مقدمة للبرنامج الأدنوي*

 

نعوم تشومسكي
ترجمة: أوراس الجاني

 

تفترض نظرية المبادئ والمتغيرات Principles and Parameters أو ما تعرف اختصارا ب&ب (P&P) وجود مبادئ عامة لعمل اللغة، وتفترض وجود أساس بيولوجي لهذه المبادئ (مما يفسر وجود الظاهرة اللغوية عند كل البشر)، ومن أهداف النظرية تحديد هذه المبادئ العامة أو الكلية (النحو الكلي، Universal Grammar، أو UG) وتحديد المتغيرات التي تتنوع عبرها اللغات. فبالنسبة إلى ب&ب جميع الفروق بين اللغات ما هي إلا اختلافات ظاهرية وكل هذا التنوع محكوم بعدد من المتغيرات التي تتفاعل مع المبادئ العامة أو النحو الكلي لتعطي الإنكليزية أو العربية... فتهدف النظرية لإيجاد هذه المبادئ والمتغيرات بحيث تظل النظرية مترابطة وبأبسط شكل ممكن مما يساعدنا على فهم، ولو جزئيًا، عمل اللغات وكيفية اكتسابها. وبذلك نكون قد حللنا لغزًا من أهم ألغاز الدماغ إذا لم يكن أهمها على الإطلاق. فالسطور التالية ترصد بشكل العام التطور المنهجي للنظرية الأساسية في اللسانيات الحديثة أي النظرية التوليدية Generative Enterprise وتركز على الانتقال/الطرح الذي جرى من نظرية ب&ب باتجاه برنامج عمل (بالمعنى الابستمولوجي للكلمة) أوسع هو البرنامج الأدنوي في اللسانيات Minimalist Program In Linguistics.

يهدف هذا البرنامج إلى الإجابة عن سؤالين اثنين مترابطين:

1.    ما الشروط التي يجب على الملَكة اللغوية Faculty of Language استيفائها؟

2.    إلى أي مدى تتحدد الملكة اللغوية بهذه الشروط، من دون بنية خاصة تكمن وراءهم؟

ينقسم السؤال الأول بدوره إلى جزأين ويتعلق بالشروط التي يجب أيضًا على الملكة اللغوية استيفائها بالنسبة إلى:

أ‌.       كونها إحدى النظم المعرفية cognitive system للدماغ/الذهن.

ب‌.  الشروط العامة التي يجب على أي نظرية علمية استيفاؤها، أي البساطة، والاقتصاد، والانسجام الداخلي، والتناظر، عدم الحشو، إلخ.

على الرغم من عدم دقة السؤال (ب) لكنه مهم، فإيلاء الاهتمام بهذه الشروط يساهم في إرساء الخطوط الإرشادية الأساسية لبحثنا، كما هو الحال مع أي بحث عقلاني. وبقدر ما يمكن توضيح مثل هذه الاعتبارات وجعلها معقولة، نستطيع التساؤل إن كان نظامٌ /نسقٌ ما يستوفيها بطريقة أو بأخرى. وعلى عكس السؤال (ب)، يتسم جواب السؤال (أ) بالدقة، رغم حقيقة عدم قدرتنا على توضيح إلاَّ بعض أجزائه في ضوء فهمنا الحالي للغة والأنظمة المعرفية المرتبطة بها.

إذا اعتبرنا أن باستطاعتنا الإجابة عن السؤال الثاني، ولو جزئيًا، فهذا سيمكننا من اعتبار اللغة "نظام كامل" Perfect System آخذين بالحسبان الشروط الخارجية بشكل معقول وغير مبالغ فيه. وعندها يمكن للبرنامج الأدنوي في اللسانيات الانطلاق في محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة.

إن أي تقدم نحو هذا الهدف سيعمِّق مشكلة في علوم البيولوجيا هي أبعد ما تكون عن السطحية والبساطة: فكيف باستطاعة نظام ما، كاللغة البشرية، أن ينشأ في الذهن/الدماغ - أو بشكل عام في العالم العضوي - حيث لا يمكن للمرء على ما يبدو أن يعثر على أي خصائص أساسية لهذه اللغة البشرية؟ لطالما طُرحت هذه النقطة بوصفها معضلة حقيقية لعلوم المعرفة. ويعتبر هذا التساؤل مشروعًا لكن موضعه ليس هنا، ذلك لأنه يشكل معضلة بالنسبة للبيولوجيا وعلوم الدماغ التي حتى الآن لا توفر أي أساس لما نملكه من استنتاجات مثبتة حول اللغة. فهنا، بحسب رأيي، تكمن قدرة النظرية اللغوية على الخوض في مضمار الدراسة التقنية والدقيقة للغة، هذا المضمار الذي لا تستطيع بقية العلوم الاقتراب منه ولو من بعيد في مستوى الفهم الحالي للدماغ.

يشترك البرنامج الأدنوي في عدة افتراضات أساسية مع أسلافه من النظريات منذ خمسينات القرن الماضي حتى الآن على الرغم من التغيرات التي طرأت على هذه النظريات على طول تقدم مسار البحث. أحدُ هذه الافتراضات هو وجود مكوِّن في الذهن/الدماغ البشري مخصص للغة – الملكة اللغوية - يتفاعل مع أنظمة أخرى. وعلى الرغم من وجود العديد من الأدلة الداعمة لهذا الافتراض، يجب التأكيد على أنه ليس مثبتًا بشكل قاطع. لذلك سأستمر باعتباره افتراضًا يمكن البناء عليه إلى جانب فرضية تجريبية أخرى هي أن الملكة اللغوية تتألف، على أقل تقدير، من مكونين اثنين:

1.    نظام معرفي Cognitive System يخزن المعلومات.

2.    أنظمة أداء Performance Systems تقوم بالوصول إلى المعلومات لاستخدامها بعدة أشكال. ما يهمنا هنا هو النظام المعرفي.

نفترض أن أنظمة الأداء هذه خاصة باللغة، ولو جزئيًا، وعليه فإنها من مكوِّنات الملكة اللغوية. وهذه الأنظمة ليست بالطبع حكرًا على لغات بعينها: إنها مكونات ثابتة لا تتغير كما يتغير النظام المعرفي بحسب البيئة اللغوية. يعد هذا الطرح من أبسط الافتراضات، ولا يُعتقد أنه طرح خاطئ ولو أن احتمال عدم صوابيَّته هو احتمال قائم دائمًا. وفي ظل عدم وجود افتراضات أكثر معقولية، سأستمر باعتباره صحيحًا وأن الاختلافات من لغة إلى أخرى تتعلق بالنظام المعرفي.

سألجأ لافتراضٍ طُرح في بدايات الدراسات التوليدية ومفاده أن النظام المعرفي يتفاعل مع أنظمة الأداء عبر "مستويات التمثيل" اللغوية بالمعنى التقني للمفهوم. ولنفصِّل أكثر، نفترض أن النظام المعرفي يتفاعل مع نظامين "خارجيين":

1.    نظام حسي-لفظي articulatory-perceptual system A-P.

2.    نظام قصدي-مفهومي conceptual-intentional system C-I.

ويكون لدينا بالتالي مستويًا تفاعل بينيّ interface levels، بحيث أن الشكل الصوتي للغة Phonetic Form (PF) يتفاعل مع المستوى البيني الأول A-P، والشكل المنطقي/المفهومي للغة Logical Form (LF) يتفاعل مع المستوى البيني الثاني C-I. تعدُّ خاصية مستويي التفاعل البيني المزدوج هذه إحدى الطرق التقليدية - والتي تعود جذورها على أقل تقدير إلى أرسطو - لوصف اللغة بأنها صوت مقترن بمعنى.

ومع أن هذه الافتراضات واسعة القبول، ولو ضمنيًا، إلاَّ أنها غير مؤكدة أبدًا من ناحية البنية/المعمار الداخلية للملكة اللغوية وموقعها بالنسبة لبقية الأنظمة في الدماغ. فمثلاً، حتى في الإطار العام، تبقى فكرة أن اللفظ والإدراك يتضمنان المستوى التمثيلي نفسه أمرًا إشكاليًا، أو قُلْ غير دقيق على مستوى بعض المبادئ الأساسية. وبخصوص مشكلات مستوى التفاعل البيني القصدي-المفهومي فالأمر أقل فهمًا وأكثر غموضًا. سأتابع الأخذ بصحة هذه الافتراضات، منوها أنه في حال بُرهن على صوابيتها، وإن جزئيًا، فسنكون أمام فتح علمي حقيقي.

ظهرت هذه الأسئلة المحورية في البرنامج الأدنوي إلى الواجهة خلال الفترة التي بدأ بها نموذج المبادئ والمتغيرات يأخذ شكله الحالي قبل خمسة عشر عامًا. يساعدنا الرجوع إلى تاريخ النظرية التوليدية على وضع هذه المسائل في السياق. ولا داعٍ للقول إن هذه الملاحظات أولية وانتقائية لكنها مفيدة لإدراك التطورات اللاحقة.

واجهت النظرية التوليدية في بدايتها مباشرة مشكلتين اثنتين:

1.    البحث عن طريقة لتفسير ظاهرة اللغات المتعددة المختلفة، ويصطلح على تسمية هذه المشكلة بـ الكفاية (البُعد) الوصفية descriptive adequacy.

2.    توضيح كيف تنشأ معرفة هذه الوقائع في عقل المتكلم أو المستمع، وهذا ما يُصطلح عليه بـ الكفاية (البعد) التفسيرية explanatory adequacy. ومع أنه بالكاد كان معترفًا بهذا البحث في ذلك الوقت – بدايات خمسينات القرن الماضي - فقد أحيت هذه الأسئلة، وبالتالي هذه البحوث، إرثًا غنيًا، ويعتبر أوتو جيسبيرسن Otto Jespersen أخر ممثليه الأساسيين. فقد اعتبر جيسبيرسن أن "بنى اللغة" تظهر في ذهن المتكلم عبر التجريد من خبرته بالتعابير اللفظية، منتِجةً "فكرةً عن بنى هذه التعابير" تكون "محددة بما يكفي لتمنحه القدرة على صوغ جمل خاصة به" أي، "تعابير حرة" بحيث تكون جديدة بالنسبة للمتكلم والمستمع.

يمكننا الاعتماد على هذه الخصائص للغة لإرساء الأهداف الأساسية لأي نظرية في اللسانيات:

1.    توضيح "فكرة البنى" هذه والعملية التي تؤدي بوساطتها إلى "التعبيرات الحرة". أي، مشكلة البعد الوصفي.

2.    تفسير كيفية بزوغها في ذهن المتكلم. أي، مشكلة البعد التفسيري.

ولأجل بلوغ الكفاية الوصفية للغةٍ ما، لنسمِّها اللغة (ل)، يجب على نظرية اللغة (ل) – أي النحو الخاص بها - أن تتصف بالحالة المتحققة في الملكة اللغوية، أو أقلَّه ببعض جوانبها. ولأجل بلوغ الكفاية التفسيرية يجب أن تحقق نظرية اللغة (ل) الحالة الأولية للملكة اللغوية، وتبيِّن خريطة بلوغها الحالة النهائية الراهنة. ويعتقد جيسبيرسن أنه "فقط بما يتعلق بالتركيب" يمكننا توقع "وجود شيء مشترك بين اللغات كلِّها"، أي "نحو كلي (أو عام)"، وبالتالي، نصل إلى شيء من الوصف الدقيق للحالة الأولى للملكة اللغوية – أي، النحو الكلي الموجود بيولوجيًا في أذهاننا. مع الأخذ بعين الاعتبار "أن لا أحد أبدًا تجرأ حتى على الحلم بالوصول إلى علم تشكُّل (صَرْف) كلِّي universal morphology". ونجد في عملنا صدى لهذه الفكرة.

استُعيض في العصر الحديث عن هذه الاعتبارات التقليدية؛ عن جزء منها عبر تيارات سلوكية وعن جزء آخر عبر عدة مقاربات بنيوية، مما أدى إلى تضييق مجال البحث بشكل جذري مع توسيع قواعد المعطيات للبحوث المستقبلية بحيث تعتبر وصلاً مع الإرث التقليدي، وهذا طبعًا طرح معقول. يتعين علينا لأجل الخوض بهذه الطروحات امتلاك فهم أوسع لحقيقة أن "اللغات تستخدم أدوات محدودة لتعطي نتائج غير محدودة" اذا استعرنا الأدبيات الكلاسيكية. زوَّدنا التقدم في العلوم الصورية Formal Sciences بمستوى الفهم اللازم للتعامل مع هذه المسائل بشكل بنَّاء. يمكن رؤية النحو التوليدي كمحاولة لإحياء عدة تساؤلات غابرة حول دراسة اللغة والذهن، خاصة مع الفهم الأعمق التي قدمته العلوم الصورية في هذه الصدد.

كشفت المحاولات الأولى لحل هذه المسائل عن عجز الدراسات النحوية والمُعجمية التقليدية عن وصف حتى أبسط الظواهر اللغوية الخاصة بأكثر اللغات المدروسة، طبعًا هذا دون ذكر العجز الأكيد عن إعطاء أي معلومة بخصوص الناحية التفسيرية. ما تقدمه فعلاً هو بعض التلميحات التي يمكن فقط للباحث اللغوي المتمرس الاستفادة منها، لكنها أغفلت الموضوع الحقيقي للبحث. ولمَّا كانت المعرفة الضمنية المطلوبة لدراسة هذه اللغات يمكن الوصول إليها بسهولة - أي بفضل الملكة اللغوية الفطرية لأي متكلم - فعليه تبدو القواعد النحوية التقليدية والمعاجم حتى أغناها عاجزة عن مساعدتنا في بحثنا مع أنها تقدم معلومات عامة عن المعطيات اللغوية لكنها لا تسهم في الكفاية الوصفية ناهيك عن الكفاية التفسيرية! لذا إذا أردنا تحديد طبيعة الملَكة اللغوية وحالاتها في نقطة معينة، وهو الهدف الحقيقي للنظرية اللسانية، بالاعتماد على هذه الدراسات، سنكتشف أن كل ما نملكه منها ما هو إلاَّ معرفة موهومة لا تمثل سوى عرض عام لما نعرفه أصلاً عن لغتنا.

وهذا الوضع يكاد يميز على نحوٍ فريد دراسة اللغة. فمن المعلوم أنه عندما تُصاغ أسئلة أكثر دقة، تفلت حتى أبسط الظواهر من تحت مجهر الملاحظة، وتبدو أيضًا حتى التفسيرات الحدسية والمقنعة سابقًا غير كافية أبدًا. لو اكتفينا بالتفسير القائل إن التفاحة تسقط على الأرض لأنه مكانها الطبيعي، لما كان هنالك علم ميكانيكا حقيقي الآن. كذلك الأمر، فما كنا وصلنا إلى المرحلة الحالية المتقدمة في البحث اللساني لو اكتفينا بالقواعد التقليدية حول صياغة الأسئلة أو بالمفردات المعجمية في أحدث القواميس. فلا شيء من هذا كله يشير ولو من بعيد إلى أبسط خصائص الموضوعات اللسانية.

قادنا اكتشاف غنى وتعقيد الظواهر اللغوية، غير المشكك به طبعًا، إلى توتر بين أهداف البعدين التفسيري والوصفي. كان واضحًا أنه كي نصل إلى كفاية تفسيرية يتعيَّن علينا امتلاك نظرية عن الحالة الأولى لا تسمح إلاَّ بتغيرات محدودة: يجب أن تكون اللغات معروفة إلى حدٍّ كبير قبل التجربة، ويجب أن تكون الخيارات المتاحة عبر نظرية هذه الحالة الأولى (أو النحو الكلي) مقيدة بدرجة كبيرة. وعلى التجربة أن تحدد هذه المتغيرات بطريقة أو بأخرى، لتعطينا حالة معينة من الملَكة اللغوية بحيث تكون قادرة على توليد العبارات غير المحدودة والمعقدة المقبولة في تلك اللغة بالإضافة إلى اللفظ والمعنى. حتى أكثر المحاولات سطحية تكشف لنا عمق الهوة بين حجم معرفة المتكلم الفطرية للغته من جهة والحجم البسيط لمعطيات الخبرة اللغوية عند نفس المتكلم من جهة ثانية. رغم ذلك لا ينفك هدف البعد التفسيري يزداد صعوبة ويبتعد عن إدراكنا كلما أصبحت النظرية التوليدية أغنى في محاولتها تحقيق الكفاية الوصفية، عبر عدة طرق مختلفة بسبب اختلاف اللغات، لكن الهوة ازدادت عمقًا بسبب غنى الظواهر المكتشفة عندما حاولنا وضع نظم دقيقة تحكم آلية عمل اللغات المختلفة.

كان هذا التوتر هو السمة الأبرز لأبحاث النحو التوليدي في بداياتها - أو على الأقل توجهها العام، وهو ما يهمني هنا. فمنذ بدايات ستينيات القرن الماضي كان هدفها الأساسي استخلاص مبادئ عامة من نظم القواعد المعقدة لتعطي قواعد أبسط ومقيدة أكثر في عملها بآليات النحو الكلي. تقلل الخطوات بهذا الاتجاه من عدد الخصائص المميزة لكلِّ لغة مما يساعد في تحقيق الكفاية التفسيرية ووضع حجر الأساس للمنهج الأدنوي في نهاية المطاف. لكن هذه الطريقة ليس الوحيدة بالضرورة: فمن الممكن أن تقوم إحدى نسخ النحو الكلي الأكثر تعقيدًا وغنى و"بشاعة" بتقليل الخواص الرئيسية المسموح بها مما يساهم في بلورة الهدف التجريبي الأساسي للكفاية التفسيرية. بيد أنه قد ثبت علميًا أن هذين النهجين يعززان بعضهما بعضًا ويسيران معًا. وأحد الأمثلة على ذلك يتعلق بمبادئ الحشو (الخصائص الزائدة) التي تنمُّ عنها التجربة. وقد ثبت تكرارًا أن هذه المبادئ قد صيغت بشكل خاطئ ويجب الاستعاضة عنها بمبادئ عدم الحشو (بخصائص أقل). صدمنا هذا الاكتشاف بانتظامه بحيث أن الحاجة إلى حذف الحشو أصبحت مبدأ مطبقًا في بحثنا. فمرة أخرى يفاجئنا النظام البيولوجي بهذه الخاصية المدهشة.

كانت نظرية ب&ب تتويجًا لهذه الجهود، مما شكل قطعًا جذريًا مع الإرث السابق الممتد لآلاف السنوات من الدراسات اللغوية الأقدم بكثير حتى من أوائل بذور أفكار النحو التوليدي الذي يمكن اعتباره إحياء لأفكار ومقاربات قديمة (ديكارت، بور رويال، إلخ). وربما يكون هذا هو السبب الكامن خلف قبول القواعد القديمة للنظرية التوليدية أكثر مما قبلها النحو الحديث. في المقابل فإن نهج ب&ب يؤكد أن الأفكار الرئيسية لهذا الإرث اللغوي - ونجدها في أولى نسخ النحو التوليدي - هي أفكار مضللة من حيث المبدأ: على وجه الخصوص الفكرة القائلة إن اللغة عبارة عن مجموعة من القواعد هدفها فقط صياغة التراكيب النحوية (جمل صلة الموصول، المبني للمجهول، إلخ). فأكدت ب&ب عدم وجود قواعد بالمعنى المألوف للكلمة، أو بنى قواعدية مفيدة لأي للبحث ضمن أي نظرية لغوية، فكل ما لدينا هو أدوات تصنيفية. فكل ما هنالك حقيقة هي مبادئ كلية محددة من الخيارات لكيفية تطبيقها Parmeters، فلا يوجد قواعد خاصة بلغات معينة أو بنى نحوية مشتركة بين اللغات أو خاصة بإحداها من النوع التقليدي (أي أن هذه القواعد التقليدية لا تعكس حقيقة عمل اللغات).

نفترض وجود نظام معرفي خاص بكل لغة، بحيث يتكون من نظام حوسبي computational system CS ومعجم lexicon. يحدد المعجم العناصر التي يختارها النظام الحوسبي ويدمجها لتشكل تعابير لغوية (أي زوج من الصورة الصوتية والصورة المنطقية). يجب أن يوفر المعجم المعلومات المطلوبة من قبل الـنظام الحوسبي فقط دون أي تكرار، أي بأمثل شكل ممكن، وبالإضافة لهذا يجب عليه إقصاء ما يمكن التنبؤ به من قبل مبادئ الـنحو الكلي أو من قبل خصائص اللغة المعنية. تنتمي جميع عناصر المعجم تقريبًا إلى فئات المفردات الأساسية (اسم، فعل، صفة، أداة) – متغاضين عن الكثير من الأسئلة المحورية حول طبيعتها والعلاقات القائمة بينها - وندعو بقية الفئات فئة المفردات الوظيفية (الأزمنة، أسماء الوصل، إلخ). لن نفصل حاليًا أكثر في هذه الفئة.

في إطار نهج ب&ب، اتخذت مشكلات تنوع اللغات وتصنيفها شكلاً آخر يختلف عما مضى. يجب أن تختزل كل الاختلافات والفروقات الكتابية بين اللغات إلى مسألة اختيار قيم محددة للمتغيرات. وهنا تكمن واحدة من أهم أسباب بحثنا وهو تحديد هذه القيم وفي أي مكون من مكونات اللغة يجب أن تكون. تقوم أحد الطروحات على اعتبار أن هذه المتغيرات مقتصرة على سمات شكلية formal features غير مقترنة بأي معاني أو تفسيرات على مستوى التفاعل البيني (أي غير ظاهرة في الشكل الصوتي Phonetic Form). وحسب طرح أقوى فإنها تقتصر على السمات الشكلية للفئات الوظيفية. يمكن اعتبار طروحات مثل هذه كتلميح لما حدسه جيسبيرسن بالنسبة للتقسيم اللغوي تركيب-شكل syntax-morphology الكلمة. سأستمر باعتبار هذا الطرح صحيحًا دون الخوض بالتفاصيل لأن الذي نجهله ما زال أكثر مما نعرفه، الأمر الذي يمنعنا من بناء أي فرضيات قوية في هذا الصدد.

في هذا السياق يفسَّر اكتساب اللغة على أنه عملية تحديد متغيرات الحالة الأولية بإحدى الطرق المتوافقة مع النظرية. أي باختيار توليفة معينة من هذه المتغيرات نصل إلى لغة، بالمعنى التقني الذي نقصده هنا: إلى لغةI ، وتدل I على أنها لغة "داخلية" Internal، "فردية" Individual و"مفهوميّة" Intensional.

تُبرز هذه الطريقة في طرح القضايا ضمن نموذج ب&ب وبوضوح القصورَ الكامن في توصيف اللغة على أنها حالة من حالات الملكة اللغوية، فمن الصعب اعتبار هذه الملكة تجسيدًا للحالة الأولى بقيم للمتغيرات في حالتها الافتراضي. على العكس، يجب تصور حالة الملكة اللغوية على أنها نتاج عرَضي لتجربة، وهي تجربة غير مهمة بحد ذاتها إذ ليست سوى مجموعة أخرى من الظواهر في العالم الطبيعي (ولهذا السبب يجري العلماء التجارب بدلاً من تسجيل ما يحدث في الظواهر الطبيعية). يخبرني إحساسي أنه إذا أردنا فعلاً فهم خصائص الملكة اللغوية فنحن بحاجة للقيام بالمزيد من الأَمْثَلة Idealization. لكن سوء الفهم والالتباس الناتج عن الأمثَلة المحدودة متفشيين لدرجة أصبح معها من غير المجدي المتابعة في هذا الطريق. ومن الجدير بالذكر أن الأمثَلة مصطلح مضلل عند اعتباره الطريقة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة.

يمكننا النظر إلى نموذج ب&ب باعتباره، جزئيًا، تأملٌ جريء بدلاً من اعتباره فرضية محددة. ومع ذلك تبدو افتراضاته الأساسية معقولة جدًا في ضوء معرفتنا الحالية فضلاً عن اقتراحه حلاً للتوتر بين البعدين الوصفي والتفسيري. وفي الواقع يبعث هذا الابتعاد عن الأعمال السابقة الأمل في مواجهة الأسئلة الحاسمة حول البعد التفسيري الذي طالما وضع جانبًا بوصفه صعبًا جدًا. كل ما ابتغته النسخ الأولى من النحو التوليدي هو وضع آلية قياس تستطيع الاختيار بين عدة نظريات مطروحة (أي عدة صيغ نحوية للغة ما) بحيث نختار أكثرها ملائمة مع النحو الكلي، طبعًا بحيث تكون منسجمة مع معطيات اللغة المعنية. لم يكن بالحسبان القيام بأي شيء أكثر من هذا بغض النظر عن مفهوم "الجدوى" feasibility الذي ترك دون توضيح. في حال ثبت أن شيئًا ما مثل تصور ب&ب حول اللغة I هو صحيح (يحيط بالطبيعة الأساسية لمفهوم اللغة المفترض في دراسة الأداء اللغوي، واكتساب اللغة، والتفاعل الاجتماعي، وهكذا) عندها يمكن إثارة مسألة الكفاية التفسيرية بشكل جدي. وليتمحور البحث حول القيم الواجب تحديدها حسب التجربة والمعطيات، أي المغيرات الكلية، وهي قضية مهمة جدًا للتمكن، على الأقل، من ملاحقتها بشكل بناء.

إذا ثبتت هذه الأفكار، فسيكون هنالك نظام حوسبي واحد للغة البشرية (computational system for human language)CHL  ومجموعة محدودة من التنوع المعجمي. أي سيكون الفرق بين كل اللغات ذو طابع مورفولوجي، بالإضافة للسؤال الحاسم حول أي الأجزاء من النظام الحوسبي هي التي تظهر (لفظًا أو كتابة) وهو موضوع أُبرز إلى الواجهة بفضل أعمال جيرن-روجر فيرنيوند Jean-Roger Vergnaud ونظريته عن الحالة المجردة وأعمال جيمس هانغ James Huang حول التنوع التركيبي لبنى الاستفهام والبنى المتعلقة بها.

مقاربة ب&ب من هذه الناحية مبالغ فيها. فمن المتوقع اكتشاف المزيد من التباين بين اللغات بقدر ما تسمح لنا المعطيات المتوافرة بتحديد خيارات معينة (قيم المتغيرات). هناك العديد من الحالات التي نتوقع حدوث هذا الأمر ضمنها. أحدها بعض المجالات الجانبية في علم وظائف الأصوات phonology، بالإضافة إلى "الاعتباطية السوسورية" Saussurean arbitrariness أي ثنائية الصوت والمعنى الخاص بالفئات الأساسية في المعجم (اسم، فعل، صفة، أداة). لذا سنضع جانبًا هذه المسائل بالإضافة إلى كل ما هو غير أساسي ومرتبط مباشرة بقضيتنا الأساسية، أي معرفة الخصائص الحوسبية للغة. فكل تلك القضايا لا تدخل في عمل النظام الحوسبي للغة البشرية. ونضيف عليهم: تنوع المعاني semantics، عملية الاختيار من المعجم بوساطة النحو الكلي، والمسائل العامة حول العلاقة بين المفردات وبقية الأنظمة المعرفية.

بالاعتماد على قاعدة ضخمة من بيانات العديد من اللغات المختلفة كتابيا، وبالانسجام مع أولى طروحات النحو التوليدي، سمح نموذج ب&ب باكتشاف وفهم، ولو جزئي، للعديد من الحقائق التجريبية الحديثة. فالأسئلة التي تطرح والحقائق التجريبية التي تُدرس بفضل هذا النموذج أصلية، غنية، متنوعة وتعد تطورًا واعدًا ومشجعًا بحد ذاته.

مع انخفاض حدة التوتر بين البعدين الوصفي والتفسيري، وتراجع أهمية هذه المشكلة من على سلم الأولويات، أصبحت المشاكل المطروحة أكثر صعوبة وإثارة للاهتمام. فالمهمة الأولى تتمحور حول إظهار أن التنوع الظاهري للظاهرة اللغوية لا يعكس حقيقة الأمر، لأن هذا التنوع ليس سوى نتيجة تفاعل مبادئ محدودة ضمن ظروف متفاوتة. أي إن التحول في المنظور الذي وفره ب&ب يعطينا سببًا آخر لمحاولة فهم الدور الذي يلعبه مفهوم البساطة في نظرية النحو. وكما نوقش في أولى الأعمال التوليدية، يجب التمييز بين مفهومين للبساطة simplicity: الأول مفهوم غير دقيق لكنه مهم ويعنى به البساطة المتعلقة بالبحث العقلاني، ويجب تمييزه عن المفهوم الآخر، الثاني، حيث تدل البساطة على معيار يدخل في البنية الداخلية للنظرية التي تختار بين عدة لغاتI . الفكرة العامة حول البساطة (الأولى) ليس لها علاقة مباشرة بدراسة اللغة، لكن المفهوم الثاني، وهو أحد مكونات النحو الكلي، يساهم في عملية تحديد العلاقة بين التجربة ولغة I، ويمكننا تشبيهه بالثوابت الفيزيائية. في مراحل العمل الأولى كان المفهوم الداخلي للبساطة عبارة عن عملية تقييم للاختيار بين القواعد المطروحة (في مفرداتنا الحالية اللغات I) بما يتناسب مع صيغ قواعد النظم أو المبادئ التي كنا قد أرسيناها وقتها. يقترح نموذج ب&ب وسيلة لتجاوز هذا الهدف المحدود، وإن كان هامًا، ومعالجة مشكلة البعد التفسيري. فمع عدم وجود عملية التقييم هذه انتفت الحاجة لوجود المفهوم الداخلي للبساطة بالمعنى الأول.

على الرغم مما سبق، ظهرت أفكار مماثلة، وهذه المرة لأسباب تتعلق بالاقتصاد بالتحليل ومحاولة اختيار أكثر التحليلات بساطة وعزل تلك التي لا تكون مُثلى بالمعنى النظري للكلمة لا الخاص بالنظرية. لم يتغير المفهوم الخارجي للبساطة، ومازال صالحًا رغم عدم دقته.

عند هذه المرحلة مازال هناك العديد من الأسئلة، وهي الأسئلة الخاصة بالبرنامج الأدنوي. إلى أي حد تعتبر اللغة "كاملة"؟ صحيح أنه باستطاعتنا الإشارة إلى بعض "النواقص" في خواص المعجم الصوتية-الشكلية، وجوانب اللغة الناتجة من الشروط المطبقة، أقله، على مستوى التفاعل البيني A-C. فالسؤال الجوهري هو إذا كانت مكونات اللغة هذه، وإلى أي حد، حاصل نتيجة الابتعاد عن الضرورة المفهومية الافتراضية بحيث أن النظام الحوسبي للغة البشرية CHL ليس فريدًا فقط بل ومكوَّنًا بأمثل شكل ممكن. ونسعى عبر النظر إلى نفس المسألة من زاوية أخرى إلى تحديد إلى أي مدى فعلاً ستوصلنا الدلائل المساهمة في تحديد بنية الملكة اللغوية والمطالبة في نفس الوقت أن تكون كل محاولة ابتعاد عن افتراض أن اللغة مثلى ابتعادًا مدروسًا ومعللاً.

سيطرح التقدم على هذا الصعيد عبئًا وصفيًا ضخمًا على إجابات السؤالين أ وب: أي تأثير شروط التفاعل البيني، والصياغات المحددة للاعتبارات العامة حول الاتساق الداخلي، والبساطة، والاقتصاد، وعدم الحشو، إلخ. وبذلك يصبح العبء التجريبي، وهو الأساسي في نظرية ب&ب، أكثر حدة بكثير.

إن المشاكل المطروحة مهمة جدًا. وأعتقد إنه لأمر عظيم مجرد قدرتنا على صياغة أسئلة كهذه ومقاربتها بدرجات متفاوتة من النجاح. وفي حال تأكدت صحة ما تقوله هذه السطور، ولو جزئيًا، فسنكون أمام مستقبل حافل بالدراسات والنتائج المحورية في دراسة اللغة والتخصصات المرتبطة بها.

*** *** ***

مجلة جسور ثقافية


 

horizontal rule

*  المصدر:

ظهر هذا النص أول مرة كمقدمة لكتاب شومسكي The Minimalist Program, Cambridge, MA: MIT Press, 1995. وظهر أيضًا في:

Chomsky, Naom, " Introduction to The Minimalist Program", In The Essential Chomsky, edited by Anthony Arnove, The New Press, New York, 2008, pp. 277-84.

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني