سرد الشِّعر / إيكوصوفيا / فلسفة البيئة
د. حسان الجودي
1 - طائر أبو الحنِّ الذكي
مازلتُ أغنِّي منذ الفجرِ. أدثِّرُ ريشي بالأغصانِ الخضرِ لشجْرة تينٍ
في الطرف الغربيِّ من البلدةِ. أقصدُ أنْ أتخفَّى خلف الأغصان
اللفَّاءِ، لأني أخشى الإنسانَ، وأخشى أن يرمي نحوي حجرًا، أو ينصب لي
فخًا من دبقٍ، أو يقنصني بالبارودةِ، أو حتى أن يقطع كلَّ الأشجار،
ليحظى بي.
أشعرُ بالغبطةِ حين أغنِّي، قلبي يقفز من صدري. يتدحرج في الغاباتِ،
فترقص كلُّ الأعشابِ البريَّةِ. أعرف أني لا أحسنُ شيئًا غير غنائي.
لكنِّي لن أترك بيتي في هذي التينةِ! أمِّي ترغب أن أتركها، وأسافر في
كلِّ مكانٍ، حيث الشَّمس فصولٌ أخرى، من قمحٍ وحصادٍ. تغريني أمِّي
بالنَّهرِ، بأشجار الكينا، باليرقاتِ على جذع الصفصافِ. ولكنِّي أرفضُ
أن أتزحزح عن مملكتي في أغصان التينِ. أقول لأمِّي: أشعر بالحزن يغلِّف
أعماقي، وغنائي لا يشفيني منه! أشعر بالغربةِ والخوف من المستقبلِ.
والإنسان عدوي وعدو البيئةِ. لن أجرؤ أن أسكن في شجرٍ في الطرف
الشرقيِّ من البلدةِ. حيث أقام الإنسان معامله قرب النَّهرِ، نصيبي، إن
غادرت فضائي، مرضٌ في رئتي أو هرمٌ في روحي.
أيقظني صوتُ الآلاتِ صباحًا. كان العمَّالُ يقومون بقطع الأشجارِ.
صرختُ فلم يسمعني أحدٌ. كنتُ وحيدًا في الأنحاءِ، وقد هربتْ كلُّ طيور
الغابةِ. شاهدتُ الآلةَ قادمةً كي تفسد وكري. أيقنتُ بأني مضطرٌ، أنْ
أبحث عن وطنٍ آخرَ. طرتُ إلى أعلى غصنٍ، شاهدتُ الأفقَ الممدودَ،
وأغرتني ألوانُ الخضرةِ أن أتبع سهمَ الضَّوء، ولكني أغمضتُ عيوني
لأودِّع بيتي، ثم بدأتُ غنائي. ردَّد صوتي صوتٌ في الآفاقِ، وخُيَّل لي
أنَّ الصوت يناديني كي أنقذهُ من شركٍ أو صيَّادٍ أو أفعى. تابعتُ
غنائي، وحلَّقتُ على موجات الصوتِ إلى الصوت الآخرِ، ثم وجدتُ فضاءً
أجردَ، فيه الأرضُ مشقَّقةٌ بأخاديد الملحِ. توقَّفتُ على مرتفعٍ منها.
تابعتُ غنائي، فردَّد ثعبانٌ تحتي صوتي. خفتُ وطرتُ، فناداني الثعبانُ
لأحملهُ، أخبرَ أنَّ السِّحرَ يعمُّ الأرضَ، وأنَّ الإنسان تحوَّل كي
يصبح ضبعًا يأكل من أحشاء الكونِ. وأنَّ جميع الحيوانات العاشبة
انقرضتْ. وطيور الغابة عادت نحو التاريخِ، لتصبح ديناصوراتٍ وأفاعٍ
تسعى في البريَّةِ. هل صدقتُ الثعبانَ؟ لا أذكر فعلاً! أذكر أني تابعتُ
غنائي.
فأنا آخِرُ طيرٍ، يملك ذاكرة البستانْ.
بل آخِرُ ثعبانٍ، يملك ذاكرة الإنسانْ.
بل آخِرُ إنسانٍ، دمر بيئتهُ حين تمنَّعَ عن فلسفة الإحسانْ.
2 - الهرم البيئي
أعرفُ أنِّي (سوبرمانْ). أجلس فوق الهرم البيئيِّ، ويجلس قربي أسدٌ أو
فهدٌ أو نمرٌ أو ذئبٌ أو تمساحٌ، يا للصورة كم تبدو متقنةً رائعةً
صالحةً لحسابي (الفيسبوكي)، إنسانٌ في حلَّة جورجيو ارماني
Giorgio armani،
ولفيفٌ من أشرسِ سكَّان الأرضِ، نحيِّي الهبلَ الكونيَّ، وقد أعطاني
شخصيًا صكَّ الغفرانِ، لأقضم أعضاءَ جميعِ الحيواناتِ، أقول لنفسي
شيئًا، لا أسمع صوتي! أسمعُ صوتَ قباع الخنزيرِ، وصوتَ فحيح الأفعى،
وعواءِ الذئبِ، وزمجرةِ الضَّبعِ، فأرفع صوتي بالشِّعرِ، فينبح كلبٌ
دلماسيٌّ. أستدعي الموسيقا، موتسارتٌ أو جازٌ أو (ميتالٌ) (Metal). لكني لا أسمع غير
ثغاء الحملانِ، وقد بدأتْ تصرخ تحتي في الهرم البيئيِّ، وقد جلستْ قرب
الماعزِ والناقةِ والثيرانِ، وفي الأنحاء هناك زرافاتُ الألطاف
الكونيَّة، الجندبُ والهدهدُ والأرنبُ، تسعى فوق عيون الله على الأرضِ،
وتأكل منها الأوراقَ، الأغصانَ، جذوعَ الأشجار، وأعشابًا تخرج من أعماق
الكرة الأرضيَّةِ، حين تلامسها الشَّمسُ، ويسقيها الغيمُ، فتنمو
بالتركيب الضوئيِّ، وتصبح في قاعدة الهرم البيئيِّ غذاءً لملايين
الأنواعِ.
ولكنِّي في رأس الهرم البيئي، وقد شقَّ صداعٌ رأسي، ماذا أفعل في غير
مكاني؟ ولماذا أخلُّ بترتيبِ الكون البارعِ، حين أصرُّ على خلخلة الهرم
البيئيِّ، فأركض مثل النمرُ لأصطاد الماعزَ، ثمَّ لأصطاد الذئبَ،
وأصطاد الفأرَ، ومن ثمَّ أوالي قطفَ ثمارِ الأرضِ، وأصطاد فراشاتِ
الأحلامِ، وأستهلكُ ما تنتجه الحشراتُ، وألتهم البكتريا دون شعورٍ
بالذنبِ! أنا أدركُ أنّ مكاني، في منتصف الهرم البيئيِّ مع
العشبيَّاتِ. وأدركُ أنَّ كياني مشتقٌ من ذرَّة كربونٍ، في قمحٍ أو
رزٍّ، أو فجلٍ، أو لفتٍ، أو فولٍ. أعرف أنَّ نسيجي من أليافٍ دائمةِ
الخضرةِ. بل أعرف أنَّ الجلد الحيَّ على أعضائي، مشتقٌ من قصبٍ نهريٍّ،
كان يجاور غابات القرفةِ في الزمن الأوَّلِ. بل وأظنُّ جدوديَ أشجارَ
السّدرِ، وأخواليَ توتَ العلّيقِ، وأعماميَ حبَّاتِ بطاطا. ماذا يجديني
أنْ أتحوَّلَ أو أتبدَّلَ؟ كيف أعيدُ إلى الكون توازنهُ؟ ليعيش الإنسان
مع الإنسانِ، بدون غريزة وحشٍ يلتهم الأخضرَ واليابسَ كي يصبح أقوى من
كلِّ وحوش الأرضِ، وأعلى من أهرام الجيزةِ. لكنَّ عيون الحكمة ترنو
بهدوءٍ في المنسوب الأدنى للهرم الفرعوني - البيئيِّ – الكونيِّ،
وأقصدُ، حيث تعيش الأنماطُ الأولى، الفيروساتُ، الديدان، الهيدرا،
أبواغ الزهرِ، البارامسيومُ والفطرياتُ. هناك تفور الطاقةُ في صمتٍ كي
تتجلَّى أقوى في أنماطٍ أخرى. كم يبدو الصرصار جميلاً! مثل النملةِ،
مثل الهدهدِ، مثل الضفدعِ. يحمل غاباتٍ بين قوائمهِ.
أما الإنسانْ....
كم يفسد هارموني الطَّاقة في الكون بأكل الحيوانْ!
*** *** ***
مجلة الإمارات الثقافية - العدد 61