير، حيث أنَّ الفكرة الكامنة وراء ذلك تقول بأنَّ الأمة تـفقد حرِّيتَها بسبب ضعفها؛ فنكتشف أننا بعد أنْ نتغلَّبَ على ضعفِنا نحصل مباشرةً على حريتنا. ما من شعبٍ على الأرض يمكنه في النهاية أنْ يُستعبَدَ بدون تواطؤ منه إرادي أو لاإرادي. وقد رضيتم أنتم بتواطؤ لاإرادي عندما خضعتم، خوفًا من بعض الألم الجسدي، لطاغية أو مستبد[3]. في حوالي الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر، غادر غاندي مرسيليا بالقطار متَّجهًا إلى باريس حيث لم يتوقَّفْ فيها إلاَّ بضع لحظات قبلَ أنْ يستأنفَ السفرَ إلى بولوني-سور-مير Boulogne-sur-Mer. حيث أخذَ قاربًا من هناك للذهاب إلى فولكستون Folkestone. وكان عليه عندئذٍ أنْ يأخذَ القطارَ مرةً أخرى قاصدًا لندنَ، لكنَّ عددًا من عناصر الشرطة، نظرًا لأنَّ السلطاتِ البريطانيةَ كانت تريد تجنُّبَ تنظيمِ مظاهرة استقبال في محطة ﭭـكتوريا، دعَوه لركوب سيارة للذهاب إلى عاصمة إنكلترا حيث وصلها بتاريخ 12 أيلول/سبتمبر في حوالي الساعة الرابعة بعد الظهر. وتلبيةً لدعوة الكويكرز Quakers [جمعية الأصدقاء الدينية]، قصدَ مباشرةً «بيتَ الأصدقاء» حيث استقبلَه حوالي ألف شخص. وصرَّح بصورة خاصة ما يلي: إنني هنا مع أصدقائي من أجل مهمة سلام. (...) وأجرؤُ على الاعتقاد بأنَّ حزب المؤتمر يدافع عن قضية عادلة تفخر كلُّ أمة بالدفاع عنها. يريد حزبُ المؤتمر حريةً تامةً لملايين البشر الصامتين الجائعين. وللتمكُّنِ من تمثيلهم ومن المطالبة بهذه الحرية، اختار حزبُ المؤتمر طريقتَي الحقيقةِ واللاعنف. (...) نحن لدينا أيضًا مَدْرسةُ عنفٍ بيننا، وإنني على درايةٍ بذلك. أعرف كثيرًا من هؤلاء الشباب الذين ينتسبون إليها – عشتُ معهم واختلطْتُ بهم وتكلَّمْتُ معهم. وسعيتُ جاهدًا مع عدد من معاونيَّ إلى ثنْيِهم عما نراه أنه خطأ؛ لكنْ في الوقت نفسه أعلم أنه حتى معهم لدينا قضية مشتركة. فهم يتحرَّقون لبلوغ الحرية التي تستحقُّها الهندُ والتي هي حق ثابت للهند. وأكرِّر أنني قلْتُ لهم، علنًا وعلى انفراد، أنَّ نشاطاتِهم تزعج حزبَ المؤتمر وتؤخِّرُ عقاربَ ساعة التقدُّم. (...) يمكننا أنْ نكونَ قوميين، يمكننا أنْ نكونَ وطنيين متحمِّسين، ولكنْ عندما نطبِّقُ هاتين الوسيلتين المتمثِّلتَين بالحقيقة واللاعنف فإنَّ وطنيتنا تصبح نزعةً دولية. نتصوَّر وطنيتَنا بحيث نريد الحريةَ بدون أنْ نريدَ الأذى لحرية أي بلد آخر أو أي فرد آخر. إننا لا نعتقد بأنَّ على القوة أنْ تتفوَّقَ على الحق[4]. وبدلاً من السكن في فندق في الأحياء الراقية في لندن، كان غاندي قد قبِلَ غاندي دعوةَ مورييل ليستير Muriel Lester، الذي كان قد زار غاندي في عام 1926 في أشرمه في سبَرْماتي، وذلك للمجيء والإقامة في كينغسلي هول Kingsley Hall، البيت الاجتماعي الذي كان قد افتتحه في ضاحية بو Bow، إحدى أكثر الضواحي شعبيةً في العاصمة الإنكليزية. ونظرًا لأنَّ هذا المكان كان بعيدًا تمامًا عن قصر سانت-جيمس حيث كان يُعقَد المؤتمرُ فقد استأجر غاندي منزلاً في [شارع] نايتسبريدج Knightsbridge حيث جعلَ منه «المقرَّ الرئيسي» له. ولكنه كان في كل مساء وغالبًا في وقت متأخر جدًا يعود إلى كينغسلي هول لينامَ هناك، وكان في إمكان سكان الحي أنْ يروه في حوالي الساعة السادسة صباحًا يقوم بنزهته اليومية. وقد أعربَ موريل ليستير عن أنَّ "سكان الحي كانوا يبتهجون باستثناء الشيوعيين منهم. فكان في حوزتهم كُتيِّب مطبوع يَعرِض أنَّ غاندي لم يكن سوى الخادم المنافق لقوى المال، وكانوا يوزِّعونه على جيراننا من باب إلى باب[5]." وجدَ غاندي نفسَه، وهو الممثل الوحيد لحزب المؤتمر، معزولاً تمامًا بين المشاركين الآخرين في مؤتمر الطاولة المستديرة. ومن بين الحاضرين من الهنود، كان هناك ثلاثة وعشرون ممثلاً عن الدول الأميرية وأربعة وستون عن الهند البريطانية. وجميعهم قد عيَّنهم نائبُ الملك. يشير ﭭـينسَنت شين Vincent Sheean إلى أنَّ نائب الملك "قد أرسلَ إلى لندن تشكيلةً مفروزةً بعناية من الرجعيين ومن ممثلي الأقليات الذين تتعارض تربيتُهم وأفكارُهم ومصالحُهم مع كل شكل من أشكال الوحدة الحقيقية للهند[6]". يراهن الإنكليزُ بصورة واضحة على الانقسامات التي تسود بين مختلف الطوائف الهندية من أجل المحافظة على سيطرتهم على الهند. فالإصلاحاتُ الدستورية الوحيدة التي مازالوا مستعدِّين لدراستها اليومَ كما في السابق تتمثَّل فقط في جعل الهنود يعاونونهم في سلطتهم الخاصة. فهم مُصِرُّون على المحافظة على «مناطقهم المحجوزة» «domaines réservés» فيما يتعلَّق بالشؤون الخارجية والدفاع والاقتصاد والتمويل. وعليه فمِن المستحيلِ حصولُ أية تسوية مع غاندي الذي يطالب باستقلال بلاده التام، ذلك أنه كان يريد الالتزامَ بالتفويض الذي حصل عليه من حزب المؤتمر. يؤكِّد تارا شاند Tara Chand من جهته أنَّ "المندوبين الهنود اختيروا لإحباط مطالب حزب المؤتمر[7]." فضلاً عن ذلك، كان هناك عشرون ممثلاً عن بريطانيا العظمى. كتب نهرو يقول: في القاعة الذهبية الكبيرة والمزدحمة بالناس كان غاندي يجلس وحيدًا في عزلة مرعبة. كانت بدلتُه (وأكاد أقول: عدمُ ارتدائه بدلةً) تميِّزه عن جميع الآخرين؛ لكنَّ الهوَّةَ التي كانت تفصل فكرَه عن فكر السادة أنيقي المظهر المحيطين به كبيرةً جدًا. كان موقفه موقفًا صعبًا جدًا؛ ومن بعيد كنا نتساءل كيف كان يمكنه أنْ يتحمَّلَه. لكنه صمدَ بصبر مدهش مكثِّفًا الجهودَ لإيجاد أساس اتفاق[8]. بتاريخ 15 أيلول/سبتمبر 1931، ألقى غاندي خطابَه الأول في مؤتمر الطاولة المستديرة. فأكَّد على الفور تأكيدًا واضحًا أنه لا ينوي تقديمَ أيِّ تنازُل وأنَّ الحرية الكاملة للهند هي مطلبُه الذي من أجله جاء: مرَّ وقتٌ كنتُ فيه فخورًا بأنْ أُدعى رعيةً من الرعايا البريطانيين. ومنذ سنوات لم أعدْ أَعُـدُّ نفسي واحدًا من الرعايا البريطانيين؛ وإنني لأُفَـضِّـلُ كثيرًا أنْ يُنظَرَ إليَّ على أنني متمرِّد من أنْ يُنظَرَ إليَّ على أنني رعيَّة. لكنني تطلَّعْتُ ومازلتُ أتطَـلَّع إلى أنْ أكونَ مواطنًا، مواطناً لدولةٍ لا لإمبراطورية، ضمن ائتلاف إذا أمكن ذلك – وإنْ شاء الله ضمن ائتلاف متين –، ولكنْ ليس ضمن ائتلاف تفرضه أمةٌ على أخرى. (...) نعم، يمكن السيطرةُ على الهند بحد السيف! ولا أشكُّ لحظةً في قدرة بريطانيا العظمى على إخضاع الهند بحد السيف. ولكنْ ما الذي يقود بريطانيا العظمى إلى الازدهار والحرية الاقتصادية؟ هل هندٌ مستعبدةٌ ولكنها متمرِّدة، أم هندٌ تكون شريكًا تُقَـدِّرُه بريطانيا العظمى ليشاطرَها أتراحَها ويشاركَها مآسيها جنبًا إلى جنب؟ (...) كذلك كنتُ أقول في سِرِّي، عندما كنتُ أقتربُ من شواطئ جزيرتكم الجميلة، أنني أستطيع وأكون محظوظًا أنْ أُقنِعَ الوزراءَ البريطانيين بأنْ ينظروا إلى الهند شريكًا ثمينًا ليس بالسيطرة عليها بالقوة بل بالخيط الحريري للحب[9]. بتاريخ 25 أيلول/سبتمبر 1931، ذهبَ غاندي إلى لانكاشاير Lancashire بهدف لقاء عمال النسيج هناك. وكان يعرف تمامًا أنَّ مقاطعة القماش الأجنبي التي نظَّمها في الهند لا تقوم سوى بزيادة خطورة ظروف حياة هؤلاء العمال التي هي بالأساس صعبة جدًا، ويعي أكثر من أي أحد غيره أنَّ هؤلاء النساء والرجال يمكن أنْ يميلوا إلى أنْ يُكِنُّوا له في صدورهم ضغينةً ما. ولهذا السبب تحديدًا حرصَ غاندي على المجيء ليشرحَ لهم مبرِّراتِ عمله الذي يقوم به في الهند. فصرَّح للصحافة بتاريخ 26 أيلول/سبتمبر قائلاً: الفقرُ الذي رأيتُه يحزنني أشدَّ الحزن، وما يحزنني أكثرَ أيضًا هو عِلْمي بأنَّ علَيَّ بطريقة ما جزءًا من المسؤولية عن هذه البطالة. مع ذلك فإنَّ ما يخفِّفُ هذا الحزنَ هو أنَّ جزء المسؤولية الذي أتحَمَّله خارجٌ تمامًا عن إرادتي؛ فهو نتيجة الأعمال التي أشرع بها والتي يجب عليَّ الشروعُ بها كجزء من واجبي تجاه أكبر جيش من العاطلين عن العمل يمكن أنْ نجدَه في العالَم، أعني الملايينَ من الجائعين في الهند. فالفقرُ في لانكاشاير يصبح لا قيمةَ له إذا ما قورِنَ بفقرهم[10]. تروي مادلين سلاد Madeleine Slade ما يلي: كان باﭙـو Bapu عازمًا على زيارة عدة بلدات والتحادث مع مجموعات مختلفة من العمال وأرباب العمل، لكنْ لم يتسَنَّ له بالطبع إجراءُ اجتماعات عامة فيها. في الواقع، على الرغم من هذه القيود، فقد جرت اتصالاتٌ مع الحشود التي كانت تتدفَّق من كل حدب وصوب. وكانت اجتماعاتُ المجموعات تشجِّع تبادلَ الأفكار في محادثات صريحة[11]. إنَّ قوةَ سِحْرِ غاندي وإقناعِه أتاحت له بالتأكيد أنْ يفهمَه حتى الأشخاصُ الذين ساهمَ هو في إيصالهم إلى البطالة. كان بوسع ماهاديڤ ديساي Mahadev Desai، سكرتير غاندي الذي كان يرافقه إلى إنكلترا، أنْ يؤكَّدَ بشأن إقامته في لانكاشاير ما يلي: "لم يكنْ لِحفاوةِ الاستقبال مِن مثيلٍ إلاَّ الحفاوة التي كان غاندي يلقاها عادةً في المدن والقرى الهندية[12]." هناك صورةٌ أصبحَت مشهورةً توضح تمامًا هذا الكلامَ: حيث نرى فيها غاندي محاطًا برجال ونساء، وخاصةً بنساءٍ يهتفْنَ له. وقد نشرَت صحيفةُ الإلُّوستراسيون هذه الصورةَ وعرضَت زيارةَ غاندي إلى لانكاشاير بهذه الكلمات: إذا كان لدى غاندي قلقٌ ما حول الشعبية التي يتمتَّع بها حاليًا في إنكلترا فإنَّ الزيارة التي قام بها مؤخَّرًا إلى لانكاشاير يمكنها أنْ تُطَـمْـئنَه. هذا الإقليمُ البريطاني هو في الواقع مقَرُّ الصناعة النسيجية، حيث بلغ عدد العاطلين عن العمل مئات الآلاف: إلاَّ أنَّ حملة مقاطعة البضائع الإنكليزية التي قامت بها الحركةُ الوطنيةُ الهندوسيةُ بكثير من الثبات والنجاح هي السبب الأكبر وراء الركود الذي يدمِّر النسيجَ وتجارةَ القطن. كان المهاتما حاضرًا هناك، بين ضحاياه إنْ صحَّ القولُ. مع ذلك، لم يفكِّرْ أحدٌ في إساءة استقباله. فقد احتفلَ به أربابُ العمل والعمالُ بحرارة – وبحسب الصورة التي ذكَرْناها – بفرح[13]. وخلال الخطاب الذي ألقاه غاندي في الأول من كانون الأول/ديسمبر أثناء الجلسة الختامية لمؤتمر الطاولة المستديرة، وعندما شكرَ الإنكليزَ على حفاوة ضيافتهم، أراد غاندي أنْ يوجِّهَ تحيةً خاصةً لعمال لانكاشاير: التقيتُ عدةَ أشخاص إنكليز. وهذا امتياز لي لا يُقَـدَّر بثمن. لقد استمعوا إلى الأشياء التي كان من المفروض غالبًا أنْ تبدوَ لهم غيرَ مستحَبَّة، على الرغم من أنها صحيحة. وعلى الرغم من أنني كنتُ غالبًا مجبَرًا على قول هذه الأشياء لهم فإنهم لم يُـبْـدوا أبدًا أقلَّ جزَع أو أقلَّ غضب. ومستحيلٌ عليَّ أنْ أنسى ذلك. فمهما حصل، ومهما كان مصيرُ مؤتمر الطاولة المستديرة هذا، فإنَّ هناك شيئًا سأحمله معي بالتأكيد، ألا وهو أنني لم أجدْ من أعلى المستويات إلى أدناها إلاَّ أكبرَ قدر من اللطف والمودة. وأرى أنَّ قيامي بهذه الزيارة إلى إنكلترا يستحقُّ العناءَ من أجل رؤية هذه المودة الإنسانية. وعلى الرغم من أنَّ الإنكليز رجالاً ونساءً قد تغذَّوا بالكذب الذي أراه في أغلب الأَحايِينِ يشوِّه صحافتَكم، وعلى الرغم من أنَّ سكان لانكاشاير ربما لديهم سببٌ ما لأنْ يغضبوا مني، فإنني لم أرَ حتى بين العمال أيَّ غضب وأيَّ استياء وهذا ما عزَّزَ إيمانيَ الشديدَ بالطبيعة الإنسانية وعمَّقَه. فالعمالُ من الرجال والنساء قد ضَمُّوني بين أذرُعِهم. وعامَلوني كواحد من ذويهم. فلن أنسى ذلك ما حييتُ[14]. إنَّ إحدى الصعوبات الكبيرة التي يصطدم بها المندوبون في المؤتمر هي صعوبة «الأقليات»، بتعبير آخر صعوبة «الجماعات الدينية». فأمامَ الطائفةِ الهندوسية التي هي أكثرية ساحقة، تريد الطوائفُ الأخرى – وبصورة أساسية المسلمون والسيخ والمنبوذون – أنْ تتمسَّكَ بحقوقها ومصالحها. فعندما لا تسيطر العداوةُ على العلاقاتِ فيما بينها، فإنَّ الحذر هو أقلُّ ما يسيطر عليها. فقادةُ «الأقليات»، في مجملهم، مستعدُّون لقبول تسوية مع السلطة البريطانية على أمل الحصول على ضمانات تحميهم من السيطرة التي يخشونها من جانب الأكثرية الهندوسية. والقادةُ الإنكليز، من جهتهم، مستعدُّون طبعًا للدخول في هذه اللعبة. في الأول من تشرين الأول/أكتوبر، أجَّلَت لجنةُ الأقليات أعمالَها لمدة أسبوع واحد لكي تتيح الفرصةَ لممثلي مختلف الطوائف ليبحثوا عن اتفاق. لكنْ كان على غاندي، بتاريخ 8 تشرين الأول/أكتوبر، أمامَ اللجنةِ وبحضور رئيس الوزراء، أنْ يقرِّرَ الاعتراف بفشل هذه المحادثات، لكنه كان يرى أنَّ مسؤولية ذلك تعود بصورة رئيسية إلى الحكومة البريطانية: أسباب هذا الفشل مرتبطةٌ أساسًا بتشكيل الوفد الهندي. فأغلـبُنا ليسوا ممثلين منتخبين من الجماعات التي يُفترَض أننا نُمثِّـلها. نحن هنا لأنَّ الحكومةَ عيَّـنَـتْنا. والأشخاصُ الذين كان حضورُهم ضروريًا جدًا من أجل التوصل إلى حل ليسوا هنا. بالإضافة إلى ذلك، اسمحوا لي بأنْ أقولَ إنَّ اللحظة لم تكنْ مناسبةً كثيرًا لاستدعاء لجنة الأقليات. فمعرفة الحقيقة تفلت منا، بمعنى أننا لا نعرف ما الذي سنحصل عليه. ولو كنا نعرف بصورة قطعية أننا سنحصل على ما نريد لتوقَّفْنا خمسين مرةً قبل أنْ نضيِّعَه في مشاحنة مخزية؛ سيكون هذا هو الوقت المناسب فيما لو كان صحيحًا، كما قيل لنا، أنَّ الحصول عليه مرتبط بقدرة الوفد الحالي على إيجاد حل للمشكلة المعقَّدة للطوائف. يمكن أنْ يكونَ الحلُّ تتويجًا للدستور الذي يمنحنا الاستقلالَ، ولا يمكن أنْ يكونَ أساسَه، وذلك ببساطةٍ لأنَّ اختلافاتِنا اشتدَّت، إلاَّ إذا لم تظهرْ بسبب السيطرة الأجنبية. ليس عندي أدنى شكٍّ في أنَّ الجبل الجليدي من الاختلافات الطائفية سيذوب في حرارة شمس الحرية. ولهذا أجرؤ على اقتراح تأجيل لجنة الأقليات إلى أجل غير مسمَّى وعلى اقتراح استكمال مبادئ الدستور الأساسية بالسرعة الممكنة. وخلال هذا الوقت، لا بد للعمل غير الرسمي للبحث عن حل حقيقي لمشكلة الطوائف أنْ يستمرَّ وسيستمرُّ؛ يجب ببساطةٍ ألاَّ تشكِّلَ هذه المشكلةُ عقبةً وألاَّ يُلجأَ إليها لإيقاف تقدُّم تشكيل الدستور[15]. لم يعجبْ مثلُ هذا الحديث رئيسَ الوزراء وأبلغَ غاندي بذلك بدون تحفُّظ. فهو يرى أنَّ المشاكل التي تعترضُ بشأن مسألة الأقليات لا يمكن أنْ تُعزى إلى الحكومة البريطانية: فالمسؤولية تقع بالكامل على عاتق الهنود ويتعيَّن عليهم هم أنْ يتجاوزوا هذه المشاكلَ. فإذا لم ينجحوا في ذلك فستتَّخذ الحكومةُ عندئذٍ القراراتِ التي ترى وجوبَ استخدامَها. بتاريخ 12 تشرين الأول/أكتوبر، وبمناسبة حفل استقبال نظَّمَه أحد منتديات حزب العمال، أدلى غاندي بهذا التصريح الذي عَـبَّر فيه عن عقليته: على الرغم من أنني هنا للمشاركة في المؤتمر، أعتقد أنَّ عملي يكمن خارج المؤتمر من خلال إقامة اتصالات كهذه. في المؤتمر، حتى وإنْ حرصْتُ على جعل قلبي يتكلم وعلى وضع جميع أوراقي على الطاولة، فقد خضعْتُ، كأي مفوَّض آخر، لبعض القيود التي يجب عليَّ الالتزامُ بها. ولهذا لم أنجحْ في تقديم قضيتي بكل أبعادها. وحتى وإنْ ظننْتُ، رغم كل جهودي للتوصل إلى اتفاق ودِّي، أنَّ من المحتمَل أنْ أعودَ حُكْمًا صِفْرَ اليدين، فإنني سأكون راضيًا كلَّ الرضا إذا كنتُ قادرًا على تقديم قضيتي إلى الذين هم أشدُّ اهتمامًا بالهند لكنهم لسوء الحظ غير مطَّلعين على موضوع حزب المؤتمر. أؤكِّد أنَّ حزب المؤتمر يمثِّل بصورة لا تقبل الجدل جماهيرَ الهند، وأطلب منكم أنْ تعرفوا بأنني جئتُ إلى هنا لأطالبَ بالاستقلال الذي من أجله تعَرَّضَ آلافُ وآلافُ الرجال والنساء للسجن ولضربات العِصِيِّ والذي من أجله وصل الأمر ببعضهم إلى التضحية بحياتهم. إنَّ الاستقلال التام لا يستبعد المشاركةَ مع بريطانيا العظمى على أساس مساواة مطلقة ويمكن لأي طرف إلغاؤها[16]. وقد تلَقَّى غاندي، خلال إقامته في إنكلترا، أنباءً سيئة من الهند ورأى مسؤولو حزب المؤتمر أمام الموقف الذي كان يتفاقم أنَّ مكان غاندي في بلاده لا في لندن. غير أنَّ غاندي كان يرى أنَّ وجوده في أوروبا ليس عبثًا. بتاريخ 28 تشرين الأول/أكتوبر، أظهرَتْ نتائجُ انتخابات النواب البريطانيين نصرًا ساحقًا للمحافظين. وبقيَ رامساي ماكدونالد Ramsay MacDonald رئيسَ الوزراء لحكومةٍ ائتلافية، لكنه لم يعدْ قادرًا على تطبيق سياسة حزب العمال. وقد كان لهذا الوضع السياسي الجديدِ نتائجُ في التعاطي مع المسألة الهندية فكان لا بد من أنْ يُترجَمَ من خلال تصلُّب في موقف الحكومة. بتاريخ 5 تشرين الثاني/نوفمبر، استقبلَ الملكُ جورج الخامس والملكةُ ماري في قصر بوكينغهام Buckingham المندوبين الهنودَ إلى مؤتمر الطاولة المستديرة. وبعد شيء من التردد، وعلى الرغم من النصائح العديدة التي أُغدِقَت على غاندي في الاتجاه المعاكس، ذهبَ غاندي إلى حفل الاستقبال بدون أنْ يغيِّرَ شيئًا في طريقة لباسه الاعتيادية. وخلال المحادثة القصيرة التي جرت بين الرجُـلين، نسي الملكُ أنْ يتصرَّفَ كجنتلمان حقيقي أمام ضيفه. وقد حرصَ جورجُ الخامس على لفت انتباه غاندي إلى أنه إذا ما كان مواطنًا صالحًا حتى عام 1918 فقد ضلَّ الطريقَ فيما بعدُ، فآثرَ غاندي التزامَ الصمت. ثم سأله الملكُ لماذا قاطعَ ابنَه أميرَ الغال Galles [الوِيلْز Wales] خلال زيارته للهند عام 1921. فأجابه غاندي قائلاً: "لا ليس ابنكم، يا أيها السِّير، بل الممثل الرسمي للتاج البريطاني[17]." ثم عندما طلبَ منه جورجُ الخامس أنْ يتذكَّرَ أنه لا يمكنُ التساهلُ بأي تمرُّد في الإمبراطورية، اكتفى غاندي بأنْ قال له بفن فائق في التهرُّب: "لا يمكنني أنْ أَنْجَرَّ في حديث سياسي في قصر جلالتكم بعدما تلَقَّيتُ كرَمَ وفادةِ جلالتكم[18]." بتاريخ 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1931، قدَّمَ غاندي مداخلةً أمام لجنة التشكيل الائتلافي وعالجَ مسألةَ الدفاع عن الهند. وقد تكلَّمَ غاندي في مداخلته عن مشكلة الجيش من وجهة نظر سياسية لا من وجهة نظر عسكرية. فلديه اقتناع عميق بأنَّ عدمَ سيطرة الهند على جيشها هو أحد أوجُهِ السيطرة البريطانية الأكثر إهانةً. ولذلك، في المرحلة الأولى، وكرجُل سياسي واقعي، لا يطالبُ بإلغاء الجيش بل بالسيطرة عليه. بقيَ أنه مِن المدهشِ قليلاً سماعُ أنَّ رسولَ اللاعنف ينوي بهدوء توَلِّي قيادة الجيش الهندي. في الحقيقة، كان ببراعة كبيرة يريد أنْ يضعَ نفسَه في جو مُحاوريه فاستعار لغتَهم لكي يفهموه فهمًا أفضل. يجب بالتأكيد ملاحظةُ وجود شيء من المكر في كلامه عندما تظاهرَ بالطلب من الإنكليز تعليمَ الهنود الفنَّ العسكري الذي سيتيح لهم تأمينَ دفاعهم بأنفسهم. كان غرضُه الوحيدُ في الحقيقةِ هو المطالبةَ باستقلال شعبه، ولذلك ينبغي حتمًا ألاَّ تظلَّ الهندُ محتلَّةً من جيش أجنبي. وفي الوقت نفسه، كان غاندي يعي تمامًا أنَّ هذه المطالبةَ تحديدًا هي المطالبة التي لا ينوي الإنكليزُ تحقيقَها. لقد صرَّحَ ما يلي: كما تعلمون جميعًا فإنَّ موقف حزب المؤتمر هو أنه يجب أنْ يحصلَ تحويلٌ كامل للمسؤوليات إلى الهند. وهذا يعني، وهو ما تمَّ التأكيدُ عليه هنا سابقًا، أنَّ على الهند أنْ تمتلكَ سيطرةً تامةً على الدفاع وعلى الشؤون الخارجية. (...) فالدفاع والجيشُ هما الجوهرُ نفسُه لوجود أية أمة، فإذا سيطرَت على دفاع الأمة سلطةٌ أجنبيةٌ حتى وإنْ كانت صديقةً فعندئذٍ لا تكون هذه الأمةُ بالتأكيد محكومةً بطريقة مسؤولة. (...) أريد إذًا، وباحترام كبير، المطالبةَ من طرف حزب المؤتمر بالسيطرة التامة على الجيش وعلى قوات الدفاع وعلى الشؤون الخارجية. (...) أودُّ أنْ تتفهَّمَ هذه اللجنةُ، ولو لبضع لحظات قصيرة فقط، ما يمثِّله هذا الجيشُ حاليًا. إنَّ هذا الجيش، في رأيي، هو في الحقيقة جيشُ احتلال سواء أكان هنديًا أم بريطانيًا. (...) ما هو هدف الجيش البريطاني؟ يعرف كلُّ طفل هندي أنَّ الجيش البريطاني، وبما فيه الجيش الهندي، موجود هنا للدفاع عن المصالح البريطانية ولتجنُّب اعتداء أجنبي أو صدِّه. (...) ثالثًا، إنه جيش هدفُه قمع التمرُّد على السلطة المشكَّلة. هذه هي مهماتُ هذا الجيشِ الرئيسيةُ، وعليه فلا يفاجئني أنْ يكون موقفُ الإنكليز هو الموقف الحالي. فلو كنتُ إنكليزيًا وكان لديَّ الطموحُ أيضًا في السيطرة على أمة أخرى فسأفعل الشيءَ نفسَه تمامًا. وسأستولي على الهنود وسأدرِّبهم لكي يصيروا جنودًا وسأُؤَهِّـلُهم بحيث يكونوا مخلصين لي، مخلصين إلى درجة أنهم سيطلقون النارَ، بناءً على أمر مني، على أي شخص أريد إطلاقَ النار عليه. (...) لا شكَّ في إنَّ الجيش البريطاني يحمي الموظفين والأشخاصَ البريطانيين كما يجب. مرةً أخرى، ما كنتُ لأرفعَ أيةَ شكوى لو أنني كنتُ أقبل بالمبدأ القائل بأنَّ مِن حقِّ بريطانيا العظمى احتلالَ الهند وبأنَّ مِن حقِّها السيطرة على الهند اليوم والاستمرار في السيطرة في أية ظروف. (...) ليس عندي أي مانع في أنْ أقولَ ما الذي ينبغي فعله بهذا الجيش؛ وسأقول بصورة قطعية أنَّ على هذا الجيش أنْ يُـحَـلَّ بالكامل إذا لم يصبحْ تحت سيطرتي، وذلك قبلَ أنْ أتمكَّنَ من الاضطلاع بأعباء حكومة الهند المليئة بالعقبات الرهيبة التي نرزح تحت ثقلِها اليومَ والتي ورثْناها عن سلطة أجنبية. وبالتالي فإنَّ موقفي الأساسي هو أنْ أقولَ لكم بأنه إذا كنتم، أيها الوزراء البريطانيون والشعب البريطاني، تريدون أنْ تُقرِّروا بشأن الهند، وإذا كنتم تريدون الآن أنْ تنقلوا السلطةَ إلينا، فاعلموا إذًا أنَّ وجوب أنْ يكون الجيشُ تحت سيطرتنا بالكامل هو شرط أساسي. لكنني قلْتُ لكم أنني على دراية بما ينطوي عليه ذلك من خطر. فالجيشُ لن يقبلَ بقيادتي. أعرفُ ذلك حقَّ المعرفة. أدري أنَّ القائدَ العامَّ البريطانيَّ لن يرضى بقيادتي؛ وأنَّ السيخَ وعشائر الراجبوت Rajputs الأُباةَ لن يقبلوا بقيادتي. لكنني، حتى في هذه الظروف، أنوي ممارسةَ هذه القيادة من بعد تفَهُّم الشعب البريطاني لذلك. من المفروض أنْ يعتبرَ الإنكليزُ الآن وبكل فخر أنَّ مِن حظِّهم وواجبهم أنْ يُعَـلِّمونا على أسرار إدارة دفاعنا. فبعدَ أنْ قصُّوا أجنحتَنا، يتعيَّنُ عليهم منْحُنا أجنحةً نستطيع أنْ نطيرَ بها كما يطيرون. إنَّ ذلك طموحي حقًا، وبالتالي سأنتظرُ إلى أبد الآبدين إذا لم أتمَكَّنْ من الحصول على السيطرة على الدفاع. أرفضُ أنْ أخدعَ نفسي بالتفكير بأنني أتَّجه نحو حكومة مسؤولة في حين أنني لا أتمكَّن من السيطرة على دفاعي[19]. عندئذٍ وجدَ رئيسُ الجلسة الفرصةَ مناسبةً لكي يُلْفِتَ نظرَ غاندي إلى أنَّ حديثَه يتعارضُ تعارضًا تامًا مع نص ميثاق دلهي الذي وقَّعه أصولاً والذي ينصُّ صراحةً على أنَّ الدفاع في جميع الأحوال، «ولما فيه مصلحةُ الهند» هو منطقة محجوزة domaine réservé تبقى من اختصاص السلطة البريطانية. بتاريخ 24 تشرين الثاني/نوفمبر 1931، نشرَت صحيفةُ إيكو دو باري l'Écho de Paris [صدى باريس] في صفحتها الأولى مقابلةَ غاندي التي أجراها مارت بايليس Marthe Baylis*. كتبَ الصحفيُّ ما يلي: يجلس المهاتما غاندي القُرْفُصاءَ لابسًا مئزرًا متغطيًا بأقمشة بيضاء وبيدِه مِغْزَل. الانطباع الأول: جسد هزيل جدًا، رأسٌ يُذَكِّر بالطير الجارح، عينان سوداوان ثاقبتان تشبهان المَحاليقَ vrilles [المِحْلاقُ tendril: جزء لولبيٌّ أو ساق أو ورقة متحوِّرة من النبتة المعترشة يساعدها على التعلُّق]. (...) وها هي المقابلة تبدأ: "- هل الهند أقرب إلى الاستقلال من وقت انطلاقكم من بومباي؟" فقال غاندي مبتسمًا ابتسامةً ماكرةً: "- لنلاحظْ، أبحرْتُ منذ سبعة أسابيع...، إذًا فقد اقتربْنا من هدفنا سبعة أسابيع! يشبه المهاتما غاندي بصورة واضحة أبا الهول sphinx [تكتنفه الأسرارُ]. ويريد أنْ يَظهَرَ أقلَّ غموضًا بشأن الخلافاتِ التي تُفرِّق بين هندوس ومسلمين. - لقد قامت إنكلترا دائمًا بالتفرقة لكي تسودَ. فلينسحبِ الإنكليزُ وسنتصالح نحن. - أفأنتَ متأكِّدٌ من ذلك؟ فالمسلم بطبعه ميَّالٌ للحرب بحيث لا يستسلم بدون معركة: وستدخلون في حرب أهلية. - لا يهم. فالحريةُ فوق كل شيء. وإذا كان يجب أنْ ندفعَ ثمنَها غاليًا فنحن نعرف أكثرَ مِن غيرِنا ثمنَها. - كما أنَّ هذه الحرية التي تتكلَّمون عنها تتطلَّب أيضًا المساواةَ حتى لا تبقى كلمةً لا معنى لها...، ونظامُ الطبقات يجعل العدالةَ مستحيلةً... فماذا إذًا؟ أجاب غاندي بتفاؤل بعيدٍ عن أنْ يشاركَه فيه 156 مليون هندوسي من الطبقات و60 مليونًا من المنبوذين: "- نظامُ الطبقات ينهار". أترك مجالَ الخلافات الداخلية لأتطرَّقَ للمسائل الأوسع من ذلك: - إذا رفضَت إنكلترا أنْ تجمعَ الهندَ في دولة اتِّحادية وأنْ تعترفَ باستقلالها التام، هل تقبلون بتسوية؟ - أبدًا! - وإذا أخفقَ مؤتمرُ الطاولة المستديرة، هل ستعودون إلى النضال؟ فاعترفَ غاندي بحزن وأخذ يتكلَّم بصوت منخفض: "- هذا أمرٌ لا مفرَّ منه". وأمام هذه الرؤية للمستقبل، بدا التعبُ يجتاحه. فتأثَّرْتُ لمنظر هذا الرجل النحيل الذي لا تمسكه على الأرض إلاَّ إرادةٌ فولاذيةٌ. واستأنفَ قائلاً: "- سأُعتقَلُ عند عودتي، وسيلاقي جميعُ القادة مصيرَهم الواحدُ تلوَ الآخر، لكنَّ القوةَ المسلَّحةَ لن تنجحَ في قتل وطنية آلاف الرجال والنساء المستعدِّين لمواجهة الفقر والعذاب الجسدي والموت". - إذا حصلَت الهند على الاستقلال فهل سيكون لذلك انعكاساتٌ على الهند الصينية l'Indochine؟ - طبعًا! فالمقاومةُ المدنية (ساتياغراها Satyagraha) ستُحرِّرُ جميعَ شعوب آسيا. لِما في ذلك أيضًا من خير أكبر لهم... نرى المهاتما غاندي لا يؤمن بمحاسن الاستعمار الفرنسي أكثرَ مما يؤمن بالأعمال التي بدأَتْ بها إنكلترا. فلنسألْه بسرعة عن رأيه بالأزمة العالمية وبمؤتمر نزع السلاح. يجيبني باختصار: - ينبغي أنْ يكونَ المرءُ دكتاتورَ العالَم لكي يفكر بسؤالك الأول... أما الأسلحة فدمِّروها! يجب على السلام أنْ يأكلَ الحربَ؛ ويجب على الحب أنْ يحلَّ محلَّ الكراهية! (...) قوة روحانية، هذا هو الانطباع النهائي الذي أخذْتُه عن المهاتما غاندي، شخصية محيِّرة في تعقيدها، حيث يختلط المكرُ بالبساطة والهذيان بالحكمة. فهذا الرجلُ الذي اعتنى بالمجذومين والمصابين بالطاعون واستقبل المحرومين والفقراءَ قد ركَّعَ الحشودَ بتفانيه: لقد استعاض عن طموح كبار الفاتحين بالتواضع واستعاض عن قوَّتهم بلطف أقوى من العنف. هناك مسؤولية كبيرة تلقي بثقلها على كتفيه النحيلتين. فالمهاتما غاندي يمكنه أنْ يضعَ الهندَ على طريق النظام أو على طريق الفوضى؛ ومصيرُ الإمبراطورية البريطانية ومصير أوروبا المتضامنةِ منوطان بقراره. فهو متعصِّب خطير أم مجنون شهير أم قدِّيس كبير – وحدَه التاريخُ يمكنه أنْ يقرِّرَ بشأنه. بتاريخ 25 تشرين الثاني/نوفمبر، قدَّمَ غاندي مداخلةً أمامَ لجنة التشكيل الائتلافي وتكلَّمَ طويلاً عن موقفه من الإرهاب. وشجبَ بشدةٍ مثلَ هذه الطريقة في التصرُّف، مؤكِّدًا قناعتَه في أنَّ أفضلَ طريقةٍ لاستئصاله هي تلبية مطالب الهنود: أحرص أشدَّ الحرص على إزالة كل سوء في التفاهم. ولأجل ذلك، اسمحوا لي أنْ أضربَ مثلاً. سأختار البنغالَ مثالاً لأنها اليوم إحدى الأقاليم الهندية التي تأثَّرَت تأثُّرًا عميقًا. ولا يخفى علَيَّ وجودُ مَدْرسة إرهابية ناشطة في البنغال. يجب على كل امرئ أنْ يدركَ الآن أنني لا أتعاطفُ أيَّ تعاطف مع هذا الإرهاب مهما كان شكله. وإنني الآنَ لَمقتنعٌ كما كنتُ دائمًا بأنَّ الإرهاب هو أسوأ شكل للعمل يمكن أنْ يتبَـنَّـاه المصلح. وبصورة خاصة جدًا، الإرهاب هو حقًا أسوأ شيء للهند، لأنَّ الهندَ هي ميدان مهيأ لينموَ فيه العنفُ. كما أنني مقتنع بأنَّ هؤلاء الشبَّانَ الهنودَ الذين يُقدِّمون حياتَهم من أجل ما يرونه قضيةً عادلةً إنما بكل بساطة يضيِّعون حياتَهم سُدىً ولا يُقرِّبون بلادَنا قيدَ أَُنْـمُـلةٍ من الهدف الذي آمل أنْ يكون مشتركًا بيننا جميعًا. إنني مقتنع بكل ذلك، ولكنْ، مع اقتناعي بذلك، وعلى افتراض أنَّ البنغال حصلَت اليومَ على استقلالها كإقليم، ماذا يمكن للبنغال أنْ تفعلَ؟ يمكن للبنغال أنْ تُطلِقَ سراحَ كل معتقَل. وينبغي على البنغال – وأعني البنغالَ المستقلةَ – ألاَّ تطاردَ الإرهابيين، بل أنْ تحاولَ أنْ تمدَّ لهم يدَها وتهديَهم، وسآتي إليهم بكل ثقة وسأزيلُ إرهابَ البنغال. (...) ولو أنَّ البنغالَ كانت مستقلَّةً لقضَت هذه الاستقلاليةُ نفسُها على الإرهاب في البنغال، لأنَّ جنونَ هؤلاء الإرهابيين يجعلهم يعتقدون أنَّ عملهم هو أفضل طريق مختصر نحو الحرية؛ ولكنْ عندما تحصل هذه الحريةُ فإنَّ الإرهابَ سيتوقَّف[20]. بتاريخ 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1930، افتُتِحَت الجلسةُ الأخيرةُ لمؤتمر الطاولة المستديرة برئاسة رئيس الوزراء رامساي ماكدونالد. وتكلَّمَ غاندي فيها بتاريخ الأول من كانون الأول/ديسمبر قائلاً: حزب المؤتمر هو وحدَه الذي عليه أنْ يطالبَ بحق تمثيل أكثر من 85% من الشعب الهندي، أيْ ملايين العاملين الصامتين الذين يموت نصفُهم جوعًا. ولكنْ سأذهب أبعدَ من ذلك وأقول: حزبُ المؤتمر يطالب كذلك بحق تمثيل الأمراء أيضًا، إذا شاؤوا أنْ يسمحوا لي بأنْ أدَّعيَ هذه المطالبةَ، وصغار النبلاء الإقطاعيين، والطبقة المثقَّفة. أريد أنْ أكرِّرَ هذه المطالبةَ وأريد هذا المساءَ أنْ أشدِّدَ على هذه المطالبة. تمثِّل جميعُ الأطراف الأخرى المشارِكةُ في هذا المؤتمر مصالحَ خاصةً بقطاعات محدَّدة. حزبُ المؤتمر هو وحدَه الذي يطالب بحق تمثيل كل الهند ومصالح جميع الهنود. فحزبُ المؤتمر ليس تنظيمًا طائفيًا؛ إنه عدو لدود للطائفية، أيًا كان شكلُها. ولا يعترف حزبُ المؤتمر بأي تمييز في العرق أو اللون أو المعتقَد؛ فقاعدتُه جامعة. (...) ومع ذلك فإنني ألاحظ هنا أنَّ حزب المؤتمر يعامَـلُ فقط كواحد من الأطراف المشارِكةِ في هذا المؤتمر. وهذا لا يهمني كثيرًا؛ ولا أرى ذلك كارثةً لحزب المؤتمر؛ بل أراه كارثةً للعمل الذي من أجله اجتمعْنا معًا هنا. (...) وعلى الرغم من أنكم دعوتم حزبَ المؤتمر فإنكم لا تثقون بحزب المؤتمر. على الرغم من أنكم دعوتم حزبَ المؤتمر فإنكم ترفضون مطالبتَه بتمثيل كل الهند. (...) يمثِّل حزبُ المؤتمر روحَ التمرُّد. أعْلَم أنَّ كلمة «تمرُّد» ينبغي عدم ذِكْرِها في مؤتمر دُعيَ إليه بهدف التوصل معًا إلى حل اضطرابات الهند عن طريق التفاوض. وجميع المتكلِّمين قالوا إنَّ الهندَ يجب عليها الحصولُ على استقلالها بالتفاوض، بالنقاش، وسيكون هذا أكبر فخر لبريطانيا العظمى إذا ما استجابَت لمطالب الهند عن طريق التفاوض. لكنَّ حزب المؤتمر لا يوافق تمامًا على وجهة النظر هذه. يقترح حزبُ المؤتمر خيارًا لا تُحبِّذونه. استمعتُ إلى عدة متكلِّمين (...) يقولون إنَّ الكارثة ستكون مفجعةً إذا ما اشتعلَت الهندُ بروح الفوضى والتمرُّد والإرهاب وما إلى هنالك. إنني لا أزعم أنني درَسْتُ التاريخَ، لكنني كطالب قدَّمْتُ أيضًا امتحانًا في التاريخ وقرأتُ أنَّ صفحات التاريخ تحمل بقعًا حمراء مصدرُها دماءُ الذين ناضلوا من أجل الحرية. فخنجرُ القاتل وكأسُ السم ورصاصة الرامي والحربةُ وجميعُ هذه الأسلحة ووسائل التدمير هذه قد استخدمَها حتى الآن أشخاصٌ أعتبرُهم عُشَّـاقًا عُمْيًا للحرية والاستقلال، والتاريخُ لم يحاكمْهم. (...) باسمِ الحريةِ، تقاتلَ الناسُ، خسروا حياتَهم، قَتَلوا وقُتِلوا بأيدي الذين كانوا قد سعَوا إلى أنْ يطردوهم ويحلُّوا محلَّهم. وعندئذٍ اعتلى حزبُ المؤتمر المسرحَ وقدَّمَ تصوُّرًا لمنهج جديد لا يعرفه التاريخُ، ألا وهو العصيان المدني، وقد اتَّبعَ حزبُ المؤتمر هذا المنهجَ بثبات. ولكنني اصطدمْتُ من جديد بجدار صلب وقيل لي إنه منهج لا تتساهل فيه أيةُ حكومة في العالَم. بالطبع لا يمكن للحكومة أنْ تتساهلَ بالتمرُّد المفتوح ولم تتساهلْ به أيةُ حكومة. ما مِن حكومةٍ يمكنها أنْ تتساهلَ بالعصيان المدني، لكنْ لا بد للحكومات من أنْ تستسلمَ لهذه القوة. (...) أودُّ أنْ أُقدِّمَ لكم اقتراحًا، أيها السيد رئيس الوزراء: لقد فات الأوانُ اليومَ لمقاومة ذلك. (...) آملُ على الرغم من عدم وجود أي أمل يلوح وسأبذل كلَّ جهودي للتوصل إلى اتفاق مشرِّف لبلادي بدون أنْ يكون هناك ضرورةٌ لإدخال الملايين من الرجال والنساء وحتى الأطفال من بلادي عبْرَ اختبارِ إطلاق النار هذا. فمِن غيرِ المستحبِّ لي ولا المريحِ أنْ أقودَهم من جديد إلى معركة من هذا النوع، ولكنْ إذا كان اختبارٌ جديد لإطلاقِ النار هو قدَرَنا لا محالةَ فإنني سأتصدَّى له بأكبر فرح ممكن وبأكبر عزاء ممكن مع العِلْم أنني أقوم بما أراه صحيحًا وأنَّ بلادي تفعل ما تراه صحيحًا، وما سيزيد في رِضى بلادي هو معرفتها بأنها على الأقل لم تنتزعْ من الآخرين حياتَهم، بل قدَّمَت حياتَها، ولم تسبِّبِ المعاناةَ للشعب البريطاني بصورة مباشرة، بل هي التي عانت. (...) إذا قطعتُ هذه المرةَ كلَّ هذه الكيلومترات للدخول في التفاوض فذلك لأنني كنتُ أعتقد أنَّ ابن بلدكم، اللورد إيروين، قد اختبرَنا بما يكفي من خلال قراراته وأنَّ لديه ما يكفي من الدليل على أنَّ آلاف الرجال والنساء في الهند وآلاف الأطفال قد تعرَّضوا للمعاناة وأنْ لا قرارَ ولا غيرَ قرار، لا هراوات ولا غير هراوات، لا شيءَ يمكن أنْ يفيد في إيقاف المد الذي يندفع صُعُدًا وفي إيقاف الغضب الذي يكبر في صدور الرجال والنساء في الهند المتعطِّشين للحرية. (...) إنَّ أمَّـةً تبلغ 350 مليونَ نسَمة لا تحتاج إلى خنجر القاتل، ولا تحتاج إلى كأس السم، وليست في حاجة إلى السيف أو إلى الرمح أو إلى رصاصة البندقية. تحتاج فقط إلى أنْ تطلبَ ما تريد وأنْ تكونَ قادرةً على قول: «لا»، وهذه الأمةُ تتعلَّم اليومَ كيف تقول «لا». لكنْ ماذا تفعل هذه الأمَّةُ؟ هل تريد إلى حد ما أنْ تطردَ الإنكليزَ؟ لا. مهمَّتُها اليومَ هي هداية الإنكليز. لا أريد قطْعَ العلاقة الموجودة بين إنكلترا والهند، بل أريد تغييرَ هذه العلاقة. أريد تحويلَ هذه العبودية إلى حرية كاملة لبلادي. سَمُّوا ذلك «استقلالاً كاملاً» أو سَمُّوه ما شئتم. لا أريد أنْ أتنازعَ مع أحد على هذه الكلمة[21]. وفي أثناء الكلمةِ التي ألقاها غاندي ليشكرَ رئيسَ الوزراء على استقباله للمؤتمر، لم يستطِعْ أنْ يتمالكَ نفسَه من القول بأنَّ ما يبدو له هو أنهم قد وصلوا إلى لحظةٍ «أخذَ فيها طريقاهما اتِّجاهينِ مختلفَين[22].» وكما كان غاندي قد توقَّعَ فقد رجعَ إذًا صِفْرَ اليدين من مؤتمر الطاولة المستديرة. لم يتنازلْ عن شيء، لكنه لم يحصلْ على شيء. على الأقل، لا يمكن لأحد أنْ يلومَه على عدم سعيه لاستنفاد إمكانيات الحوار التي قدَّمَتْها له السلطةُ البريطانية. لكنْ ألمْ يكنْ هذا العَرْضُ للحوار مناورةً لصرفِه عن غايته ولدفعِه إلى إيقاف الكفاح؟ مِن المرجَّحِ أنَّ هذا الهدف لم يكنْ غائبًا عن حسابات الحكومة في لندن. في النهاية، كان من الواضح جدًا أنَّ المواقف التي دافعَت عنها هذه الحكومةُ والمطالبَ التي قدَّمَها حزبُ المؤتمر كانت في ذلك الوقت لا يمكن التوفيق بينها. ربما كان غاندي استطاع أنْ يُقنِعَ جزءًا من الرأي العام البريطاني بشرعية كفاح الشعب الهندي من أجل حريته. وذلك لم يكُ شيئًا لا قيمةَ له، ففي النهاية كان غاندي قادرًا على العودة إلى الهند وهو يشعر بأنه قد أنجزَ مهمتَه كسفيرٍ لبلاده لدى الشعب البريطاني. لكنْ لم يكنْ في مقدوره أنْ يشُـكَّ في أنه قد يجب عليه استئنافُ الكفاح في القريب العاجل. ترجمة: محمد علي عبد الجليل *** *** *** [1] المجلد 47، ص 413. [2] المجلد 47، ص 415. [3] المجلد 47، ص 421. [4] المجلد 48، ص 2-4. [5] مورييل ليستير Muriel Lester، La signature de Gandhi [توقيع غاندي]، ﭭـيرساي، لا ريكونسيلياسيون La Réconciliation، 1950، ص 10. [6] ﭭـينسَنت شين Vincent Sheean، Mahatma Gandhi, A Great Life in Brief [المهاتما غاندي، حياة عظيمة باختصار]، نيودلهي، قسم المنشورات، وزارة الإعلام والإذاعة، حكومة الهند، 1969، ص 144. [7] تارا شاند Tara Chand، History of Freedom Movement in India [تاريخ حركة التحرُّر في الهند]، سبق ذِكْرُه، ص 164. [8] نِهْرو Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجني]، سبقَ ذِكْرُه، ص 248-249. [9] المجلد 48، ص 18-19. [10] المجلد 48، ص 66. [11] مادلين سلاد Madeleine Slade، Dans l'intimité de Gandhi [بين أصدقاء غاندي]، سبقَ ذِكْرُه، ص 104. [12] The Nation's Voice [صوت الأمة]، سبق ذِكْرُه، ص 199. [13] صحيفة الإلُّوستراسيون L'Illustration، 10 تشرين الأول/أكتوبر 1931. [14] المجلد 48، ص 367-368. [15] المجلد 48، ص 115-116. [16] المجلد 48، ص 139-140. [17] ذكرَه د. ج. تيندولكار D. G. Tendulkar، Mahatma [المهاتما]، سبق ذِكْرُه، المجلَّد الثالث، ص 126-127. [18] ذكرَه هوراس ألكسندر Horace Alexander، Gandhi through Western Eyes [غاندي في أعين الغرب]، بومباي، دار نشر آسيا، 1969، ص 82. [19] المجلد 48، ص 304-307. * نص هذه المقابلة غير وارد في The Collected works of Mahatma Ghandi [الأعمال الكاملة للمهاتما غاندي]. [20] المجلد 48، ص 388. [21] المجلد 48، ص 356 وما يليها. [22] المجلد 48، ص 373. |
|
|