نذر فناء المعبد

 

طامي هراطة عباس

 

في السنة (صفر) كانت الآلهة فتية والكون متسع بشكل مفرط، ولم تكن النهارات تشبه بعضها، كان الزمن يسيل من إناء الكون الشاسع بقدر ما يريد محتفيًا بهذه الأزلية الناشئة: توأمه الفريد والغامض، كانا منبهرين بهذا النشوء المتزامن، متماهين مع لهو الآلهة الطويل وتنقلها بين المجرات النائية. وحين يدركهم الملل قبل التعب، يتقلص رحم النور الكوني الآتي من شموس المجرات المتباعدة بمسافات هائلة، لتحط العتمة على أكتاف الوجود الهائل فيتجلد كل شيء، عندها تدرك الآلهة أن هذا الكون اللامتناهي لم يعد سوى زرقة معتمة وصقيع ونيازك ضالة تتحاشى غضبهم شاقة طرقًا مجهولة نحو المجرات القصية، فيهرعون إلى ذلك المجمع الترف والفريد، حيث يتسلون بحساب النجوم الجديدة والهالكة، ويدفعون عن بعضهم سورات الاكتئاب والملل بعروض القوة والتذاكي، ثم يستسلمون واحدًا تلو الآخر لإغراء النوم، فيسبتون دون حساب عندها تزدحم الفراغات والثقوب السوداء بالسكينة المريبة وتتناسل بهدوء نجوم جديدة وتذوي أخرى مخلفة ضوءًا باهتًا لا يعني سوى حياة غاربة.

ساعي الآلهة القيم على أسرارهم لا ينام فهو الموكل بتدوين تفاصيل الجمل والكلمات التي تنفلت من أفواههم خلال سباتهم الطويل، وكانت الكلمات والتأوهات المنفلتة من بين شفاههم تفاقم إرباكه وتجعله يتساءل عن تلك المعاني الغامضة والمتكررة التي استهلكت آلاف المجلدات الضخمة وظلت تعبث بعقله لدهور.

في الأسفل حيث يفترش الماء معظم مساحة الكوكب المعتمد على شمس وحيدة، كان الجليد يزحف على الأراضي والغابات البكر فتشحب الخضرة المنفتحة على الوجود الجديد المفعم بالحياة البكر، وتنهار الكائنات التي لم تتسلح بفطرة المواجهة.

الكائن المنتصب الماشي على اثنين راح يتقهقر نحو الجنوب ملتقطًا آخر الثمار المثلوجة التي ضربها البرد، تاركًا خلفه ملايين الحيوات النافقة، كانت ريح الشمال تدفع رائحة الموت خلفه وهو يجوس متاهة عالمه الذي لم يحدد أبعاده بعد، ولم تكن الملاذات الدافئة المفتقدة غير حلم عصي راح يغريه كي يندفع بمغامرة الهبوط من الشمال المتجلد نحو الجنوب الغامض، رحلة الكائن ذي القدمين المفلطحتين المعصوبتين بفراء الحيوانات تزامنت وذلك السبات الطويل لآلهة المجمع السماوي، كانت الأزمان تتدحرج على سطح الكوكب الصغير والكائن الفارع يتناسل مثل فطر الأماكن الظليلة الرطبة دون توقف وينسج قراه وفخاخه في الأحراش والغابات ويلج البذور في رحم الأرض، وحين يرهقه الكدح اليومي ويتسلل الوهن إلى عضلاته، يحتويه المساء المربك فيزيح ظلال المخاوف القديمة التي نبتت في أقاصي وعيه وتمكن من ترويضها بإطلاق ضوء مشاعله.

فصارت المساحات المنارة بالضوء تشتت صور الأشباح والكائنات المنبثقة من مخيلته المزدحمة بالصور والمكتنزة بالريبة، وبات الضوء المتولد من ركام الحطب المشتعل تعويذة لطرد الرؤى والهواجس المتخفية في كثافة الغابات وظلمتها. وكان تعاقب النور والظلمة قد توج في داخله فكرة أن ذلك الظلام محض ستارة سوداء يمكن إزاحتها بقليل من الضوء، ومع ذلك فلم يكن ذلك كافيًا لإشاعة السكينة في دواخله التي لم تراكم ما يكفي من اليقين والذي مازالت جذوره تمد شعيراتها الرهيفة على سطوح وعيه، وكانت أيامه أحيانًا تلفظ العديد من المصاعب لتجعله ينام مرهقًا دون إضاءة، فالأيام المشرقة والدافئة تبدو له أكثر إثارة حين يتأمل جسده وسط مساقط النور المنهمر من الشمس المتوحدة في مدارها، كانت قامته المنتصبة وساقيه القويتين وتراكيب جسده المتناسقة تثير إعجابه فيجتاحه هوس آسر فيطلق العنان لفرحه فيدور حول نفسه منتشيًا فاردًا ذراعيه فتنبعث من حنجرته صرخات منتشية وجملاً مجنونة متناغمة فيرفس الأرض على إيقاعها المتغير والراقص، وحين يدركه التعب يسقط على الأرض مواجهًا السماء المفتوحة على سعتها ويهجس لنفسه: ما من كائن يشبهني.

ولدت شموس جديدة وشاع الدفء في الكون البارد المزرق واستيقظت الآلهة تباعًا ومضى الإله الساعي ينفض غبار الأزمان المتراكم على الأجساد التي سبتت لدهور، وتحسست الإناث بشرتهن الشاحبة التي أطفأها النوم الطويل، ثم انزلقت أيديهن متحسسة بطونهن الضامرة وحين اكتشفن خواءها همدت فيهن الشرارة التي تشعل الأمل فواسين بعضهن البعض بصمت وتوارين في الأركان المتباعدة للمجمع العالي.

تأمل الآلهة بعضهم بعد اليقظة. كانت فترة النوم الطويلة قد استنفذت نضارتهم فغارت عيونهم في محاجرها وفقدت تلك الحيوية التي تميز عيون الآلهة المتعالية، كانوا بحاجة إلى رؤية ملامحهم بعد أن غزاهم الوهن والتغضن، ورغم ترف المكان وبهائه اللافت لكنه كان يفتقد لوجود المرايا، ولهذا كانوا يرون أنفسهم بعيون بعضهم البعض، شاكين من مذاق المرارة والجفاف في أفواههم المطبقة منذ زمن طويل. كان ساعي المجمع ينصت إلى تذمرهم ويراجع تلك الرغبات المكررة التي دونها خلال سباتهم الطويل والتي تصدرتها مفردات السطوة والقوة والفحولة المفرطة والتي كان يرى في بعضها تعارضًا وذلك التناسق الجسدي الجميل والرقيق لإناث المجمع، كن بالنسبة إليه أكثر من أجساد بالغة النعومة والإثارة ينبغي أن تعامل بمنتهى الحساسية والحذر، وخلال ذلك السبات الغريب كان يتابع هيمنة البرد الكوني على أسرتهن الإلهية وتوقهن إلى الدفء والمعانقة حين تنطلق تأوهاتهن المحتبسة بين جدران المجمع والمعبرة عن خواء أرحامهن التي هجرها الخصب، وأرواحهن التي فتتها الملل من تلك الصلات الفارغة التي لم تنجب غير اللذة العابرة. كن يتطلعن بهوس إلى التناسل ويحلمن باختبار مشاعر الأمومة الحقيقية، فكانت ولادة النجوم الجديدة تتزامن مع طغيان رغبة الجسد وتوقه للحب والتناسل فيما تحتضر النجوم القديمة وتذوي عندما يطبق اليأس على أرواحهن اللائبة حين ترتبط رؤى انقطاع الذرية بالتلاشي النهائي المخيف في متاهات الكون الهائل.

لم يكن بوسع الإله الساعي غير الاستجابة لرغبات الآلهة حين توافقوا على اكتشاف مسرات كونية جديدة تذيب هيمنة الرتابة والملل وتزيح طعم العلقم من الأفواه التي تنطق بالقليل مما تختزنه العقول التي يتجاور فيها الطيش والحكمة وتمور بالألغاز والأسئلة المؤجلة.

على الكوكب الصغير الذي تشكل اليابسة جزءًا صغيرًا منه كان القحط يدفع الكائن المنتصب إلى التهام رموزه التي شيدها من ثمار الفواكه الجافة، كانت نصبًا ضخمة لكائنات هبطت للوجود من أعماق مخيلته المنتجة بسخاء لأحلام مخيفة لا تتوقف وبحيرة مقلقة تعتريه حين ينفلت زمام العواصف الثلجية أو تلتهم النيران غابات بأكملها، فيزحف الجوع والجدب وتتراكم في مخيلته رؤى وتساؤلات جديدة وجريئة فتتمرد روحه التي لم تألف الترويض ولم تتبين طرق التأمل والحكمة، فيلجأ إلى منحوتاته الرمزية ليتدفأ بخشبها حين يكرهه البرد على ذلك، فكانت أجساد ألهته الخشبية المدهونة بالزيت تبعث السكينة في المكان حين تتحول إلى جمرات حمراء مكتنزة بالدفء فينصت لهسيس النار في الموقد دون أن يسمع أية آهة أو شكوى من آلهته التي صارت جمرًا فيغفو عازمًا أن يستعيد نذوره وهدياه فتدهمه رعشة مؤقتة ويشعر بالندم لحين. كان شديد المرونة في التعامل مع أوهامه المصنعة من كل الأشياء التي تحيط بوجوده وصار بوسعه أن يتحكم في حجمها من نصب صغيرة إلى تمائم وقلائد معلقة في الأطراف والرقبة والحقل.

ظل الزمن الأرضي شديد الاتساع وغير قابل للحصر تزدحم الرغبات الجامحة في نهاراته المشرقة وتستحوذ الليالي الصافية المكتظة بالنجوم النشطة على العقول مخلفة تراكمًا من الدهشة ظل يعزز الحيرة ويحرر صورًا غير قابلة للتفسير والفهم، وحين يدركه العجز ويتلبسه الحزن كان ينحني لذلك الكون المترفع فوقه الذي ظل مصدر تأملاته وكان ذلك الانحناء المعبر عن خوفه واحترامه لذلك البهاء الغامض يشكل هاجسًا آخر كان يتساءل كيف بوسع ذلك الانحناء الذي يجعل رأسه قريبًا من الأرض أن يكون مصدرًا لكل تلك الراحة التي يشعر بها وذلك السلام الداخلي الذي يغمر أعماقه.

مضى الإله الساعي يجوب الحقول والقرى الصغيرة ويتأمل أفعال الكائن المنتصب، أدهشه أن الأشياء لا تسعى إليه مثلما يحصل مع الآلهة، وأن أحلامه ورغباته العلنية أو المطمورة في أعماق صدره ليست بمجملها قابلة للتحقيق، وتعاطف مع ذلك الكدح اليومي الذي لا ينقطع، كان شديد التأثر بتلك السعادة التي تغمره حين ينجح في إنجاز عمل شاق، وكانت طقوس الحب والتناسل وأوجاع المخاض ومراحل نمو نسل الكائن تدفعه أحيانًا إلى التفكير بمصائر آلهة المجمع المسترخين والمطمئنين إلى وجودهم الأزلي. وتنبه إلى أن لهوه القصير والغير مرئي معهم واحتفالاته وساعات صخبه كانت مصدرًا للفرح فمضى يستمع بشغف إلى أغانيهم وراحت البهجة تجتاحه هو الآخر فتعلم منهم كيف يبدد الملل ويزيح رتابة الأيام بالرقص والغناء فكان لنبيذهم مذاق وانتشاء لا ينسى. وصار بوسعه أن يفهم العديد من الأشياء ويفسر ذلك السعي المتواصل لتطويع المظاهر القاسية في الحياة اليومية. وبالرغم من انتمائه إلى طبقة الآلهة كان يعجز عن تفسير مغزى وجدوى ذلك الموت الذي يلف بصقيعه الجسد الإنساني الحار والجميل، كان فقط قادرًا على تلمس ذلك الجزع والألم العميقين الذين يسيطران على الأرواح المطعونة بالأنصال اللامرئية للوعة الغياب الأبدي. وحين حاول أن يتدخل مدفوعًا بذلك الإحساس العميق بالتعاطف اكتشف مقدار عجزه عن فعل أي شيء فولد ذلك في نفسه الحساسة شرخًا مؤلمًا وأيقن أنه غير قادر بعد على فهم كل ما يجري حوله رغم وجوده الطويل بينهم وتأكد أنه مجرد إله ساعٍ لامرئي يفتقد للإعجاز المبهر، وأن الحياة الأرضية مصممة على هذه الشاكلة التي تفتقد للعدالة.

ظلت تلك الحياة التلقائية رغم نزاعاتها الصغيرة وأزماتها المباغتة تمنحه فهمًا لتلك الذوات البسيطة المنطوية على رغبات محددة، وكان تراكم العمل اليومي وقسوته لا يفسح مجالاً كبيرًا للعبث واللهو. ولم يعد ثمة ما يكفي من الوقت لسبر أغوار تلك الأرواح الصغيرة، لكنه كان يعتقد أنها قادرة على استيلاد رغبات جديدة غير معلنة وهي تنتظر النضج قبل الإفصاح، وحين اختمرت فكرة العودة في ذهنه كان الانقباض يلف كيانه وهو يشق طريقه نحو الآلهة المنتظرة في المجمع السماوي.

قبل العجلة كانت هناك أقدام متعبة، وقبل الأرقام ذات النهايات السائبة كانت هناك عبارات مثل كثير وقليل، والأيام دائرة مغلقة متصلة ببعضها، قلادة من المواسم الطيبة والسيئة، لم يكن ثمة البارحة وليس هناك ما يشير إلى المستقبل، ولم يكن هناك من "تحترق روحه لمعرفة الزمن" وكانت الإجابات والحلول البسيطة تلد أسئلة صعبة وحين تتفكك وتنجلي عتمتها تكون الأسئلة القادمة أكثر تعقيدًا، وكان ذلك يدفع البعض للانزواء والعزلة في الأماكن النائية، عندها تفشى وباء الأوائل، أوائل العرافين والممسوسين وأوائل السحرة والمشعوذين، كانوا قلة متنوعة الأهداف احترفوا تسويق الدهشة وعندما تعفنت وفقدت مذاقها اكتشفوا أن المستقبل أكثر سحرًا من الماضي، فأصبح الغد وبعده سلعة يمكن مقايضتها ورغم بعض السوء الذي يعتري هذا النهج إلا أنه حرر الرغبات المطوية من ملاذاتها الغائرة وأزال عنها غبار التحفظ والقناعة وصار للأقوياء سحرة وللسحرة أقوياء وقوى سرية تمسك بالمصائر والأقدار، فالتصقت بالغد كنى جديدة فكان هناك غد جيد ورديء وطيب وقاسي، فصارت الأيام بشكل ما بقبضة الأوائل فراحت مخيلته تتلبس رؤاهم وتحفظ كلماتهم ويرتعش جسده ويخضه الخوف حين تتوعده لعناتهم وتطارده أشباحهم ويستبيح إتباعهم ثمار حقله وتضعف قواه من طول أيام السخرة المضنية. كانوا يروضون عقله وينهكون جسده دون مقابل، وفي أيام الراحة القصيرة كان يتوسل إلى أوهامه الجديدة أن تعتق روحه من هذا القهر والإذلال الذي لا ينقطع وحين تتهاوى أماله كان يفر لائذًا بالغابات البعيدة أو مختفيًا في الوديان العميقة تطارده أوجاع السخرة والكد المجاني. كانت الطبيعة أقل قسوة من هيمنة الأوائل إذ تمنحه الأيام الصيفية فرصة استعادة طاقته المستنزفة وتعينه أماسيها الصافية على رؤية الكون المزهر بحقول كثيفة من النجوم التي تمنحه متعة فريدة وتثير ذكرياته المختزنة عن تلك الراحة السخية التي لا تطلب شيئًا لنفسها غير الاحترام الوافر. وراح ينظر إلى تلك الصلة الجديدة التي تربطه بتلك السماوات بمزيج من الحب والإعجاب، وكان ذلك التكوين المدهش الذي يواجهه كل يوم: الاصطفاف العشوائي للنجوم، شلالات النور الهابط، القمر بتحولاته، الارتفاع الشاهق للسماوات الذي تجاوز قمم الجبال، السخاء الغريب للطبيعة الواهبة، كل ذلك منحه أفقًا جديدًا يتطلع إلى ما وراءه ويسعى إلى الوصول إليه، ورغم تنامي تلك الحاجة مضت حياته في ظل هذا التأمل الجديد تستأنس لهذا الكون المهيب وتتعلق به كل يوم، وكان ذلك يقيم حاجزًا بينه وبين أوهام الأوائل البارعين بالكلام، وأكتشف أن بوسعه وحده أن يصل لذلك السلام وأن يقارن وجوده بما حوله دون تدخل، فبدت له تلك الوسائط القديمة محض حواجز تحول بينه وبين توقه للتواصل والكشف، فراح يغفو دون كوابيس مريعة وخيل إليه أن ثمة من يرعاه ويحرس حياته شيء أكبر من مساحة عقله، شيء غير الحظ الطيب يصعب تفسيره.

كان العتق ينفث أنفاسه اللامرئية في فضاء مجمع الآلهة ولم تفلح البرودة المهيمنة على المكان بإخفائها، أجسادهم التي استسلمت لذلك الخدر اكتسبت لونًا شمعيًا مطعونًا بزرقة خفيفة، تذكر الإله الساعي كيف تنهار الكائنات البشرية حين يخترقها الموت ممتصًا تلك الحيوية النضرة مخلفًا ذلك الاصفرار المخيف، فامتدت يده تتحسس الحياة في أقرب جسد إليه، وصلته وعبر أصابعه الرهيفة نبضة حياة واهنة تكاد لا تحس، أفزعه هذا الانهيار ودار على الأجساد السابتة يتفحصها جزعًا، فكر أن بعض الدفء وشيء من النور قد يوقف هذا الانهيار، فحل الدفء سريعًا وأزاح النور الظلال والعتمة المتعلقة بالزوايا والأركان، وراح يستخدم كل مهاراته كي يوقظهم، كانت أجسادهم تستجيب ليديه وهي تضغط وتدلك المتيبس من المواضع التي هجرتها الحركة واستكانت للتليف والصلابة.

احتاج لبعض الوقت كي يوقظهم، كانت أجفانهم متهدلة وتفوح من أجسادهم رائحة النوم الطويل، من خلفه كان ثمة صوت أنثوي يكرر: حسنًا لقد ذهب البرد فلم تجتاحني هذه القشعريرة وينهكني الخواء؟

التقطت آذان الآلهة أخر الجملة، كانت مثل موجة برد مفاجئة اكتسحت أبدانهم ومضوا يختضون مع ذؤابات النور الطالع من المشاعل الضخمة، كانوا بحاجة إلى مزيد من الدفء فحل بينهم، وأصبحت الفرصة مواتية ليحدثهم.

-       ليس هناك ما هو أكثر ثراء من ذلك المكان، حتى إله ساع مثلي ليس بوسعه أن يصف كيف تشق كل تلك الحيوات طريقها في ذلك الوجود المضطرب، ثمة إرادة لا تتزحزح تكمن في أعماق تلك المخلوقات. إنها تبتكر ميلاً قويًا للتمسك بالنوع، وهي تقاوم لتصنع حياتها مع إدراكها المسبق لنهايتها الفاجعة. لكن ذلك ليس بلا جدوى، إنهم يعتصرون سعادة وشيء لا ندركه اسمه الفرح، نحن أسرى هذا المجمع، أشعر أحيانًا أننا محض وهم يطوف في هذا الكون الشاسع، وهم عندما لا يشعر بك مخلوق من غير نوعك وأن تكون بلا سمة وبلا بصمة وبلا وزن.

العيون المتطلعة بشيء من الريبة منحته شعورًا بعدم الرضا من ذلك الأداء الذي أظهره، ومع ذلك فقد كاد يغرق في طوفان الأسئلة واستشعر مرارة عميقة من تلك السخرية التي تنطوي عليها، الآلهات اللواتي عاف الخصب أرحامهن كن أقل ضجيجًا وسخرية من أولئك الآلهة المتغطرسين، وكان بوسعه وهو يتفحص كل تلك الوجوه العابسة أو الهازئة أن يتلمس ذلك الشوق المتراكم في عيونهن لمعرفة المزيد، كن بحاجة إلى الانعتاق من أسر هذا الحصار أكثر من أي إله أخر، وصار بإمكانه أن يتذكر تلك اللقاءات الفاترة بعد عودة الآلهة من تجوالهم الرتيب في المجرات المحيطة، لقد أيقن أن كلماته أذكت فيهن كل الرغبات التي لم يشبعها الآلهة وصارت أرواحهن تهفو لتلك الحرية المفتقدة وذلك الشيء الغامض الذي يحرك خيالهن ويدفعهن إلى معرفة المزيد عن تلك الحياة المثيرة.

توقفت الأسئلة وحل الصمت في المجمع، هبط إله غاضب من أريكته وخطا باتجاه الساعي:

-       لم تأتنا بما يسر، إن كل هذا لا يفتت الملل والرتابة التي تطبع حياتنا، طالما فكرت، كيف ونحن نمتلك هذه القدرات ولا نستطيع الإفلات من هذه الدائرة، ثمة ما يعطل قدرتنا على إسعاد بعضنا، وربما نحن هكذا مخلوقات جوابة مشبعة أيامها بالرتابة يفترسها الملل في كل حين، بوسعنا فعل العديد من الأشياء التي لا تستطيع مخلوقاتك أن تفعلها، وقد نعجز عن تفسير بعض الأشياء التافهة مثلما أعجز في هذه اللحظة عن تفسير هذه الحيوية والطاقة التي جعلتك أصغر سنًا من أي إله فتي في هذا المجمع!

حفزت هذه الملاحظة بقية الآلهة فأحاطوا بالساعي يتفحصونه عن قرب، كانت الأخاديد التي حفرتها الأزمان على محياه قد اختفت، وحلَّ بريق غامض في عينيه الواسعتين فبدا بشكله الحالي أكثر إثارة وقبولاً لدى الإناث، لكنه كان وفق الترتيب مجرد إله ساعٍ يمنع التواصل معه. دفعه الفضول هو الآخر كي يتلمس وجهه، مرت أصابعه على جبينه، لقد أمسى أكثر نعومة من ذي قبل، ولم تعد هناك عروق نافرة في يديه التي أتعبها التدوين الأزلي لأحلام الآلهة. ثمة تناسق لم يألفه في عضلات جسده، وروحه تسعد باستذكار تلك الأغاني التي سمعها هناك. وفكر ما الذي يحصل لو يغني! لكنه أزاح الفكرة بعيدًا كان عليه أن يفسر هذا التغيير الذي حل بجسده دون أن يدري. في أعماق ذاكرته الثرية كانت صور الحياة الأرضية تتوالى دون انقطاع. كانت رائحة القمح والشواء والخمر والنساء وخرير الجداول في الليالي المقمرة وأغاني الاحتفالات وصور الحب والموت والبرد والجفاف والحروب والحرائق تولد ضغطًا يكاد يفجره.

-       ربما لأنني كنت خاويًا فحلت في أفنية روحي بعضًا من تلك الحياة، ليست ثمة غرابة في الأمر، إن الأشياء التي نحبها أو نحلم بها يمكن أن تلتصق بنا أو تغور فينا، حتى الآلهة لديها أحلامها. هناك في ذلك المكان النائي يسقط الكائن نطفته في أنثاه في احتفال جسدي بهيج فتثمر تلك الرعشة الغامضة عن كائن آخر. تأملوا وجوه الإلهات وشموا فيهن رائحة الرغبات المجهضة. كل الكائنات هناك تحتضن بعضها بود لا نعرفه ويفنى بعضهم من أجل الآخرين. ربما مستني بعض طقوس حياتهم ومحبتهم دون أن أدري. ربما حل بي ذلك الحب الذي لم أجد قرينًا له في هذا المكان. ما الذي نملك غير هذه النجوم المطفأة وغير هذا النوم الطويل والطواف اللامجدي في هذه الأكوان التي لا تنتهي.

هبطت ألواح ثقيلة من الصمت أودعت في المكان سكينة غير مألوفة، لم يكن ثمة من ينطق، كان الإله الساعي في منتصف دائرة الآلهة المستاءين من هذه الخيبة، كانوا يأملون بتسلية أكثر إثارة، عوالم جديدة تتسع للهوهم، كائنات بقدر سرعتهم وقوتهم تمتلك القدرة على التحدي، أشياء تجعل للمنافسة طعمًا وتمنح للنصر مذاقًا. ثم توارت الأسئلة المريبة خلف السحنات المشككة التي ظلت تتفرس في هذا الإله العائد توًا من رحلة طويلة. كان بوسعه أن يقرأ أفكارهم لكنه فضل الاستسلام لغوصهم في طيات عقله وانهماكهم في تقليب ذاكرته ورغباته المركونة أملاً أن تستهويهم تلك الصور المختزنة في ذاكرته، أن تحل بهم عدوى الحياة الأرضية.

في لحظة واحدة، وبعد تفشي الخيبة واليأس في كائنات الأروقة الصامتة، كفت الآلهة عن أن تكون موجودة، فاخترقت كيان المجمع تاركة عصفًا خفيفًا عبث بأردية الإلهات الساهمات. كانت مخيلتهن في مكان آخر يتقصين تلك الصور التي أطلقها الإله الساعي، مخطوفات بذلك الوهج الذي أيقظ مشاعر من نوع جديد، وحده الساعي كان يشعر بدبيب اليقظة وتنامي الحلم في فصول حياتهن القادمة. كان عرضه يمتلك قوة يقين مفرطة تلمسن قوتها ورقتها عبر التواصل مع مخيلته المترعة، فصار كوكب الأرض النائي حلمًا للإلهات الأسيرات.

مرقت بضع نيازك ضالة قرب المكان، وانطفأت نجيمات بعيدة، وانسحب الساعي إلى مكانه مدققًا في مدوناته التي عافها الزمن، وامتصت الأسرة الباردة حرارة أجسادهن المضطربة، ومضى ضوء المشاعل يخفت متوافقًا مع خدر النوم المزمن في أروقة المجمع، فيما انشغل بعض الآلهة بولادة كوكب مجدب آخر واندفع الآخرون بحماس خلف ضوء سطع بشدة من مجرة قديمة، واستمرت الرتابة الأزلية تديم نفسها وفق الأنساق المقدرة لمصائر الآلهة.

وعلى سطح الكوكب المائل للخضرة كان الكائن المنتصب يتأمل ويخطط ويرقب بفضول وهو مسترخ بمقعده الوثير كيف ترفع قوة البخار أغطية الأواني المصفوفة على الموقد.

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني