2.
قَبْلِيّات خاصَّة:
خصَّصنا الفقرات السَّابقة من هذا الفصل لمناقشة القبليَّات العامَّة
للبلاغة في حقل الثَّقافة العربية.
وقد قلنا في فاتحة هذا الفصل إنَّ تلك القبليَّات العامَّة للبلاغة هي
ما يشكِّل ملمحها التَّأويلي العامَّ.
ونتوقَّف الآن عند الجزء الثَّاني من تلك القبليَّات، وهو جزء نخصِّصه
لما سميناه بالقبليَّات الخاصَّة.
ونقصد بالقبليَّات الخاصَّة تلك القبليَّات التَّصوُّرية ذات العلاقة
الصَّميمة بمشكلات اللُّغة والخطاب والبلاغة.
ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أنَّ هذه القبليَّات الخاصَّة تشكِّل نوعًا
من التَّرجمة للقبليَّات العامَّة إلى شبكة من المبادئ والقواعد
والمفاهيم التي من شأنها أن تقود خطوات الوصف والتَّحليل والبناء عند
البلاغيين.
وليس ثَمَّ من شكٍّ في أنها قادت، بالفعل، خطوات هؤلاء إلى ابتناء
أشكال من الوصف والتَّصنيف والتَّفسير بالغة الفعالية والنَّجاعة.
بيد أنَّ ذلك لا يمنع من القول بأنها قادَتْهم، أيضًا، وفي الكثير من
الأحيان إلى أحكام فيها الكثير من الإطلاق، من قبيل الحكم بأنَّ لغة من
اللُّغات يمكن أن تكون أصحَّ وأفصحَ حتى عند مَن لم يتكلَّمْها ولم
يعرفْها، وبأن تحقُّقًا من تحققات نوع خِطابي يمكن أن يَفْضُل، بشكل
مطلق، كلَّ التَّحقُّقات ليس فقط داخل نفس النَّوع ونفس الجنس، بل وفي
كلِّ الأجناس الأخرى المباينة..
إلخ.
ونحن إذ نثير أمر هذه المنطلقات التَّصوُّرية الخاصَّة التي تحكمت في
تحليلات البلاغيين وبناءاتهم العلمية فليس بهدف استعراض كل ما يتصل بها
في الحقل البلاغي العربي، ولا حتى بهدف مقابلتها بما استجد في البحث
اللِّساني والدَّلائلي في الزَّمن الحديث؛ فهذا مما لا نفع فيه، خاصَّة
وأنَّ التَّباين بين مسلمات البلاغة القديمة، العربية وغير العربية،
وما توصَّلت إليه الأبحاث الحديثة بخصوص تلك المسلَّمات هو مما يعرفه
عموم المهتمين.
لهذا فنحن نرى أنَّ الأجدى أن نركِّز على ما نرى أنه أثَّر، بشكْلٍ
محوري، سلبًا على أنظار القدماء وأحكامهم ونُواجِهه مواجهة مباشرة.
كنت
أشاهد أثناء طفولتي وحدات من خيَّالة الشركس تمرُّ تحت نوافذ منزلنا
الكائن في حارة باب شرقي في دمشق متجهة شرقًا نحو الغوطة أو عائدة منها
متجهة غربًا نحو قلعة دمشق أو إلى مواقع أخرى في المدينة أو ضواحيها.
كنت أسمع وقع حوافر جيادهم على الأرض المرصوفة بالحجارة البازلتية
وأنظر بإعجاب شديد إلى أولئك الفرسان الممتطين جيادهم بعزَّة وكبرياء،
مرتدين ثيابهم السوداء التقليدية: القلبق والسترة الطويلة والجزْمة
وسلاحهم السيف الشركسي القصير (القامة) على جنبهم والبندقية على كتفهم.
ذكريات الطفولة هذه تدفعني إلى سرد باختصار ما شاهدت وسمعت وقرأت عن
هذا الشعب الذي نزل في بلاد الشام منذ أواخر القرن التاسع عشر وأصبح
على مرِّ العقود والسنين جزءًا لا يتجزأ من النسيج السكاني والاجتماعي
في بلدان الشرق الأوسط.
أَذْكُرُ
جيدًا أنَّ صديقًا حميمًا لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ
على المَلأِ الأدْنَى لأسبابٍ ليسَ هذا المكانُ مناسبًا لإيرادِهَا
حَقَّ إيرادِهَا، أذكُرُ جيدًا أنَّه كانَ قدْ ردَّ بتعقيبٍ نقديٍّ
يسترعي الانتباهَ كلَّ الانتباهِ حقًّا على كلٍّ من مقالِ صبحي حديدي
«شكسبير وسيرفانتس: ملاكمة الجبابرة» (القدس العربي، 17 نيسان 2016)
ومقال محمد الخطابي «شكسبير: إبداعات خالدة مصدر إلهام في كل العصور»
(القدس العربي، 23 حزيران 2016)، وذلك احتفاءً أدبيًّا (وَاجِبِيًّا)
بالذكرى المئويةِ الرابعةِ التي مَرَّتْ حينَئذٍ على رحيلِ هذا الكاتبِ
المسرحيِّ (والشَّاعرِ) الإنكليزيِّ الكبيرِ – وقد أثارَ بالفعلِ
شَاهدًا، وما فَتِئَ يُثيرُ بالفعلِ وبالقوَّةِ غائبًا، حولَهُ الكثيرَ
من الجَدَلِ الأدبيِّ والسياسيِّ، على حَدٍّ سَوَاءٍ، ولوْ أنَ القصْدَ
من هذا الرَّدِّ السَّريعِ، في هذا المقالِ السَّريعِ، إنَّما هو
التركيزُ على الجَدَلِ السياسيِّ دونَ غيرهِ من أنواعِ الجَدَلِ.
صَحيحٌ أنَّ هذا الكاتبَ المسرحيَّ الكبيرَ (ودُونما ذِكْرٍ لصفةِ
«الشَّاعرِ»، ها هُنا، تحديدًا) يستحقُّ مَا كانَ يستحقُّهُ بجَدارةٍ،
وما زالَ يستحقُّهُ، في الواقعِ، أو حتى في الخَيَالِ، من الاحتفاءِ
الأدبيِّ (الواجِبِيِّ) بشتَّى مَعَاييرهِ القديمةِ، حتى قبلَ ما
يقابلُها من معاييرَ حديثةٍ، في هذا الزمن – والمقالانِ المذكورانِ
قبلَ قليلٍ في هذا الصَّدَدِ لَخَيْرُ مثالَيْنِ على ذلك، ولا ريبَ.
إلاَّ أنَّ جُلَّ مَنْ كانوا يتجشَّمُونَ عَنَاءَ هذا الاحتفاءِ
الأدبيِّ (الواجِبِيِّ) من النُقَّادِ الأدبيِّينَ والمعلِّقينَ
الإعلاميينَ الإنكليزِ، إنْ لمْ نَقُلْ كُلَّهُمْ على الإطلاقِ، كانوا،
في حقيقةِ الأمرِ، في عِدادِ المُوالِينَ والمُداهِنينَ (وإلى حَدِّ
الترويجِ الدِّعَائيِّ السَّافرِ) لأزلامِ الطبقةِ المَلَكِيَّةِ
الحَاكمةِ في أثناءِ ذلك الاحتفاءِ الأوَّلِ، وما تلاهُ من الأثناءِ
الأُخرى بالطبعِ، سواءً كانَ «الزَّلَمُ» المعنيُّ رمزًا من رُمُوزِ
العبادةِ الدينيةِ أمْ رمزًا من رُمُوزِ العبادةِ الدُّنْيَوِيَّةِ
حتى.
لقد نأت مابعد الفلسفةméta
philosophie
بنفسها بمرور الوقت، وتكونت كاختصاص مستقل مكرس لكل أشكال تحليل
الخطاب الفلسفي وبما في ذلك مقولات النظريات.
(جورج ليرو)
لكي
يفهم المرء التحولات التي تجري في الفلسفة المعاصرة أثناء متابعتها
للمشهد الراهن الحري به أن يدرس نقاط الافتراق بين الفلسفة القارية
والفلسفة التحليلية ومواطن الالتقاء والاستفادة المتبادلة بينهما.
تُعَدُّ الفلسفة التحليلية صورة متقدمة عن الفلسفة القارية وشكل من
أشكال الانتشار الجغرافي والتناسل الطبيعي لها وتعتبر الفلسفة القارية
بمثابة المصدر الذي انحدرت منه الفلسفة القارية وتفتحت في الخارج.
بيد أن المؤرخين أقاموا بينهما العديد من التمييزات المنهجية
والمضمونية وأكدوا على الفروق في الاهتمام والتخصص والأساليب المتبعة
خدمة لأغراض بيداغوجية توضيحية أو تأكيد لخصوصية فكرية حضارية.
كان من المعتقد، في جميع العصور، ولدى جميع الشعوب، أن الحق عادل.
وخلال ذلك، كان يُنظر إلى الحق على أنه تجسيد للعدالة، أو كان يُطرح
هدف مطابقته مع العدالة. يمكننا الاستنتاج مما ورد أعلاه، أن العدالة
قيمة من قيم الحق، بل ويجب أن تكون القيمة الأكثر استمرارًا وأهمية.
فكثير من قيم الحق انتقالي عابر، ومنها المساواة، والمصلحة الوطنية،
والمصلحة الطبقية، والتقدم، والتمسك بالعادات القائمة، وحقوق الشخصية.
فكلها تظهر في مرحلة تاريخية معينة. وكانت هناك فترات لم يكن معترفًا
بها، ولم يكن بالإمكان الاعتراف بها لغياب الأمة والوعي الطبقي والنزعة
الفردية، وما شابهها. فالعدالة تنتمي إلى عداد القيم الخالدة للحق أو
لمبادئه الرئيسة. وإلى جانب الحق، يمكننا ذكر الخير العام واحترام
القوانين (بالمعنى الواسع للكلمة). وعلاوة على ذلك، فالعدالة ليست قيمة
الحق الخالدة فحسب، بل وقيمته الأسمى أيضًا. وجميع القيم الأخرى تُقاس
بها، وهي فاعلة، بشرط أن لا تعارض العدالة.