"الأرض لكم"
عن إكرام أنطاكي

 

هيام حموي

 

إكرام أنطاكي

قبل رحيلها عن الحياة بفترة، كانت تتحدث أمام ميكرفون المذيعة العربية في باريس، في العام 1991، فقالت:

... الكتاب الجديد الذي أستعد لنشره سيكون بعنوان كتاب البيت – الأرض Libro de laCasa -Tierra وهو عبارة عن محاولة لإيصال فكرة أن بيتنا هو الكرة الأرضية، بمعنى أننا لسنا مضطرين لتفجير هذا البيت وتخريبه من أجل إثبات أننا موجودون، نحن بإمكاننا أن نبرهن على وجودنا من خلال إحساسنا بإنسانيتنا، ومن دون أن نصطدم بإنسانية الآخرين. إذا تخيلنا أن كائنًا فضائيًا جاء من كوكب آخر وشاهد أفعالنا فإنه سيقول عنَّا إننا مجانين، إذ نحطم البيت الذي نسكنه، ذلك أن الفروقات بيننا كبشر ضئيلة جدًا، الواقع أننا نشبه بعضنا بشكل كبير رغم اختلافنا من بلد لآخر.

برأيي أن المعركة الأساسية هي الحفاظ على كوكب الأرض كبيئة وكمكان، أي "البيت-الأرض"، والمسألة ليست ترفًا أو مجرد "صرعة" إعلامية... لكي نعيش في حياة أكثر عدلاً، يجب أن يكون هنالك أولاً أرض تحتوينا... ضئيلة جدًا خلافاتنا إذا ما نظرنا إليها من وجهة نظر فلسفية، وإذا ما نظرنا إلى أنفسنا كبشر. فعلاً المسألة شديدة الوضوح إذا ما تناولناها من زاوية العلم، سواء من ناحية الفيزياء الكونية، بالنسبة للخطوط العريضة، أم من ناحية علم البيولوجيا، فيما يتعلق بأدق التفاصيل.

صورتها الراسخة في الذهن كانت عبارة عن معطف أسود يلفُّ جسدًا نحيلاً يتنقل بخفة هوائية في أروقة كلية الهندسة عندما كانت الكلية المرموقة في تلك السنوات البعيدة تستقبل طلاب وطالبات كلية الآداب، قسم اللغة الفرنسية بجامعة دمشق. وإذا ما التفتت صاحبة المعطف الأسود، فإن ما يخطف النظر ويستأثر بالانتباه هو الذكاء الصاعق والمنبثق من العينين المتقدتين المتعطشتين لكل ما هو معرفي.

كنا نواظب على حضور المحاضرات وندرس بجد ومثابرة، فنتفوَّق أحيانًا، أما هي فكانت تتفوَّق دائمًا من دون أن تسجِّل حضورًا في لائحة تفقُّد الأسماء. لذا لم نستغرب عندما علمنا، فيما بعد، أنها إثر تخرجها ونيلها شهادة "الليسانس" في الأدب الفرنسي، انتقلت إلى دراسة أخرى، وتفوقت فيها أيضًا، إذ درست الانتروبولوجيا أو علم الأقوام في فرنسا، ثم انتقلت إلى المكسيك دونما سبب واضح، وتعمَّقت في الفلسفة بموازاة تعلمها اللغة الإسبانية حدَّ الاتقان، بحيث أصبحت تُصدر المؤلفات الفكرية والأدبية بهذه اللغة الجديدة عليها، ونالت فيها أرفع الجوائز الأدبية، قدمت بها البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الوسائل الإعلامية المكسيكية، كما حاضرت بها في جامعات المكسيك الأبرز، حتى أن الرئيس المكسيكي اعتمدها مستشارة له لفترة طويلة.

كانت تستعد للانخراط في دراسة العلوم الفلكية والبيولوجية عندما عاجلها القدر باختطافها وهي في ريعان العطاء الفكري.

في القطار الفولكلوري البدائي الملوَّن الذي يجول في الحواري والأزقة الضيقة التي تتباهى بها تلة مونمارتر المطلة على باريس، اتخذنا مقاعدنا بانتظار تحرُّك العربات في الجولة السياحية التقليدية، وكانت أمامنا امرأة ورجل يتحدثان بالإسبانية، فجأة التفت الرجل ناحيتنا ليستفسر عن اللغة التي نتكلم بها، فلما عرف أنها العربية وأننا من سورية، أشرقت أساريره وقال: كانت لدينا كاتبة كبيرة في المكسيك أصلها سوري، كانت مستشارة لرئيسنا، وكان لها برنامج رائع بعنوان "وليمة أفلاطون"، كنت لا أفوِّت حلقة منه، للأسف رحلت مؤخرًا، اسمها إكرام أنطاكي..

هكذا اكتشفت، في أواخر العام 2000، أن مواطنتي المتفوقة النابغة السابقة لعصرها، الدكتورة إكرام أنطاكي، قد رحلت عن دنيانا، تاركة قرابة ثلاثين مؤلفًا باللغة الإسبانية وكتابًا شعريًا واحدًا باللغة العربية، وابنًا اسمه مروان، وأطيب الأثر في نفوس المكسيكيين.

عدت يومها إلى التسجيل الصوتي للحوار الإذاعي الذي كنا أجريناه في إحدى زياراتها لباريس، وتذكرت وصيتها بضرورة الحفاظ على "الأرض/بيتنا"، وأدركت أنها كانت تقصد الأرض بكل معاني الكلمة، الكوكب والوطن، على غرار ما كان يقصده المغترب المهجري العبقري الآخر، جبران خليل جبران، الذي غنت له فيروز "الأرض لكم... الأرض لنا، لماذا إذًا تخاصمني، هذي يدي، هات يدك...".

10 شباط 2012

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني