عين الصقر: أينما كنتم نحن نراكم
هل ما زال للخصوصية مكان في عصر الثورة الرقمية؟
الفاهم محمد
الوجود
هذه الكلمة العزيزة على التفكير الفلسفي والتي استعصى فهمها على العقل
البشري، يبدو أنها اليوم في الطريق إلى أن تبوح بكامل أسرارها. كل ما
هو موجود وكل ما وجد أو ما يدخل في إمكان الوجود ما هو إلا بيانات يمكن
تخزينها داخل رقائق السيليكون. هذا على أي حال هو ما تؤكده الثورة
الرقمية التي نعيشها حاليًا. يتجلى الوجود على ثلاثة مناحٍ: طاقة ومادة
ومعلومات. هذه الأخيرة سمحت لنا بأن نقوم بعدِّ كل شيء تقريبًا وتكميمه
ثم تحويله إلى بيانات يتم تخزينها كي تستعمل لاحقًا. الحياة برمَّتها
ما هي إلا خوارزميات يمكن إخضاعها للمراقبة. هناك عين خارقة تشبه عين
الصقر تستطيع أن ترصد كل ما نقوم به وأن تتعقب أي اتجاه نسلكه أو فعل
نفعله. هذه المراقبة المطلقة تزداد يومًا عن يوم سواء داخل الشبكة
العنكبوتية، أو في وسائط التواصل الاجتماعية، أو كذلك عن طريق نظام
تحديد الموقع
GPS
وغيرها من الوسائل التقنية التي تزداد كفاءتها باستمرار، ما من مكان
نختبئ فيه اليوم بعيدًا عن الأعين، لقد ضاعت الخصوصية وانتهى كل ما هو
حميمي.
ثورة البيانات الرقمية
إن ما يميز الحياة البشرية خلال الألفية الثالثة هو ارتباطها الشديد
بالتكنولوجيا الفائقة المعتمدة على تسجيل البيانات الرقمية. كل إنسان
اليوم يحمل هاتفًا ويستعمل شباكًا أوتوماتيكيًا من أجل إجراء معاملة
بنكية، أو يجتاز حاجزًا إليكترونيًا داخل سوق ممتازة أو بواسطة سيارته
في طريق عمومية. حتى أوراق الهوية من بطاقة وطنية، أو جواز للسفر أو
رخصة للسياقة، أو غيرها جميعها أصبحت ممغنطة. وإذن كل ما نقوم به يترك
بصمة رقمية يمكن تعقبها. هذا هو ما يسمى بثورة البيانات الرقمية
Big DTA
والتي تتطور بتطور كفاءة الحواسيب، إذ من المعروف أن هذه الأخيرة تزداد
مهارتها حسب قانون مور كل 18 شهرًا. مشروع حوسبة المعلومات هذا له
تطبيقات في العديد من المجالات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما
يلي:
-
المجال الصحي: هناك اليوم العديد من الأجهزة التي يمكن أن يحملها
الإنسان معه كي تقيس نبضات قلبه وسرعة تنفسه، وعدد الخطوات التي قطعها
أثناء مشيه إلى غير ذلك من المعلومات. بل إن الجيل القادم من الهواتف
النقالة من المنتظر أن يشمل تقديم مثل هذه الخدمات لزبائنه، حيث تعمل
الشركات حاليًا على تطوير هواتف خلوية مرتبطة بالشبكة العنكبوتية
بإمكانها أن تقيس كل الجهد الذي نقوم به في حياتنا اليومية، وترسل هذه
المعلومات إلى الطبيب الخاص بنا. وهكذا بإمكان هذا الطبيب أن يقوم
بتشخيص أولي لحالتنا وإرسال تقريره لنا في الزمن الحالي.
-
المجال المعرفي والتربوي: يقال بأن ثروة الشعوب اليوم ما عادت تقاس
بالذهب والثروات المعدنية، بل بما يمتلكه هذا الشعب أو ذاك من
المعلومات التي يعمل على نشرها وتبادلها واستثمارها ضمن ما أصبح يعرف
اليوم بمجتمع المعرفة.
-
المجال العسكري: في عصر الثروة الرقمية يمكن لفيروس معلوماتي أن يسبب
من الخراب أضعاف ما يمكن أن يحدثه صاروخ عابر للقارات. هذا هو ما أحدثه
على سبيل المثال فيروس ستاكس نيث الذي حسب التصريحات التي قام إدوارد
سنودن العميل السابق للمخابرات الأمريكية بإفشائها، صنعته المخابرات
الأمريكية بتعاون من إسرائيل ووجهته إلى إيران، حيث استطاع أن يلحق
أضرارًا جسيمة بالبرنامج النووي الإيراني.
-
المجال الأمني: وهنا يمكن أن نتحدث عن كاميرات المراقبة الموجودة في
المطارات والمؤسسات الرسمية، والأماكن السياحية وغيرها من المنشآت
الحساسة والتي تسمح طبعًا بتكثيف الرقابة الأمنية عليها من أجل مكافحة
الإرهاب وكل أشكال الجرائم الأخرى. أفضل مثال يمكن أن يقدم في هذا
السياق هو مشروع نولا
NOLA
في نيو أورليانز والذي يضم 1400 كاميرا تغطي المدينة بكاملها والمرتبطة
بالوحدات المركزية في مخافر الشرطة.
بالنظر إلى هذه الأوضاع الجديدة التي خلقتها الثورة الرقمية يمكن القول
أننا أصبحنا أمام واقع جديد غير مسبوق، واقع يتطلب تفكيرًا مغايرًا في
طبيعة الوضع البشري. وكما قال عالم المستقبليات الشهير ألفين تفلر في
كتابه صدمة الحداثة:
إننا في الواقع نصنع مجتمعًا جديدًا، لا مجتمعًا معدلاً، مجتمعًا ليس
مجرد صورة مكبرة من مجتمعنا الراهن، وإنما مجتمعًا جديدًا.
في السياق نفسه يمكننا أن نضيف بأن هذا الوضع الجديد يتضمن الكثير من
الجوانب المظلمة والمخيفة. لقد أصبحنا مكشوفين تمامًا أمام هذه العين
السحرية التي تراقبنا، عين الصقر التي ترى كل شيء. كل كلمة ننقرها على
الشبكة العنكبوتية، كل موضوع نبحث عنه، كل رسالة نتلقاها أو نبعثها
بهاتفنا أو بواسطة الفايس بوك، أو غيره من وسائط التواصل الاجتماعية،
كل ساعة يقضيها المرء وهو يشاهد فيلمًا عبر النت، أو يتابع برنامجًا أو
يستمع لنوع من الموسيقى، أو يطلع على بعض المواقع الخليعة كل ذلك وغيره
يترك بصمة معلوماتية يمكن حوسبتها ومعرفة شخصيتك من خلالها. في عصر
المعلومات أصبحنا مخترقين تمامًا أمام هذه الخوارزميات العملاقة.
الرقاقة
RFID
RFID
هي اختصار للتسمية الإنجليزية
radio frequency identification
بمعنى تحديد الهوية بواسطة الموجات الراديوية. الأمر يتعلق برقاقة
إليكترونية صغيرة جدًا، يتم تثبيتها على مجموعة من الأشياء بغية التعرف
عليها عن بعد مثل القطط والكلاب بل وحتى البشر كذلك. العديد من
المؤسسات الخاصة والملاهي الليلة لا تسمح حاليًا بالولوج إليها إلا لمن
يحملون هذه الشريحة، التي يتم زرعها تحت الجلد والتي يمكنها أن تقدم
خدمات كثيرة للإنسان كأن تمكنه من فتح سيارته بإشارة من يديه أو فتح أي
باب مجهزة بهذه الخدمة. كان الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قد
أمر بجعل زرع هذه الشريحة مسألة إجبارية بالنسبة لكل الأميركيين
المرضى، وذلك حتى يتم تكوين سجل لكل مواطن يتضمن ملفًا صحيًا شاملاً
عنهم.
كل ذلك بدافع تحسين الخدمات الصحية المقدمة لهم كما يتم الادعاء. بعض
المتتبعين رؤوا عكس ذلك. زرع مثل هذه الرقاقة في الجسم هو ما يمكن أن
يؤثر على صحته، ويجلب له العديد من الأمراض على رأسها السرطان. دراسات
عديدة أكدت أن 10% من الحيوانات التي زرعت فيها هذه الشريحة طورت ورمًا
سرطانيًا في مكان الزرع. غير أن خطورة هذه الشريحة الإلكترونية لا
تتوقف عند هذا الحد بل هي ستجعلنا تحت السيطرة المطلقة للرقابة بحيث لا
يمكن لأي نشاط نقوم به إلا ويكون قد ترك أثرًا يمكن تتبعه. هكذا من
المنتظر أن تتحول البشرية إلى قطعان يتم مراقبة سلوكياتها بواسطة
الأقمار الاصطناعية، وتسجيل كل الهمسات والخفقات التي تقوم بها. ما من
حرية شخصية ما من كرامة بشرية أو خصوصية بقيت للإنسان في عصر التقنية
الفائقة. زرع هذه الرقاقة داخل اللحم البشري هذا شيء يذكرنا بعملية
الدمج التي يسعى إليها اتجاه ما بعد الإنسان
LE transhumanisme
كي يحصل على السايبورغ هذا الكائن الغريب الذي نصفه إنسان ونصفه آلة.
نهاية الخصوصية
تعتبر خوارزميات غوغل من أقوى الخوارزميات التي بإمكانها أن تراقب
الأشخاص المتصلين بالشبكة العنكبوتية وأن تقدم كافة المعلومات عنهم،
فهي تحتفظ على سبيل المثال بأرشيف الأبحاث التي قام بها الشخص لمدة 5
سنوات أو أكثر - هل من حقها أن تفعل ذلك؟ - ما هو موضوع اليوم على
المحك هو احترام الخصوصية ووضع تصور واضح لحرية التعبير على النت. وإذا
كانت الخصوصية حق من حقوق الإنسان فقد أصبحت اليوم منتهكة على نطاق
واسع من طرف الأنترنيت، بل هي منذ ظهور الخوارزميات القوية لغوغل
وانتشار الهواتف الذكية يمكن القول أنها انتهت وما عاد لها أي وجود. كل
البيانات الشخصية التي نضعها على النت سواء على جدار الفيس أو الوات
ساب أو حتى داخل الإميلات الخاصة، سواء كانت صورًا أو رسائل أو غيرها
يمكن اختراقها بفضل برامج التجسس
Spyware
أو
web bug
وجمعها ومعالجتها لتحديد الهوية الشخصية لهذا الفرد أو ذاك. بل أكثر من
ذلك يمكن تحديد حتى المكان الذي نتواجد فيه بشكل آني. يحدث هذا حتى وإن
كان الفرد قد نسي تمامًا طبيعة هذه الصور التي التقطها أو هذه الرسائل
التي قام بإرسالها. هكذا تعرف غوغل عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا. هذا
من ناحية ومن ناحية أخرى فهذه البيانات الشخصية يمكن أن تباع لشركات
تجارية مادام أنها تحدد ذوقك ونوع البضائع التي تقبل عليها، كما يمكن
أن توضع في يد الجهات الأمنية كي تستعمل ضدك. كيف يمكن اليوم حماية
الخصوصية في عصر أصبح فيه كل شيء واضحًا وشفافًا؟ الحق في الخصوصية هو
أحد مكونات الهوية البشرية وإذا كانت هذه الأخيرة قد انتهت اليوم
فالهوية البشرية ذاتها أصبحت اليوم في خطر محدق.
خلاصة
ما نعيشه حاليًا هو عبارة عن منعطف أساسي في تاريخ البشرية. الشبكة
العصبية للكرة الأرضية اليوم هي الشبكة المعلوماتية، ففيها تحدث كل
التواصلات الاجتماعية الممكنة تحت المراقبة المطلقة لعين الصقر، أينما
كنتم نحن نراكم. هذا على سبيل المثال هو جوهر مشروع باتريوت أكت
patriot act
الموقع من طرف بوش الابن سنة 2001 والذي ينص على وجوب إخضاع كافة
المكالمات الهاتفية والتواصلات عبر الحاسوب للمراقبة. هناك أيضًا مشروع
تمبورا
TEMPORA
الذي كشف عنه إدوارد سنودن والذي كانت بريطانيا تتجسس بواسطته على كل
التواصلات الهاتفية والرقمية التي تمر بين أوروبا والولايات المتحدة
الأمريكية.
في المستقبل القريب سيصبح بإمكاننا أن نقوم برقمنة كل شيء، مشروع البيت
الذكي مثلاً، حوسبة الجسد البشري، وحوسبة الفضاء العمومي بشكل عام.
العصور القادمة تنبئ بنهاية كل ما هو خصوصي. لقد لعب اكتشاف الكتابة في
حضارة الرافدين كما هو معروف نقلة غير مسبوقة في تاريخ البشر، أما
اليوم فإن اكتشاف الحاسوب من شأنه أن يغير ليس فقط في طبيعة الحضارة،
بل أيضًا في طبيعة الجنس البشري ذاته والذي أضحى يومًا عن يوم يغرق في
التواصلات الفائقة. يقال أنه قريبًا في 2020 ستبلغ المعلومات المخزنة
40 زيتا بيت
zettabyte
وهذا شيء يعادل ما إذا أخدنا كل حبات الرمال الموجودة فوق الأرض
وضربناها في 75. لدينا اليقين اليوم أننا مراقبون والسؤال هو من
يراقبنا ولأجل ماذا يفعل ذلك؟
*** *** ***