هل الزمن موجود؟

 

موسى ديب الخوري

 

يتساءل شرودنغر في محاضرة له ألقاها في عام 1950 بعنوان العلم كعنصر مشكل للإنسانية في دبلن (IAS):

ما هي قيمة البحث العلمي؟ [...] وتطبيقاته التقنية والصناعية [...] وإلى أي حد ساهمت في الإجابة على سؤال أفلوطين: من نحن في النهاية؟

وفي الحقيقة كيف نستطيع الإجابة على سؤال من هذا النوع دون الدخول في محاولة للإجابة على تساؤلات تتعلق بالمفاهيم الأساسية مثل الزمن؟ وكيف يمكن لنا أن نفهم الزمن بعد نظرية النسبية الخاصة، التي تلغي أي معنى لمصطلح "الآن"، وبعد نظرية النسبية العامة، التي تسمح بتصور انبثاق "الزمكان" في انفجار كوني كبير. ثم كيف نفهم "الواقع" بعد نظرية مثل النظرية الكمومية التي تصف الواقع كتراكب لعوالم متعددة؟

كان تصور الإنسان للزمن عبر "التاريخ" يختبر واقعًا افتراضيًا لصيقًا بصيرورة الأشياء وتغيُّرها. يقول هيراقليطس Héraclite: Panta rei، أي "كل شيء يمر"! وهو ما يعبر عنه فيرجيل بطريقة أكثر "ألمًا": الوقت الهارب، لا يمكن إصلاحه Fugit irreparabile tempus. وإن كنا نريد البحث في كتابات الفلاسفة والأدباء فسنجد الكثير من الشاعرية الممزوجة بالتأمل العميق، حول الزمن، "هذا المجهول الذي يبقى بينما نحن نغيب في الثرى" كما يقول رونزار Ronsard. لكن، هل من أمل في إيقافه، لا كما يقول لامارتين Lamartine:

أيها الزمن، ألا أوقف طيرانك!... ليس للإنسان مرفأ، وليس للزمن شاطئ، إنه يجري ونحن نمضي...

في تعريف الزمن، نقرأ في القاموس الفرنسي Petit Robert (1977):

هو وسط غير معرَّف حيث يبدو أن الوجودات تجري متغيرة فيه بشكل لاعكوس، وكذلك الأحداث والظاهرات في تتابعها.

ويقول برغسون في كتابه الزمن والتزامن (1923) Durée et simultanéité:

يعتقد الحس السليم بوجود زمن وحيد، هو نفسه بالنسبة لجميع الكائنات والأشياء [...]. فكلنا يشعر بالوقت [...] وليس ثمة سبب بالنسبة لنا يدعونا للاعتقاد بأن وقتنا ليس هو نفسه وقت الأشياء الأخرى كلها.

ومع أن برغسون عاصر النسبية لكن استمرارية الزمن وفكرة مطابقته العالمية ظلت قائمة في أذهان الفلاسفة والعلماء على حد سواء. يقول يانكلفيتش Jankélévitch (1978):

حتى لو اختفى آخر جسم سماوي في انكماش كوني هائل، فإن الزمن سيستمر في الجريان. ولن يكون الإنسان موجودًا لكي يسمي الساعات والأيام والأسابيع والشهور والسنين... لن يكون ثمة ساعات لحساب الزمن... لكن زمنية الزمن ستبقى بعد فناء كافة التقاويم وكافة الساعات في الكون!

إن هذه التعاريف والأقوال في الزمن ما هي إلا صدى زمن نيوتن المطلق، والحقيقي والرياضي كما يصفه، والمنبثق من ذاته ومن طبيعته الخاصة. وباختصار يمكننا تعريف الزمن في المنظور المعتاد والمألوف له: بأنه شيء يقع خارج الكون المادي، ومتضمن في الواقع كله، وغير عكوس، ويجري حاملاً معه الآن من الماضي إلى المستقبل!

لكن وفقًا للفيزياء اليوم، فإن الزمن لا يقع خارج الكون المادي، وهو غير متضمن في كل واقع كوني، بل لا يمكن تعريفه إلا بشكل محلي، وهو بشكل جوهري عكوس، أما مرور الزمن فليس سوى وهم... وقد خلق هذا الفهم الجديد للزمن، منذ النسبية العامة بشكل خاص، جدلاً لم ينته حتى الآن. ولا يزال الجدل الشهير بين أينشتين عند مروره بباريس في عام 1922 مع برغسون يلقي بظله على الحوارات العلمية حول ماهية الزمن، والذي يلخص بعبارة أينشتين الشهيرة:

الزمن غير موجود.

ورد برغسون:

وحدها اللحظة الحاضرة، مدركة ضمن حركة أبدية، هي لحظة حقيقية.

وقد عكس مارسيل بروست Marcel Proust في زمنه الضائع هذا الجدل حول الزمن في بدايات القرن العشرين عندما كتب:

إن ذاتنا الحقيقية تتجاوز ترتيب الوقت ونظام الزمن [بل ويمكنها بلوغ] الجوهر الدائم والخفي للأشياء.

وفي رسالة كتبها بروست في كانون الأول من عام 1921 إلى دو غيش A. de Guiche يقول:

كم أحب أن أحدثك عن أينشتين! لقد قيل لي إن أفكاري تشتق من أفكاره أو العكس، وأنا لا أفهم كلمة مما يقوله في نظرياته، فلست أعرف الجبر. وأنا أشك أنه قرأ رواياتي. ويبدو أن لدينا طريقة متشابهة في النظر إلى الزمن!

لكن التبسيط العلمي الذي يتناول اليوم تطور علوم الكونيات يكاد يسقط في كثير من الأحيان، كما فعل في السابق، أكثر من منظور للزمن يمكن أن يشتق من النظرية النسبية، وهو أمر لا شك أن بروست لم يدركه. فتبسيط العلوم يميل، خاصة عندما نتحدث عن الكونيات النسبوية، وتحديدًا عن الانفجار الكبير، لاستخدام لغة توحي بأن النسبية العامة تعيد إدخال مفهوم الدفق الزمني الذي كانت النسبية الخاصة قد ألغته. لكن على العكس، فإن التنوع اللانهائي للأكوان الممكنة وفق نظرية أينشتين يقدم أمثلة لا تعد على "العوالم" التي يكون فيها الدفق الزمني "غير واقعي" وغير موجود. ومن الأمثلة على ذلك كون غودل Godel الذي طرحه في عام 1949، وكون الثقوب الدودية، وكون غولد الذي طرح في عام 1962 وغيرها.

وقد عادت هذه الأفكار لتطرح بقوة في ندوة بوانكاريه séminaire Poincaré العلمية الخامسة عشرة في باريس تحت عنوان الزمن، بين 4 و18 كانون الأول من عام 2010. ومن هذه النقاط المهمة التي طرحت في الندوة ما يمكن إيجازه بما يلي: إن العلم يفكك أكثر فأكثر مفهوم الزمن، إلى درجة أن الزمن بالنسبة لبعضهم ليس موجودًا: بل إن الماضي والحاضر والمستقبل موجودون معًا ولا ينفصلون. وقدم تيبو دامور Thibault Damour في هذه الندوة محاضرة عرضت للتوجه الفيزيائي المعاصر للنظر إلى العالم بعيدًا عن عامل الزمن. فالزمن بحسب دامور ليس سوى وهم. ونحن نفهم ذلك من أجل المستقبل، لكنه صحيح بالنسبة للماضي أيضًا. وقد ساهمت نظريات عدة على مدى القرن العشرين في إضعاف مفهومنا لسهم الزمن اللاعكوس كما يقول دامور:

-       زمن بولتزمان: حيث يجري الزمن في هذا الاتجاه أو ذاك وفق الإحصائية المحلية للمناطق الكونية. وقد دحض لاندو Landau وليفشيتز Lifshitz هذا السيناريو في عام 1938، وكذلك فعل فاينمان Feynman بعدهما، لكنه عاد إلى واجهة علم الكونيات ليثير الجدل من جديد.

-       كون غودل L’univers de Gödel: يقترح غودل Gödel حلاً لمعادلات النظرية النسبية توجد فيه خطوط كون مغلقة يكون من الممكن فيها الوصول إلى الماضي عن طريق المستقبل.

-       كون غولد (1962): إن تغير الأنتروبي مرتبط بتوسع الكون. وفي نموذج غولد، يولد الكون من انفجار كبير ويموت مع انكماش كبير. فالأنتروبي تتناقص مع الانكماش الكبير، وينعكس سهم الزمن عندما يبدأ الكون بانكماشه.

إن اللاتناظر بين الماضي والمستقبل الذي نستنتجه في الكون مرتبط بالقانون الثاني في الترموديناميك الذي يقول إن الأنتروبي في منظومة ما تزداد باستمرار. كان لوميتر أول من عالج هذا الرابط بين الأنتروبي والكونيات في عام 1931 عندما طرح فرضيته في الذرة البدئية التي كانت أساس فكرة الانفجار الكبير.

وطالما أن الأنتروبي يمكن أن تتناقص بالنسبة لبعض المنظومات التحتية، فإن سهم الزمن يمكن أن يتجه في الاتجاه المعاكس للذي نعرفه في أجزاء أخرى من الكون.

ويتساءل إتيين كلاين[1] Étienne Klein، مع كل معارفنا الجديدة حول الواقع الفيزيائي، ومع ظهور الزمن النسبي، بل وإمكانية أن يكون ثمة أكثر من اتجاه للزمن في مواضع أخرى من الكون، فبما أنه أصبح لكل مراقب زمنه الخاص فإن ما اختفى ليس الزمن نفسه، بل فقط فكرة معينة عن الزمن!

مع ذلك، ثمة اليوم نظريات لا تزال في بداياتها تقول إنها يمكن أن تتخلى عن فكرة الزمن نفسها. ولما لا؟ لكن مع ذلك، علينا التأكد من أن هذا الأخير لم يتخف في مصطلح أو موضع آخر، أو أنه لم يضع قناعًا، أو أنه لم يتبهرج ببهارج أخرى، مثل تلك التي تسمى "المتحولات الديناميكية"، و"التطور"، و"السببية" أو "العلاقات الأساسية بين الأحداث". باختصار، لكي نستطيع التأكيد أن الزمن تبخر فعلاً، علينا قبل ذلك تحديد ما هو هذا الشيء الفريد الذي نسميه الزمن، وما هي خصائصه، وما هي قوانينه ونظامه بالنسبة إلى الأشياء والأحداث. وباختصار، لكي نؤكد أن الزمن غير موجود كما يقول كلاين، علينا أولاً أن نعرف ما هو الزمن.

تعيدنا هذه التساؤلات في الواقع إلى مسائل قديمة. فقد تردد الفيزيائيون طويلاً بين مفهومين مختلفين بشكل جذري حول طبيعة المكان والزمان. فبالنسبة لبعضهم، يوجد المكان والزمان بذاتهما، بشكل مستقل عن الأشياء. ونتحدث عندها عن تصور جوهري. وبالنسبة لفزيائيين آخرين فإن المكان والزمان ينبثقان من العلاقات والصلات بين الأشياء. ونتحدث عندها عن تصور علائقي (قائم على العلاقات).

في التصور الجوهري للمكان، ثمة في الكون نمطان من الأشياء والأجسام: الأجسام المادية، والمكان. في حين أنه لا يوجد في التصور العلائقي سوى الأجسام المادية في الكون. في الحالة الأولى، المكان هو عبارة عن حلبة، مسرح، أو حاوية للأشياء. وما يحتويه من أشياء – أي الأجسام المادية – لا تغير من خصائص الحاوية. فعندما أحرك أو أنقل قطعة أثاث في غرفة لا يتشكل لدينا الانطباع بأن ذلك يغير حجم أو زاوية الجدران مثلاً. وعندما أفرغ علبة من محتوياتها فإن هذه الأخيرة تحافظ كما يبدو على الشكل الذي كانت تتسم به. أما في الحالة الثانية، فإن المكان ليس سوى العلاقة التي تقيمها الأشياء فيما بينها. وموضع جسم لا يحدد بالمسافة نسبة إلى مكان مجرد بل بالنسبة لجسم آخر. على سبيل المثال: الطاولة تبعد مترين عن المدفأة!

لكي نفهم بشكل أفضل الفرق بين هذين المفهومين، الجوهري والعلائقي، ألف كارلو روفيلي Carlo Rovelli الحكاية التالية. نتخيل جزيرة تسكنها أنواع مختلفة من الحيوانات. وفي هذا العالم، ثمة نوعان من الأشياء: الجزيرة والحيوانات. يصل أحد علماء البيولوجيا إلى هذه الجزيرة ويكتشف أن الجزيرة ليست امتدادًا واسعًا من الحجارة المحاطة بالبحر، بل على العكس هي عبارة عن حوت ضخم. وتعيش الحيوانات في الحقيقة على ظهر هذا الحوت. وهكذا لا يعود لدينا نمطان مختلفان بشكل جذري من الأشياء بل مجموعة واحدة من الأشياء. فالكون مكون من نمط واحد من الكينونات: الحيوانات، التي تحيا بشكل من الأشكال بعضها على بعض!

تنطبق ثنائية مماثلة على الزمن. فإذا كانت طبيعة الزمن جوهرية، فهو بوجد بالتالي بذاته بشكل مستقل عن الأحداث. أما إذا كان الزمن من طبيعة علائقية، فهذا يعني أننا نقيس دائمًا تطور ظاهرة ما أو مدتها بالاستناد إلى تطور أو مدة ظاهرة أخرى. على سبيل المثال، أقيس مدة كسوف شمسي باستخدام ساعة شمسية. بعبارة أخرى، أقيس ظاهرة ديناميكية (هي الكسوف) تبعًا لظاهرة أخرى (هي جريان الرمل في الساعة).

بالنسبة لنيوتن، المكان والزمان جوهريان. أو بعبارة أخرى مطلقان. فالمكان المطلق يحدد مسبقًا موضع الكينونات الفيزيائية فيه. أما الزمان المطلق فهو لا يتغير بتغير الأحداث ووقوعها. بل هو على العكس يشكل بالأحرى الإطار الموضوعي لصيرورة ومستقبل الكينونات الفيزيائية. إنه زمن عالمي، مطابق لنفسه في كافة نقاط المكان. فالمكان والزمان النيوتونيان مستقلان عن الظاهرات الفيزيائية، ويشكلان لها المسرح أو الإطار، بل وهما مستقلان عن بعضهما بعضًا، وهي نقطة هامة جدًا. فعندما أنتقل في المكان، فإنني لا أنتقل بسرعة أقل أو أكبر في الزمن. وقد ارتكز الميكانيك الكمومي الذي تأسس لدراسة وتفسير الظاهرات الذرية وما تحت الذرية على المفهوم النيوتوني للزمن.

لكن أينشتين بين في عام 1905 أن ثمة مفاهيم تتناقض مع مفهوم الزمن المطلق، مثل التزامن! فالقول إن انفجارًا وقع على الأرض بالتزامن مع انفجار وقع في مجرة الأندروميدا هو قول لا معنى له، وأن مفهوم التزامن نسبي، حيث تكون الأحداث متزامنة بالنسبة لمراقب وليست متزامنة بالضرورة بالنسبة لمراقب آخر. وبالتالي علينا التخلي وفق أينشتين عن مفهومي المكان والزمان المطلقين.

بعد نحو ثلاث سنوات بين الرياضي الألماني هرمان مينكوفسكي Hermann Minkoswki أن نظرية أينشتين تقود بالتأكيد إلى التخلي عن مكان وزمان نيوتن المطلقين. لكن ذلك كان لصالح "مطلق" جديد هو الزمكان. ففي النسبة الخاصة وفي نظرية الحقول الكمومية، يصبح الزمكان هو المسرح الجديد. وهو يختلف عن الحلبة النيوتونية لكنه يظل عبارة عن مسطح غير ديناميكي لا يتفاعل مع الأجسام الفيزيائية الموجودة فيه. وهكذا يظل الزمكان في النسبية الخاصة عبارة عن حاوية أو حيز عطالي.

جاء التغير الكبير مع النسبية العامة. ففي عام 1916 بين أينشتين أن الزمكان يتعلق بالمحتوى المادي للكون. وقد استفاد من عامل جديد في الفيزياء هو الحقل، الذي يسمح بتفسير مرضٍ جدًا لأصل القوة الثقالية التي تؤثر بين جسمين. فبدلاً من القبول بأن هذه القوة تظهر آنيًا في اللحظة التي يوضع فيها الجسمان أمام بعضهما، رأى أينشتين أنه من الأصح القول إنها توجد قبل ذلك عندما لا يكون ثمة سوى جسم واحد. وهكذا فإن الحقل الثقالي الذي تخلقه الشمس حول نفسها يظهر كقوة جاذبة من خلال وجود الأرض حول الشمس.

بالنسبة لأينشتين، فإن الحقل الثقالي الذي يخلقه جسم مادي يحني الزمكان. فالجاذبية تعتبر بالتالي مثل تجل لهذا الانحناء. فالأجسام لا تتجاذب تحت تأثير جاذبية ثقالية، بل هي تقوم فقط باتباع انحناءات الزمكان المنحني. إن المادة تحني الزمكان، والزمكان يفرض على المادة تنقلاتها. وهكذا، فإن الفصل بين الحاوية والمحتوى يختفي، لكن القصة لم تتوقف عند هذا الحد.

في عام 1965، تأخرت طائرة الفيزيائي جون ويلر John Wheeler في مطار رالي درهام Raleigh Durham في كارولاينا الشمالية، فاستغل الظرف ليتصل بصديقه وزميله برايس ده ويت Bryce DeWitt واقترح عليه اللقاء به لتبادل ومناقشة أعمالهما. وقدم ده ويت لصديقه معادلة مثيرة للتأمل. وسرعان ما أسرت هذه المعادلة ويلر، الذي أكد أنها تمثل أول معادلة للثقالة الكمومية، وهي نظرية كان متوقعًا لها أن توحد النسبية العامة والفيزياء الكمومية.

كان الفيزيائيون حتى ذلك الحين يدرسون معادلات تأخذ بعين الاعتبار تطور بعض المعاملات وفقًا للزمن. على سبيل المثال، يمكن دراسة سرعة سيارة متحركة تبعًا للزمن t المعرف بواسطة ساعة المعصم. غير أن معادلة ويلر-ده ويت تتميز بما هو غير اعتيادي ومعاكس للحس الحدسي! فهي معادلة تصف تطور الحركة دون أن تأخذ بعين الاعتبار التطور في الزمن!

قادت هذه المعادلة الغريبة بعض الفيزيائيين إلى التأكيد أن الجاذبية الكمومية تصف كونًا برمنيديًا (نسبة لبرمنيدس Parménide). تعيدنا هذه التسمية إلى المدرسة الإيلية التي كان من أشهر ممثليها منذ نحو 2500 سنة برمنيدس وزينون الإيلي Zénon d'Élée. وقد أخذ رواد هذه المدرسة عن برمنيدس الفكرة التي يكون كل من الزمن والحركة وفقها وهمًا. وكان زينون قد تخيل أربعة تناقضات لدعم هذا الطرح. بحسب الأول نتخيل متحركًا عليه الانطلاق من نقطة أ إلى نقطة ب. وقبل أن يصل إلى النقطة ب، عليه أن يبلغ منتصف المسافة بين أ و ب. ولكن قبل ذلك أيضًا عليه الوصول إلى منتصف هذا المنتصف وهكذا دواليك إلى ما لانهاية. ويستنتج زينون من ذلك أن الحركة مثل الزمن متعارضان.

إن أحد أشهر ممثلي الفلسفة البرمنيدية في مجال الثقالة الكمومية هو جوليان بربور Julian Barbour، الذي يؤكد أنه على مستوى درجة معينة فإن الزمن والتغير لا يوجدان. فعند هذه الدرجة من رتبة 10 -33، أي درجة بلانك، تظهر الآثار المشتركة للنسبية العامة والنظرية الكمومية. ووفق جوليان بربور فإن أفضل استراتيجية للموافقة بين النظريتين النسبية العامة والميكانيك الكمومي هي فهم أن معادلة ويلر-ده ويت تصف كونًا سكونيًا.

يعارض عدد كبير من الفيزيائيين النظريين مثل وجهات النظر هذه. ويرى هؤلاء أنه لا معنى للتغير أو التطور أو حتى الاختلاف دون الزمن. ففي عام 1988 قال ده ويت لأحد هؤلاء الفيزيائيين: "تريد زمنًا، يعني أنك تريد أن ترى الأشياء وهي تنمو ووتتطور". فرد عليه هذا الأخير داحضًا: "لا أريد أن أرى الأشياء تنمو. بل أرى الأشياء تنمو وتتطور وأريد أن أفسر لماذا". وقد وصف هذا الموقف بالهيراقليطي، نسبة إلى الفيلسوف اليوناني هيراقليط.

وأيًا كان الأمر، أكان الزمن هو التغير نفسه، وفي هذه الحالة فإن معادلة التطور التي تقول إن الزمن غير موجود تظل معادلة إشكالية، أو إذا كان الزمن شيئًا مختلفًا عن التغير، وبالتالي فإنه ليس من غير المتجانس وجود التغير دون زمن، ففي الحالتين لا يقتضي غياب الزمن استحالة فهم التغير.

افترض بعض الفيزيائيين أنه في حال اختفى العامل ز (t الزمن) من معادلات الثقالة الكمومية، فربما يجب البحث عن سبب ذلك في النسبية العامة. ووفق بعض النظريين، علينا بدلاً من النظر إلى الجاذبية كأثر لانحناء الزمكان، فإنه من المناسب أكثر النظر إلى الزمكان كأثر للحقل الثقالي. وعندها لا يكون الزمكان أكثر من حقل بين حقول أخرى. فالعالم ليس مكونًا من جسيمات أو من حقول في الزمكان، بل فقط من حقول ومن جسيمات. وتؤكد النسبية العامة التصور العلائقي للمكان والزمان: فموضع وحركة جسم فيزيائي لا يقدران تبعًا لـ "خلفية" هي عبارة عن مكان وزمان مطلقين في الفيزياء الكلاسيكية، ولا لزمكان في النسبية الخاصة، بل يتحددان تبعًا لموضع وحركة أجسام أخرى.

في هذا الخط الفكري يأتي عمل الفيزيائي كارلو روفيللي Carlo Rovelli الذي يحاول أن يبين أن التغير أو الحركة لا يوصفان بمصطلحات التحرك في الزمن أو وفقًا للمتغير (ز) المستقل، بل بمصطلحات التحرك النسبي لمتغيرات ديناميكية.

على سبيل المثال، فإن هذه الشكلانية العلائقية تكافئ، فيما يتعلق بالميكانيك الكلاسيكي، الشكلانية النيوتنية للحركة. لنستعيد مثال الكسوف والساعة الرملية. فعندما أقيس مدة الكسوف (أ) فذلك اعتمادًا على جريان الساعة الرملية (ب) التي تقاس هي نفسها اعتمادًا على ساعة يدي (ج)، التي أحددها باستمرار اعتمادًا على الساعة الناطقة (د). وهكذا فإنني أحصل على سلسلة من القياسات العلائقية، أ (ب)، ب (ج)، ج (د)، وهي كلها مكافئة لقياسات حركة في الزمن: ولهذا تصبح كل من هذه القياسات تابعة للزمن: أ (ز)، ب (ز)، ج (ز)، د (ز)، حيث ز هو الزمن المجرد النيوتوني. فالميكانيك النيوتوني هو بالتالي الحد الكلاسيكي لهذه النظرية الأعم التي يكتسب فيها المتغير الديناميكي سمة المعامل المستقل (ز).

يقول كارلو روفيللي إن هذا التكافؤ بين القياسات العلائقية للحركة وبين القياسات الحركية تبعًا للزمن يختفي على مستوى درجة بلانك. وهذا يعني أنه لا توجد ساعات تستطيع قياس الزمن على هذا المستوى. يقول روفيللي:

على المستوى الجوهري الصغير جدًا لسنا بحاجة إلى هذا المعامل (الزمن) لوصف العالم المحيط بنا.

فإطار النظرية التي يقترحها يسمح بعدم استخدامه: إنها نظرية الجاذبية الكمومية ذات العقد. وتحاول هذه النظرية التوفيق بين النسبية العامة التي تفسر قوانين الفيزياء على المستوى الكوني الكبير، والميكانيك الكمومي الذي يفسر سلوك الجسيمات الفائقة الصغر. وليست هذه النظرية هي الأولى التي تتجاوز استخدام الزمن في معادلاتها كما يقول روفيللي. فالفكرة قديمة بذاتها. وفي الواقع يمكن تفسير الشكلانية الرياضية للميكانيك الكلاسيكي النيوتوني دون اللجوء أبدًا إلى الزمن كمتحول خاص. فهذا المتحول يوجد في المعادلات مثله مثل أي متحول آخر، مثل قيمة الحقل الكهربائي، أو موضع القمر على سبيل المثال. إن العلاقات بين كافة هذه المتحولات هو ما تقدمه لنا النظرية الكلاسيكية. ويمكننا بالتالي صياغة كافة التوصيفات دون إسناد سمة خاصة للزمن. وكانت هذه الأفكار قد طرحت قبل النسبية العامة بوقت طويل.

وإذا عدنا للنظرية النسبية العامة مرة أخرى، نجد أنها غيرت المشهد تمامًا. فما كان مجرد إمكانية مع الميكانيك الكلاسيكي أصبح ضرورة. ففي النسبية العامة ليس ثمة "زمن" فيزيائي "واحد"، لأن كل جسم يمتلك زمنه الخاص. أي أن كل جسم يرسم مسارًا في الزمكان. وهندسة هذا الفضاء هي التي تحدد زمنه الخاص. وهذا الزمن لا يجري بالتالي بالطريقة نفسها إذا كان الجسم موجودًا داخل المجرة أو خارجها. إنه زمن مختلف تمامًا عن زمن نيوتن. يمكن تشبيه هذا الزمن الأخير بساعة عملاقة خارج الكون كله، تشير عقاربها إلى الزمن المطلق نفسه بالنسبة للعالم كله. بينما لا يقع الزمن في النسبية العامة خارج النظرية نفسها طالما أنه يتعلق بالهندسة، وبالنتيجة بالحقل الثقالي الذي نوجد فيه. فهذا الزمن مختلف تمامًا عن الزمن في الفيزياء النيوتونية التي نطبقها في حياتنا اليومية.

أما في إطار الميكانيك الكمومي، فتتعقد الأمور أكثر. فالميكانيك الكمومي يصبح مهمًا بالنسبة للزمكان تحت طول بلانك (10-33 سم)، حيث لا يعود ثمة مسارات. ولا تعود الجسيمات الأولية تتبع مسارات بل توضعات متراكبة فوق بعضها لمواضع مختلفة. بل لا يعود بالإمكان استخدام الأزمنة الخاصة في هذه الحالات. فليس ثمة أي متغير يمثل ساعة صحيحة تحت طول بلانك. ولتفسير كافة السويات فإن العالم الحقيقي يجب أن يكون، مهما بدا ذلك معاكسًا للحس السليم، عبارة عن توضعات متراكبة لحالات كمومية. فلن يكون ثمة زمن تمر فيه الأشياء، بل توضعات متراكبة لأزمنة خاصة مختلفة. وفي هذه المرة أيضًا تكون كتابة المعادلات الأساسية للفيزياء دون اللجوء إلى متغير الزمن ليست مجرد إمكانية بسيطة بل ضرورة.

هل يمكن بالتالي تجاوز الزمن اليوم؟ لقد تم تحقيق خطوات في هذا الاتجاه. فقد تم البرهان أن صياغة النسبية العامة وفق هذه اللغة بلا زمن أمر ممكن. واليوم، يحاول العلماء تطبيق ذلك على الجاذبية الكمومية. فالشكلانية موجودة. والجاذبية الكمومية ذات العقد مثال على ذلك. فهي تتنبأ بعلاقات بين متغيرات فيزيائية تسمح بوصف تطور العالم، دون اللجوء إلى الزمن. لكن العلماء لا يزالون يفتقدون إلى نظريات كاملة جديرة بالتصديق في هذا المجال.

ولكن مثل هذه النظرية التي ستكون بلا زمن، كيف ستعبر عن التغيرات؟ وكيف ستصف مثلاً حركة الكواكب؟ نعلم أنه لوصف حركة الكواكب في المجموعة الشمسية نستخدم ساعة ما. وفي كل لحظة تحددها الساعة تعطينا النظرية موضع كل من الكواكب الشمسية. أما الآن، فسنتخلى عن الساعة، وتعطينا النظرية دون زمن أين يقع كوكب الزهرة بالنسبة لكل موضع للشمس، وأين يقع عطارد وأين يقع المشتري، إلخ. وفي الخلاصة فإننا سوف نصف الحركة نفسها. فعلى المستوى الجوهري لا يوجد هذا المتحول الزمني ذي الخاصية المميزة. ولهذا يقول سانت أورس إن الزمن كما نتصوره كمتحول خاص هو أشبه بفخ أو "مزحة" اخترعها نيوتن. وليفسر لنا ذلك يقص علينا سانت أورس حكاية غاليليه وكيف اكتشف أن النواس كان عبارة عن ساعة جيدة، إذ كان يراقب في كنيسة في بيزا ثريا كبيرة معلقة في السقف وكانت تنوس ببطء، وقد عد عدد ضربات قلبه بين كل نوسان وآخر. وبما أن عدد الضربات كان هو نفسه في كل نوسان فقد استنتج أن النواس كان طريقة جيدة لقياس الزمن. ومذاك، فإن معظم الساعات تستخدم النواس: ففي الساعة الآلية نجد دائمًا نواسًا ينوس، أما في الساعة الذرية فنجد ذرة تنوس. واليوم، نقيس النبض نفسه بفضل ساعة. لكن ما الذي كان يقيسه غاليليه في الحقيقية؟ كان يقيس مدة النوسان بالنسبة إلى نبضاته. وأخيرًا، فإننا لا نقيس الزمن أبدًا بل متغيرًا بالنسبة لمتغير آخر! كانت فكرة نيوتن هي تصور متغير للزمن، لا نقيس به إنما نستطيع وصف كافة المعادلات بالنسبة له. مثل حركة النواس وغيرها. واليوم فإن الفيزياء كلها تستخدم هذه "الحيلة" النيوتونية. ولكن عندما نحاول ربط النسبية العامة مع الميكانيك الكمومي، فإن هذه الحيلة لا تعود صالحة، ولا يعود بإمكاننا الزعم بأن متحولاً يسود ويتحكم برقصة كافة المتحولات الأخرى.

قد نتساءل هنا، إذا كنا نستطيع فهم كل شيء دون الزمن، لكن كيف نفسر خبرتنا اليومية مع الوقت والزمن؟ يجيب سانت أورس أننا نستطيع مقارنة هذه المسألة بمسألة الألوان. ففي عصر النهضة أدرك العلماء والفلاسفة والرسامون على حد سواء أن اللون لم يكن إحدى الخصائص الأساسية للمادة. ولكن، حتى إذا لم يكن للذرات لون، فقد كان لا بد من تفسير لماذا تدركها عيوننا. بعبارة أخرى، كان لا بد من العثور في المادة التي لا لون لها على ما يعطيها اللون. وفي حالة الزمن، علينا كذلك أن نفهم ضمن أية شروط يظهر الزمن، وما الذي يعطينا تجربة وخبرة الزمن هذه. ولكن، لنقل ذلك مرة أخرى، فالزمن ليس خاصية جوهرية بذاته!

لكن السؤال الأهم بالنسبة للعلماء الذين يقولون بعدم وجود الزمن كان حول كيفية جعل الزمن ينبثق في نظرية لا زمن فيها. إنه سؤال مفتوح كما يعترف هؤلاء العلماء أنفسهم. وقد اقترح سانت أورس مع الرياضي الفرنسي آلان كون Alain Connes فكرة زمن حراري. فقد حاول كل من جهته فهم الزمن بالاهتمام بالأحرى بطبيعته الترموديناميكية بدلاً من سمته الميكانيكية. وكما نعرف تغلب الدراسة الإحصائية على الترموديناميك. وتوافق الحرارة هنا الحركة الحرارية للأجسام، بحيث لا نعرف الحركة الفردية للذرات بل نعطي وصفًا وسطيًا لمجمل حركة مجموعة منها. وعندما نقول "إن كوب الشاي ساخن"، فنحن نتحدث فقط عن الحرارة وليس عن حركة كل جزيء. وبمطابقة هذه المقاربة، وضع هذان العالمان معادلة ذات صيغة دقيقة تعطي حالة سكونية يمكن من خلالها اشتقاق متحول زمني. يقولان:

إن الزمن بالنسبة لنا هو في الواقع نتيجة لجهلنا بالتفاصيل. فلو كنا نعرف بالتحديد كل متحول، والموضع الدقيق المجهري لكل ذرة أو جزيء مثلاً، فلن نكون بحاجة إلى الإحصاء وبالتالي إلى الزمن.

وإذا عدنا للمقارنة مع مثال الجزيئات في كوب الشاي، فإننا نعلم أن كل منظومة حرارية توصف ضمن حالة إحصائية، توزع احتمالي على كافة التشكيلات الدقيقة فيها. إن هذه الحالة تسمح بحساب متحول زمني. إنه المتحول الذي بالنسبة له تكون المنظومة في حالة توازن. والفكرة هنا هي أننا عبارة عن منظومات حرارية. وبما أن الأمر على هذا النحو، فلدينا بشكل طبيعي فكرة عن الزمن المرتبط بنا. وفي كل مرة يكون ثمة منظومة متوازنة يكون ثمة زمن. فثمة اتجاه مفضل نكون بالنسبة له في حالة توازن.

إن التوازن هو الذي يحدد الزمن. فنحن نعيش في عالم "قريب" من حالة توازن. ويمكننا بالتالي فهمه كحالة انتقالية من حالة توازن إلى حالة أخرى. يمكننا بالتالي أن نصف زمنًا يملك كافة الخصائص الترموديناميكية: فأنتروبيته تزداد، وهو يعطي اتجاهًا مفضلاً مع خصائص الزمن التي نعرفها. وهكذا نفهم لماذا يوجد في عالمنا هذا المتحول الخاص جدًا أي الزمن. وليست الساعة في هذه الحالة سوى أداة أو شيء آلي متزامن تمامًا مع هذا المتحول الزمني.

إن ردود الفعل على أفكار العلماء الذين يقولون بعدم وجود الزمن بذاته، بل وأنه يمكن الاستغناء عنه في المعادلات التي تصف العالم، من أمثال روفيللي وسانت أورس وكون وغيرهم، تعكس تنوع الأفكار التي تواجه مسألة الزمن. ولكن ثمة بين النظريين كثيرون ممن يعترفون بأنه يجب تغيير طريقتنا لرؤية الزمن بشكل جوهري وعميق. وهذا هو حال الفيزيائي الأمريكي إدوارد ويتن Edward Witten، وهو يعتبر من أهم العاملين في نظرية الأوتار. وخلال مؤتمر عقد مؤخرًا في جنيف نادى "الوتري" أيضًا والحائز على جائزة نوبل دافيد غروس David Gross بضرورة مراجعة مفهومنا حول الزمن. ويوافق بعض العلماء على أن الزمن غير موجود على المستوى الجوهري. في حين يرفض آخرون أو يشككون بهذه الفكرة، على غرار الفيزيائي لي سمولين Lee Smolin، الذي كان أحد المشاركين في إعداد نظرية الجاذبية الكوانتية ذات العقد. أضف إلى ذلك، بما أنه لا يوجد حتى الآن نظرية كاملة للجاذبية، فإن الآراء تتباعد وتفترق حول الطريقة الدقيقة التي يجب أن نقوم من خلالها بتعديل نظرتنا إلى الزمن. وبالنسبة للزمن الحراري، فإنها تعتبر فكرة خاصة جدًا لا يتقاسمها سوى القليلون. ونادرون هم الذين يعملون عليها اليوم. في حين ينظر الباقون إليها كفكرة غريبة.

فهل يجب أن ندهش لرؤية معادلات للحركة لا تأخذ بعين الاعتبار الحركة في الزمن؟ لا، إنما بشرط عدم الخلط كما يقول ألكسيس ده سانت أورس Alexis de Saint-Ours بين الزمن والصيرورة. فمن الشائع التأكيد أن الأمور تصير خلال الزمن. فهل الزمن هو حاوية عطالية للتغير؟ يجيب سانت أورس كذلك بلا، وفقًا للنسبية العامة، فالزمن ليس الصيرورة ولا حاوية الصيرورة.

ماذا إذن عن طبيعة الزمن نفسه؟ بالنسبة لسيمون ساوندرز Simon Saunders، وهو فيلسوف وفيزيائي من جامعة أوكسفورد، فإن الزمن لا يمكن أن يوجد على المستوى الأعمق والأكثر جوهرية للواقع الفيزيائي. وفي هذه الحالة، ما هو الزمن بذاته؟ ولماذا هو موجود وحاضر دائمًا في تجربتنا اليومية؟ بالنسبة لجون ويلر John Wheeler، من برنستون، فإن

الزمن هو الطريقة التي تتجنب فيها الطبيعة أن تحدث الأشياء كلها في الوقت نفسه!

ويعلق ساوندرز بقوله:

إن معنى الزمن أصبح سؤالاً مرعبًا بإشكاليته في الفيزياء المعاصرة.

وفي الواقع فإن ويلر وساوندرز لا يملكان مثل جميع الباحثين أداة نظرية تسمح لهما بالبرهان رياضيًا ما هي طبيعة الزمن. وإذا كان معظم الباحثين يعترفون اليوم بأن النظرية الكمومية أصبحت قديمة، حيث يظهر فيها العديد من التعارضات التي تبين أنها غير كاملة، فإن معظمهم لا يوافق على التصورات الأكثر تجريدًا مثل التفسير الاحتمالي، ونظرية الأكوان المتعددة، وفكرة وهم الزمن، أو أيضًا فكرة أن الكون له أكثر من أربعة أبعاد.

لم ينجح أحد حتى اليوم في دمج النظرية الكمومية والنسبية العامة في معادلة ويلر-ده ويت. مع ذلك، فإن بعض الفيزيائيين ومنهم روفيللي، يعتقدون أنه بتوحيد النظريتين سيتوصلون إلى وصف الكون الذي لا يلعب فيه الزمن في النهاية أي دور. وتسمى هذه المسألة اليوم في الفيزياء بـ "مسألة الزمن". ويعتقد العلماء أنها ربما تكون اللغز الأكبر في الفيزياء. يقول روفيللي:

فيما يتعلق بمعادلة ويلر-ده ويت، علينا التوقف عن لعب هذه اللعبة. وبدلاً من إدخال هذا المتحول التخيلي، أي الزمن، الذي لا يمكن رصده بذاته، علينا ببساطة وصف العلاقات بين المتحولات. والسؤال هو: هل الزمن خاصية جوهرية للحقيقة الفيزيائية أو مجرد ظهور جهاري للاشياء؟ وأقول إنه مجرد أثر جهاري. إنه شيء ينبثق فقط بالنسبة للاشياء الكبيرة.

أي كل ما يوجد فوق مستوى بلانك. ولنقل ذلك ببساطة، إن المسألة هي أن الزمن يمكن ألا يوجد على المستوى الأكثر جوهرية للواقع الفيزيائي.

حتى الساعة، لا توجد إذن نظرية فيزيائية قادرة على وصف كامل لما يشبه الكون تحت مستوى بلانك. وإمكانية تحقيق ذلك تكمن في توصل الفيزيائيين إلى توحيد نظريتين الميكانيك الكمومي والفيزياء النسبية. وفي هذه الحالة، فإن المكان والزمان سيوصفان بواسطة نسخة معدلة من الفيزياء الكمومية. وفي مثل هذه النظرية فإن الزمان والمكان لا يعودان مطلقين ولا يعودان سلسين ومستمرين. بل هما يتحولان إلى كميات محددة، أي كمات (كوانتات) على غرار الضوء الذي يتكون من كمات من الطاقة، اي الفوتونات. وهذه الكمات تشكل لبنات الزمان والمكان.

وعلينا أن نفهم تمامًا معنى هذا الاكتشاف. فعلى الرغم من أن حجم هذه الكمات الزمكانية يكاد يكون بلا قيمة ولا يغير في شيء من واقعنا، فإن هذا التقدم غير المستمر من وجهة نظر رياضية لـ "قياسية" الكون على المستوى الصغير جدًا يشكل ثورة فكرية بكل معنى الكلمة. فهو يعني بشكل خاص أنه توجد عتبة قابلة للتكميم لا يوجد تحتها كمات للزمان والمكان، كما يوجد سوية للطاقة محددة تكون التفاعلات الأساسية الأربعة تحتها متحدة. إن نظرية موحدة في طور التشكل اليوم، نظرية تناظر فائق باتت قريبة من الظهور، لكن العلماء يجهلون أية مفاجأة سوف تنتظرهم في نهاية نفق إنجازها.

فكيف سيمكن وصف وتقديم مثل هذه الكينونات؟ ليس من السهل تصور مكان وزمان مؤلفين من أشياء أخرى غير ما اعتدنا عليه. أضف إلى ذلك، أين توجد مركبات هذا المكان وهذا الزمان الكمومية، إذا لم يكن في المكان وفي الزمان؟ ألا يجب دراسة المسألة إذن من منظور آخر؟

في الفيزياء الكمومية، ومنذ أعمال شرودنغر Schrödinger في عام 1926، يتم وصف كافة جسيمات المادة والطاقة (الفرميونات والبوزونات) بواسطة الموجات. وذلك لا يتعارض مع مفهوم الكمات التي تمثل كمية محددة من الطاقة، لأنه كما الكم، فإن مختلف قيم طاقة موجة غير متبدلة لا يمكن أن تتحرك أو تتبدل إلا بواسطة كمات محددة، على غرار وتر عود مثلاً نضغط عليه فينتشر صوته من خلال نغمة كاملة أو نصف نغمة مثلاً.

وللموجات خصائص مميزة. على سبيل المثال، فإن عددًا لامنتهيًا من الموجات يمكن أن يوجد في موضع واحد لأنها يمكن أن تتراكب فتجمع أو تطرح. وهكذا فإن الضوء قادر على خلق صور من التداخلات (تجربة يونغ). فإذا ما برهنا يومًا أن المكان والزمان متوافقان مع فكرة التكميم، عندها يمكن مراكمة كافة الكمات في نقطة واحدة بلا أبعاد. يقول روفيللي:

إن المكان والزمان يندغمان بطريقة ما في هذه الصورة. إذ لم يعد ثمة مكان على الإطلاق. إنما مجرد أنواع من الكمات المتراكمة أو المتراكبة فوق بعضها دون أن تنتشر في مكان أو فضاء ما.

ويعمل روفيللي حاليًا بالتعاون مع آلان كون كما سبق وأشرنا على تطوير إطار عمل يسمح لهما بالبرهان كيف أن الشيء الذي نسميه الزمن يمكن أن ينبثق من ضبابة الواقع اللازمني الكمومي. يقول روفيللي واصفًا الوضع:

يمكن أن يكون الزمن مفهومًا منبثقًا على مستوى جهاري، بما يشبه قليلاً مفهوم "سطح الماء، الذي لا معنى له إلا على المستوى الجهاري، والذي يفقد معناه الدقيق عندما نتفحصه على المستوى الذري".

ويقول روفيللي ختامًا:

ظهرت مقالة أينشتين عام 1905 وغيرت فجأة كل ما كان الناس يعتقدونه حول الزمان والمكان. ونحن اليوم وسط شيء مشابه.

ويقارن تاونسند Paul Townsend وضعنا المعرفي الحالي بعشية المرحلة الكمومية لذرة بور، يقول:

لدينا بعض الصور الخصبة وبعض القواعد لكن من الواضح أنه ليس لدينا بعد نظرية كاملة.

*** *** ***

المراجع

-       راجع في موقع تيبو دامور عدة محاضرات له:

http://www.ihes.fr/jsp/site/Portal.jsp?document_id=2843&portlet_id=503

-       راجع ملف بعنوان الزمن غير موجود في مجلة "البحث" الفرنسية:

La Recherche, http://www.ihes.fr/jsp/site/Portal.jsp?document_id=2843&portlet_id=503. Le temps n'existe pas, no 442, 2010.


 

horizontal rule

[1] La recherche, 442 ; 2010.

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني