الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

الوظائف غير المفيدة*

 

جان بودريار

 

عندما يجد كل من العالَم، أو الواقع، معادلهما الاصطناعي في المجال الافتراضي، يصبحان من دون فائدة. وعندما يقوم الاستنساخ بمهمة تكاثر النوع، يصبح الجنس وظيفة من دون فائدة. وعندما يمكن ترميز كل شيء في شيفرات رقمية، تصبح اللغة وظيفة من دون فائدة. عندما يمكن اختصار كل شيء داخل الدماغ والشبكة العصبية، يصبح الجسد وظيفة من دون فائدة. وعندما يقوم المجال المعلوماتي والآلية الممكننة بمهمة الإنتاج، يصبح العمل وظيفة من دون فائدة. عندما، في "ذاكرة الماء"[1]، يُنتج عبور الموجة الالكترونية المغناطيسية الآثار نفسها التي ينتجها الجزيء، يصبح هذا الأخير من دون فائدة. وعندما يمتص الزمن الفوري temps reél الزمان بكل أبعاده، يصبح هذا الأخير من دون فائدة. وعندما تسود الذواكر الاصطناعية، تصبح ذواكرنا العضوية زائدة عن الحاجة (وهي، على أي حال، تتلاشى شيئًا فشيئًا). وعندما يحدث كل شيء بين أطراف تفاعلية على شاشة التواصل، يصبح الآخر وظيفة من دون فائدة.

لكن، ماذا حلَّ بالآخر عندما اختفى؟ ماذا أصبح المجال الواقعي، وماذا أصبح الجسد عندما تمَّت مبادلتهما بصيغتيهما العملياتية؟ ماذا حلَّ بكلٍّ من الجنس والعمل والزمن وكافة أشكال الغيرية عندما وقعوا تحت سلطة التركيب التكنولوجي؟ ماذا يصبح الحدث والتاريخ عندما يتم برمجتهما وبثهما وإطالتهما إلى ما لا نهاية في وسائل الإعلام؟ تحديدٌ ذو دقة عالية للواسطة، واستطالة شديد للمادة.

الشيء ذاته بالنسبة للكائن الحي عندما يُختزل إلى نسخته المختصرة (DNA وشيفرته الوراثية)؛ ماذا نفعل مع هذا الموجود الإنساني المتبقي؟ ماذا نفعل بالعامل حالما تُنجز صيغة العمل المعلوماتي؟ السؤال ليس جديدًا: قبلاً، لدى ماركس، كان الأمر يتعلق بمعرفة ما العمل مع الإنسان بعد فصله عن قوة عمله. ببساطة، تجذَّر السؤال اليوم لدرجة شمل فيها الواقع بأكمله، واقعٌ هوى إلى مجال الفضلات، ولا نعرف كيف نتخلص منه.

تستمر جميع هذه الأشياء غير القابلة للزوال بالوجود كأطراف شبحية لعضو مبتور. فهي ما تزال تسير مقاومةً، كدراجة جاري Jarry السيبيرية القديمة ذات المقاعد الستة، مع جثثها التي تستمر في سوقها بشكل أسرع فأسرع، ومثل رجال الفضاء في فيلم Ballard المتوفين منذ زمن بعيد لكنهم يدورون على مدار الأرض للأبد، ومثل هذه المؤسسات السياسية والثقافية التي تتابع مسارها في الفراغ، ومثل بطات من دون رأس، ومثل لاعب سرك يستمر بالتقدم على حبل لم يعد موجودًا، ومثل نور النجوم الميتة، ومثل قضاء الله الحاضر دائمًا، في حين أن الله، هو أيضًا، مات منذ زمن بعيد.

لم يعد اتهام الواقع يأتي من الفكر الفلسفي، بل من الواقع الافتراضي ومن تقنياته. فبينما كان الفكر ينهي الواقع ذهنيًا، تقوم التكنولوجيات الحديثة بإنهائه واقعيًا. وبينما يعمل الفكر على لا إنجاز الواقع، يعمل الافتراضي على إنجاز الواقع، وعلى إيجاد حله النهائي. إنكار الواقع، الذي كان فلسفيًا عملية ذهنية، أصبح، مع تكنولوجيات المجال الافتراضي، عملية جراحية.

لم يبق من قطة شيستر[2] إلا التكشيرة.

لم يبق من الحلم إلا أثر تذكُّري.

لم يبق من الجزيء إلا أثره المغناطيسي الكهربائي.

لم يبق من الواقعي إلا الواقع الافتراضي.

لم يبق من الآخر إلا شكل شبحي.

إن قصة "ذاكرة الماء" مثالية في هذا الصدد: فاعلية الجزيئات الغائبة، وموجات كهربائية مغناطيسية مفصولة عن مادتها، وانتهاء الرسالة الجزيئية – الوسط وحده فعَّال. إنه الطور الأقصى لتحويل العالم إلى معلومة خالصة، وبالتالي للصيرورة العامة لكوننا: استطالة شديدة للواقع، ومحو لكل مصدر واقعي لم يعد له فائدة من الآن فصاعدًا.

من زاوية المجال الافتراضي، المجالُ الواقعي ليس إلا أثر، ليس إلا جثَّة مرجعية. لكن الأمر كذلك أيضًا مع الجنس، والعمل، والجسد: لا يمكنهم أن يشكلوا إلا مرجعًا لعملية حِدادية، أو لسوداوية مسهبة. شيء ما يشبه الـوحشة saudade بمعنى الندم لا على من مات، لكن على من اختفى. غير أن الافتراضي لم يمت ميتة طبيعية بل اختفى بكل بساطة، وليس لدينا منه إلا الآثار، أو لم نعد نعلم ماذا تروي لنا القصة عنه – كما في الحكاية التي تروي أن الأجداد كانوا قديمًا يعرفون أين يذهبون في الغابة عند الخطر، وكيف يشعلون النار، وكيف يؤدون الطقوس، لكنْ، مع مرور الزمن، ضاعت الطقوس، ومن ثم النار، ومن ثم المكان، ولم تعد الأجيال اللاحقة تعرف ماذا تروى عنهم الحكاية. هكذا، نقصُّ اليوم نحن لأنفسنا حكاية الواقعي، كمَّا روينا سابقًا قصة الأساطير والجريمة الأصلية.

هكذا، يصبح الواقعي، المسلوب عبر نسخته لكنْ غير القابل للزوال كأيديولوجيا، يصبح من الآن فصاعدًا موضوع طلب لا نهاية له، موضوعَ تجاذب أيديولوجي أبدي. ويصبح العمل، وقد نزعت عنه قيمته كوظيفة إنتاجية، موضوع مطلب لا نهاية له بذريعة "حق العمل"، حقٍّ لا يمكن سلبه من الاستلاب ذاته (في حين أنه كان يجب أن يختفي كونه المصير السلبي للعبد الصناعي).

هكذا، وإن مات الفن، والعمل، والدين، والجسد، إلا أنهم نسوا أن يموتوا. وكونُ المورثة المسؤولة عن اختفائهم حُجبت لسبب أو لآخر، فقد دخلوا في طورٍ ماورائي، طورٍ لا نهاية له. فحيث تكون سيرورة الموت الطبيعي معطلة، نتحرك في كونٍ من الأشياء المختفية افتراضيًا، لكن من دون أن تجد العنصر الفاعل لاختفائها.

وماذا نفعل حتى بما بقي لنا من الزمان، الزمانِ الذي لا يظهر لنا إلا في شكل الملل، هذا المتبقي غير القابل للزوال؟ ماذا نفعل بالحقيقة، وبكافة الأشكال القيمية من هذا النوع – ألم يبق للعالم "الموضوعي" شيء ليفعله في شأن الحقيقة؟ ماذا نفعل بالحرية، التي ما زال ينبض قلبها ضعيفًا في مكان ما مثل ساعة بوبرغ Beaubourg؟ ولكن من يهتم لذلك، فمنذ أن تشتتت في "السعادة" والتحرر اللامشروط من كافة الأشياء لم يبق منها إلا الفكرة المثالية. الإنسان وحريته: ماهيات شبحية، وصورٌ ثلاثية الأبعاد، يتشكل المجال الواقعي منها كمتنزه للتسالي.

إن مصير كافة الأشياء هو في بقائها الاصطناعي، وانبعاثها كفأل احتياطي. هكذا هي حال الحيوانات في طور "إعادة التأهيل" réhabilitation وحال معسكرات الاعتقال وقد اتخذت شكل متاحف، وحال كل ما يحيا تحت الإنعاش أو الحقن المتواصل. سيكون هنالك دائمًا أحصنة، وسكان أصليون، وأولاد، وجنس، وواقع، لكن فقط كعذرٍ وكفألٍ حسن، وكاحتياط رمزي، وكديكور، وكامتياز، وكطلل، وكشيء نادر، بل كموضوعِ انحراف جنسي (الأطفال، مثلاً). أنواعٌ محمية لغايات صيد محسوبة بشكل جيد، سيتلذذ منها البعض حيَّة ويستهلكها الآخر معلبة.

ومع ذلك، حتى الموتى الافتراضيون ينتقمون. الزمن المُلغى في البث المباشر ينتقم لنفسه على شكل ألفية جنونية أو على شكل بحثٍ بائس عن الأصول. والطبيعة، عند اختزالها إلى منبع للطاقة، تثأر لنفسها على شكل كوارث طبيعية. والجسد المطهر في المجال الافتراضي يثأر لنفسه على شكل فيروسية مرضية ذات مناعة ذاتية. والغيرية المقصية تعود في الحقد، وفي العنصرية والخبرة المميتة. الواقع الممحي عبر نسخته هو شبح خطير بالقوة.

عندما نذهب من بانتا آرينا Punta Arenas إلى ريو غراند Rio Grande، في جنوب باتاغونيا Patagonie، نرى على محاذاة مئة كيلومتر البايا انوتيل – الشرَم غير المفيد Baie Inutile – حيث السماء منخفضة بنفسجية شاسعة، وحيث تتقنع الخراف بقناع طيور الليل. كل شيء هنا فسيح جدًا وفارغ جدًا، فارغٌ بشكل لا يستحق أن يكون له اسمٌ. كما لو أن الله كان قد ألقى هنا، لامباليًا، هذا المنظر العقيم، والأكثر غرابة، أنه يشكل قسمًا من قارة بأكملها، إنها باتاغونيا، حيث كل شيء غير مفيد أو غير معقول.

لماذا خُلِقَ هذا الشرم في هذه العزلة الكلية حيث لا يمكن قراءة أي علامة، ولا شيء يمكن التوقف عنده؟ لكن أيضًا تسميته بهذا الاسم هو إجلال رائع لا مثيل له، فمن فعل ذلك شعر بحق برتابة العالم الماورائي، بالنهاية الفوق طبيعية لكل دلالة، بعالم الأطراف الذي تخلت الثقافة عن الإشارة إليه باسم علمٍ ما. باتاغونيا غنية بالأسماء الدراماتيكية، كـ جزر الأسى îles de désolation، إلخ. لكن كل هذا يبدو عاديًا أمام كلمة الـ "غير مفيد" هذه. ربما كانت الحقيقة ذاتها تستحق هذه الصفة الرائعة: "الحقيقة غير المفيدة". وربما هي هنا على أي حال – داخل هذه المياه الرمادية التي تهب عليها رياح دائمة.

ترجمة: د. جلال بدلة

*** *** ***


 

horizontal rule

* الفصل الثالث من كتاب التبادل المستحيل، تأليف جان بودريار، ترجمة: د. جلال بدلة، معابر للنشر، 2013.

[1] اسم أطلق عام 1988 خلال مقابلة إعلامية على فرضية للباحث جاك بينفينست Jacques Benveniste تقول إن الماء عندما يتصل بمواد أخرى معينة يحتفظ ببصمة لبعض خاصيات هذه المواد. [المترجم]

[2] Le chat de cheshire: قطة خيالية متنمِّرة ظهرت في رواية أليس في بلاد العجائب لـ لويس كارول، اسمها يعود لمقاطعة شيستر. عُرفت بأحاديثها الفلسفية مع أليس، وغالبًا ما كانت تترك هذه الأخيرة في حيرة. في لحظة معينة من القصة تختفي القطة نهائيًا ولا يبقى منها إلا تكشيرتها. تقول أليس إنها "كانت غالبًا ما ترى قطة من دون ابتسامة لكنها لم تر ابتسامة من دون قطة". [المترجم]

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني