العازف الشقي

 

منصف بندحمان

 

العازف الشقي

إلى العزيز الفنان محمد بوري رفيقا في الإبداع وفي الحياة.

يتمتع الرجل بالموسيقى والغناء. عازفو الكمان والعود يتألقون، عازف البيانو الوسيم، رجالات الإيقاع الذين يحركون نبض الجوقة المتناغمة.

كان الرجل العاشق للموسيقى سعيدًا هذا المساء، البهجة تهز قلبه. مقاطع الموسيقى تتخلل أنفاسه، تشده الأنامل وهي تعزف، يتأمل الأشخاص والوجوه، الأبيض والأصفر، البدين والنحيل، الهادئ والقلق، بالموسيقى يتآلفون.

يدخل عازف الكمان إلى بيته وبعض الدريهمات في جيبه لا تسمن ولا تغني من جوع، تتلقفه الزوجة والأولاد، ينكس رأسه هاربًا إلى غرفته. يشعل سيجارة، يصعد الدخان إلى السقف، تكتئب الحيطان، تذرف دموع الخيبة والضجر.

يدلف عازف العود إلى أول حانة، يطلب قنينتين يفرغهما في جوفه، عطشه لا يرتوي، وسجائره لا تكف عن الاحتراق. ترتسم ابتسامة شقية على وجهه الأزرق، محاولاً التخفيف عن وحدته، يخاطب من يجلسون قربه. الآخرون منعمون بسعادتهم يتجاهلون وجوده. يدخل إلى المرحاض منكفئًا، حاملاً وزره.

تطفئ الحانة مصابيحها، تخيب زينتها، تبدو خربة بلا أسنان، تسقط باكورتها وعورتها تتعرى، مهزومة تجوب الآفاق. الظلام يقودها إلى الأعماق.

عازف الإيقاع البدين، مريض حتى النخاع، لا يقوى على حمل جسده الحزين. الرجل الذي يضبط نبض الفرقة الموسيقية، اختل إيقاعه، تلاشت صحته، منهزمًا تخلى عنه نبضه، انفض الجميع من حوله، غريبًا يخاطب ظله.

عازف العود يضع حدًا للألم، يختار نهايته، الجميع يحضر جنازته. عائلته تتلقى التعازي من كل الجهات، الوطن يشكو من فقدان هرم. الحانة تصاب بالدوار، تتجشأ أحشاءها، تختنق.

يتسكع عازف الإيقاع في الحدائق والبارات، في الحافلات، يتسول المارة، في عينيه تتجمع الأحزان، تنتحب الأغنيات.

عازفو الفرقة الموسيقية ينحدرون بإيقاع منتظم، ينسحبون بهدوء رهيب. أوتار أعصابهم الرهيفة تتقطع.

يقبع عازف الكمان في زاوية بيته يحمل كمانه بين يديه، يشد عليه بقوة، ينظر أمامه مشدوهًا، فاغرًا فاه.

المعزوفات تسد الأزقة والدروب، تصرخ في وجه المارة، تقيم احتجاجًا ضد الجحود.

الناس تعبر الشوارع غير عابئة. تتلقفها آلات اليومي البغيضة، تعصر عمرها. تفرغ عقلها وقلبها، تعلمها الصمت والحيرة والعصيان.

يخرج العاشق إلى الشارع في موكب كبير، الموسيقى سعيدة، وجهها مشرق، وفي عينيها تتراقص الأحلام.

20-05-2010

***

طهارة

أفيق كل صباح باكرًا، آخذ نظافتي، خبزي، زيتي، زيتوني، هوائي ودوائي، أتفقد محتويات حقيبتي، ثم أقصد نادي المفضل. في ذهابي أشعر بانقباض وبأسر في دخيلتي لا ينفرج إلا حين أجدني أسبح وأنا أرتقي في الأعماق.

يشاطرني هوايتي بالنادي مجموعة من المواظبين، لا أعرف اسمًا لهم ولا نشاطًا ولا تاريخًا. فقط ألتقط أسلوبًا وأجس نبضًا، فتصلني الذبذبات ودقات القلوب المرتجفة. بالمناسبة كلهم متقاعدون أو يكادون، تجاوزوا الستين، أطل بعضهم على السبعين، يتمتع الآخر بالثمانينات. يحبون المال والهواء والحياة، ويفرطون في توزيع التحيات وإهداء الابتسامات: بين بسمة وضحكة، ونكتة وشطحة، يقف الموت حاجزًا يعكر صفو اللحظات.

السويدي، أو هكذا أسمعهم ينادونه باقتدار، رجل خفيف الظل، لطيف، صوت رخيم، رخو، تميل روحه، أو تنساب في روحه الأنثى، يختال بل يختار أن يبرز مفاتنه. في الستين، جسد نابض، روح دافئة، يسجل حضوره، يتلمس أعضاءه بأناة، يحمل كل عضو في كف، يتمتع ويصر أن يشاركه الآخرون متعته. لا يتحدث كثيرًا، يبتسم، يضحك ضحكة وديعة ينساب لها الماء. لا تجده متجهمًا أو شاردًا. متابع، نبيه، لا يجادل ولا يعارض إلا نادرًا. ينصت بإمعان. لا يتخلى أبدًا عن فرحه، يجاهد، يدافع عنه بكل ما يملك من أدوات.

النحيل شخص مختلف، عينان غائرتان، حقد دفين، بسمة حاقدة يخترق بفعلها الوجدان، جسد مهزوم وقد آل للسقوط البنيان، روح مفككة تقف مذهولة متنكرة ناكرة للجميل وللزمان. يسب المغاربة والعرب والعروبة، آباء وأجدادًا تاريخًا وأنسابًا. أمة جاهلة، متخلفة، ليس لها اسم ولا وجود ولا عنوان. أتصوره يملك كريمات في أقصى الأرض وفي أعالي البحار، لكنها لا تمكنه من الإقامة. تلفظه الحياة. أتخيله يعيش في ضيق، مريض وقد أصابته كل العاهات. يحمل - كصديقه - أعضاءه بين يديه لكنها لا تسعفه، دموعه تتحجر في الأعماق. يصرخ لاعنًا الناس والأرض والسماء. فيأتيه الصدى بلدًا وأرضًا وسماء، تلعنه في سره وجهره كل المخلوقات. السيدة الفاضلة في السبعين من عمرها بهية الاسم وتحلم بالهباء. بها كسور على مستوى الفخذ والورك، النفس والأنفاس. نبيلة بل تتظاهر، تلبس تبانًا تفتح كوته ليظهر ما تبقى من تفاح وقد عطن وانتشرت رائحته. تنزل إلى الماء، وحين يتعب قلبها المهجور تخرج سريعًا، هروبًا من موت محقق، يتربص بوجودها في كل ثنية من ثنايا جسدها الحزين.

هالة محطة استثنائية، امرأة سبعينية، تقول عن نفسها إنها شاخت. تقول والأفق يسطع من عينيها البهيتين. تصر على البقاء. تسبح يوميًا بنظام محكم دقيق. شجاعة، وتسري روحها في الماء وخارجه. عصبية، مهتاجة، ثرثارة، حيوية، شابة في مقتبل العمر، تحمل روحها وجسدها وترقص سعيدة والحياة تتجلى ساطعة. لها قدرة على إثارة الآخرين نساء ورجالاً. حين تغيب يتقلص وجود المسبح والرفاق، وينزوي الماء حزينًا.

كنت أصغرهم، في الخمسين أو أكثر، شاءت الصدف أن أتواجد بينهم، عاشق أزلي للحرية، الماء بابها الفسيح. مريض بضغط دم مرتفع فاجئني ذات قلق مزمن، وبالكوليستيرول هذا المرض الذي يصيب الأغنياء والكسالى. أنا لست غنيًا. حتما كسولاً، لكني غبي، لم أتقدم أنملة، ولم أتحرك من مكاني خطوة؛ مصاب بالإفراط في الكرامة. تأثرت بالأدباء والفلاسفة، رغم أني لا أفهم في البحور والتفعيلات، ولا في قواعد النحو والإعراب والصرف والبلاغة والإنشاء. ليس لي اطلاع واسع على أفكار الفلاسفة وخبايا معارفهم. مع ذلك فأنا أعتبر رديفًا لهم وأنزاح لاختياراتهم. أحمل روحي، حقيبتي ودوائي، وأقصد المسبح مهووسًا. هكذا أدخل الماء سعيدًا وقد تخلصت من جسدي ومن كل أدراني، ترافقني دعوات الوالدة المريضة من بيتها وقد أصيبت بالزهايمر في أرذل العمر وبكل الأمراض. لا تنسى ثانية أن تمطرني بوابل من الدعوات. الوالد في قبره الفسيح وقد تمكن بفضل محبته أن يكسب مودة الموتى جميعًا، لا زال يفيض بالعشق والطهارة، ويحلم بجنة لا تلفظ أحدًا، وبرب كريم عزيز غفور رحيم.

بسمته الطاهرة تميمة في عنقي.

وأنا أسبح تصلني دعواته، أسمعه يسبح في قعر الماء. يحثني على الغور عميقًا.

04-06-2012

***

مقامات

كان يحمل بين يديه كتابًا. نام الكتاب وتركه ساهرًا. في الحلم تبلل الكتاب فاقشعرت أطراف الحروف، تمزقت أوصالها. ظل الليل كله يرمم أوشاج قصيدة فقدت بوصلتها.

النشيد معزوفة طويلة. أخيرًا تحقق مراده. إنه الآن يحمل مشروعًا كبيرًا. سيدخل عالم الفن من بابه الواسع. حمل أوراقه وعوده قاصدًا أساتذته الكبار. في الطريق انسلت معزوفاته وانفلتت. عبثًا يستحث الخطى للحاق بها، إنها تنام مطمئنة بين أياد مكينة. لن تظل بعد اليوم حبيسة أسواره.

حين أقفل الباب عليه وجد البيت فارغًا من الزوجة والأبناء والأثاث. نزع عنه ثيابه، وضعها بعناية في حقيبته ثم خرج مزهوًا إلى الشارع. رجع خائبًا إلى البيت يحمل أحقاده. لا أحد يستحق عريه.

كانت تطل من النافدة. مر أمامها طيفه، نادت عليه، طالبة منه أن يصعد إلى بيتها. هو الآن ينام بين أحضانها وهي تمسد شعره.

كان وديعًا ترضعه من دفئها عصارة السنوات العجاف. لقد استطابت طيفه.

في الحمام باغته وجه متعب وعيون ذابلة. تجاهل الوجه والمرايا الشاحبة. لابد أن يغير كل شيء في منزله. هناك تواطأ من جهات متعددة، صغيرة وكبيرة، الفراش، الوسادة، الأبواب والأقفال، الصباغة والأشكال. لكن وجهه ظل يعترض سبيله كل صباح.

03-02-2011

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني