أغنية الطائر

 

أحمد تموز

 

يُعتبَر أنتوني دو مِلُّو، المتوفى في العام 1987 عن عمر يناهز الخامسة والخمسين، واحدًا من "أهل التمكين" في الخبرة الروحية. ومؤلَّفاته المنشورة بلغات عديدة (ولاسيما كتابه سادهانا: طريق إلى الله) باتت تحظى بإقبال متعاظم عليها في العالم أجمع. إنه عقل عميق الأصالة، أفلح، كما لم تفلح غير قلة سواه أن تفعل، في التأليف الباطني بين المنقولات الروحية المختلفة، وهو قلب فسيح استطاع أن يعانق الإنسانية جمعاء.

جميعنا يحب القصص! وفي هذا الكتاب[1] يشارك المؤلِّف قرَّاءه أضمومة من 124 حكاية مستقاة من منقولات روحية متنوعة (روسية، صينية، هندوسية، بوذية، مسيحية، إسلامية)، قديمة وحديثة. وفي كلِّ قصة منها عبرة حياتية فريدة تلقِّننا حقائق لا مفرَّ منها عن أنفسنا وعن عالمنا، وتفصح، على نحو ما، عن وجه من وجوه تعليم دو مِلُّو.

 

يستخدم أغنيَّة الطائر وسيط القصة المغرق في القِدَم – لكن الشعبي والفعَّال دائمًا – لإجلاء حقائق عميقة تضعنا على تماسٍ مباشر مع مصاعب الحياة اليومية وهمومها – بما هي الميدان الحقيقي للتحقُّق الروحي –، كما وعلى تماسٍ مع مسعانا الروحي الإنساني المشترك. والغاية في النهاية، كما يقول المؤلِّف، هي تنمية فن تذوُّق رسالة كلِّ قصة على حدة وتصعيد الشعور بها حتى تقودنا إلى تحوُّل داخلي: "اترك [القصة] تخاطب قلبك، لا دماغك"، يشير المؤلِّف على القارئ، "وهذا قد يجعل منك نوعًا من المتصوف" (ص 14) – علمًا بأن "التصوف"، في نظر دو مِلُّو، هو: "فن تذوُّق المعنى الباطن لمثل هذه القصص والشعور به في قلبك إلى حدٍّ يجعلها تحوِّلك." (ص 16)

وهناك، بحسب المؤلِّف، ثلاث طرق لقراءة القصص (ص 13):

1. اقرأ القصة مرة واحدة. ثم انتقل إلى قصة أخرى. هذه الطريقة في القراءة لن تمنحك إلا التسلية.

2. اقرأ القصة مرتين. تدبَّرْ معانيها. طبِّقها على حياتك. سيهبك هذا ذائقة لاهوتية[2]. يمكن لمثل هذا الأمر أن يتم على نحو مثمر ضمن مجموعة يتقاسم أفرادُها تدبُّرهم للقصة. بذلك تكون قد تألَّفتْ حلقة لاهوتية.

3. اقرأ القصة من جديد بعد أن تكون قد تدبَّرتَ معانيها. أحْلِلِ الصمت في دخيلة نفسك ودَعِ القصة تكشف لك عن عمقها ومعناها الداخليين: شيء يتعدى الكلمات والخواطر. سيهبك هذا وجدانًا صوفيًّا.

فلنورِد الآن، على سبيل المثال، قصة من قصص الكتاب (ص 111):

النسر الذهبي

عثر رجل على بيضة نسر ووضعها في قنِّ الدجاج في فناء البيت الخلفي. فقس الهيثم مع الصيصان وترعرع معهم.

وفعل النسر طوال حياته ما يفعل دجاج الفناء الخلفي، ظنًّا منه أنه دجاجة فناء خلفي. فكان ينبش الأرض بحثًا عن الديدان والحشرات، وكان يقاقي ويقوقئ. وكان من عادته أن يصفق بجناحيه ويطير بضعة أقدام في الهواء.

ومضت السنون، وطعن النسر في السن. وذات يوم رأى طائرًا بديعًا يحلِّق عاليًا فوقه في السماء الصافية، منسابًا بجلال رشيق بين تيارات الهواء القوية، بمجرد ضربة واحدة من جناحيه الذهبيين القويين.

نظر النسر العجوز إلى الأعلى برهبة وسأل: "من هذا؟"

أجابته جارته: "ذلك هو النسر، ملك الطيور. إنه ابن السماء. أما نحن – معشر الدجاج – فأبناء الأرض."

وهكذا عاش النسر دجاجة، ومات دجاجة – فذلك ما ظنَّ بنفسه.

تنطوي قصة أنتوني دو مِلُّو هذه على مقايسة ممضَّة للحياة الإنسانية. هي قصة عنَّا – عنك، عني، عن أيِّ كائن بشري يصارع لكي يكون، على نحوٍ ما، غير ما هو (أو هي) حقًّا. إنها قصة عن "النسر" في كلِّ واحد منَّا، وعن الكيفية التي يحيا بها الكثيرون منَّا سحابة أعمارهم، ظانِّين – بكلِّ أسف – أنهم دجاج!

ولكنْ لا يخطرنَّ في بال أحد القراء أن المؤِّلف يكنُّ عداءً للدجاج من أيِّ نوع! فمن الخير للدجاجة – وللخلق أجمعين – أن تكون خير دجاجة بمستطاعها أن تكونها، كما أنه – بالمقدار نفسه – من الخير للنسر أن يكون خير نسر بمستطاعه أن يكونه. تقع المشكلة عندما يحاول النسر أن يصير دجاجة، أو تزعم الدجاجة أنها نسر. إن شأن الكثيرين منَّا، في الحياة البشرية، كشأن النسر في القصة: نتجاهل الكمون الروحي الهاجع فينا للتحليق، وننصاع لـ"نسق" (مصطلح نستعيره من الصديق ممدوح رزق) معتقدات ثقافة الدجاج، بقيوده وإشراطاته.

هذا كتاب عن إعادة اكتشاف النسر في كلِّ واحد منَّا: قدرتنا الإنسانية الفريدة على التحول والتنامي الخلاق في الكلِّ الذي في وسع كلٍّ منَّا أن يعرفه، يقدِّره، يتخيَّله، ويفعله. كلٌّ منَّا "مصمَّم"، إذا جاز التعبير، منذ الولادة، للانخراط في إبداع خلاق، تمامًا على النحو المقدَّر للنسر أن "ينساب بجلال في السماء الصافية"، على حدِّ قول دو مِلُّو. وإننا لنبصر فينا لمحات من هذا النسر بين الحين والآخر – في تلك اللحظات المباركة، المترعة بالمعنى، في حياتنا، كلما اكتشفنا شيئًا جديدًا، وأبصرنا الخارق في العادي،[3] وتَواصَلْنا عمقيًّا مع إنسان آخر، وكرَّسنا وقتنا وموهبتنا لشيء جوهري. إن تلك الأوقات التي نشارك فيها الآخرين فرادتَنا، على نحو لا يستطيعه أحدٌ غيرنا، هي أوقات "نسرية"، لحظات نادرة، نحيا فيها بحسب ما نحن إياه حقًّا، وليس بحسب ما نظن أنه يُفترَض فينا أن نكونه.

يذكِّرنا هذا بحوارية قصيرة من فيلم لقاءات مع رجال أفذاذ للمخرج بيتر بروك، عن سيرة ذاتية بنفس العنوان للمعلِّم الروحي القوقازي الكبير ج. إ. غورجييف، جاء فيها:

غورجييف: أريد أن أتعلَّم... أريد أن أفهم.

الأمير لوبوفدسكي: حذارِ... ماذا تعني بالتعلُّم؟ إذا كنتَ تعني به اختزان التجارب والمعتقدات، فهذا سوف يكبِّلك ويحول بينك وبين المعرفة. المعرفة مباشرة. فلا ينبغي أن تسمح لخاطر واحد حتى أن يتوضع بينك وبين ما تعرف. إذ ذاك ترى نفسك كما أنت، وليس كما تود أن تكون.

وكتاب دو مِلُّو كتاب عن الدجاج أيضًا! كتاب عن الشخصية الكاذبة التي تقنِّع هويتنا وإبداعنا الحقيقيين؛ كتاب عن الألاعيب التي نتسلَّى بها لننخرط في حياة المجتمع، ونلقى قبولاً فيه، وننجح دنيويًّا؛ كتاب عن المقاييس المجتمعية التي نقبلها عن غير تروٍّ أو تفكير، ونجيز لها أن تسيطر على آرائنا وخياراتنا بخصوص ما هو شعبي، جذاب، و"واقعي". هو كتاب عن صورة الذات التي نكوِّنها ونحرص عليها من أجل أن ننال إعجاب الآخرين، ليعترفوا بنا بوصفنا مهمِّين وذوي قيمة. هذا الكتاب هو عن كيفية قيامنا – آباء، ومعلِّمين، وزعماء سياسيين، و"مرشدين" روحيين – بـ"سياسة" الآخرين وأنفسنا للانصياع للـ"تدجين". إنه كتاب عنَّا، وعن كيف – ونحن ننتوي الخير – ننتج الضعة والصَّغار، وذلك بترهيب الآخرين أو ترغيبهم في الدخول في قالب موحَّد المقاييس، مسبق التغليف، ومسبق التصميم لخدمة المراوحة في المكان.

هذا الكتاب، قبل كلِّ شيء، يحكي عن السيرورة التي تبدأ في الطفولة والتي نقنع من خلالها أنفسنا تدريجيًّا بأننا دجاج ولسنا نسورًا. إنه عن السيرورة التي، على كرِّ الوقت، تروِّض الحياة البشرية على الاتِّباع، وليس على الإبداع، على لبس قناع الشخصية، وليس على الكينونة فردًا متكاملاً غير منقسم على نفسه. فعبر هذه السيرورة نقايض بذواتنا الأصلية الخلاقة ذواتٍ عادية متعارَف عليها؛ نبني ونتعهد بالصيانة أقفاصًا أو عادات تحول دون الذات الخلاقة والطيران المحلِّق، لصالح البقاء آمنين على الأرض، كأية دجاجة فناء خلفي!

هذه السيرورة مرارًا ما تجعلنا متمركزين على ذواتنا، غارقين في التفاهة، واللاجدوى، والعدمية. والرهان عليها يقودنا إلى إنهاك متفاقم، وحتى إلى علل جسمانية متنوعة. تعاني علاقاتنا، ويتراخى مردودنا، ويتدهور رضانا الإجمالي عن نفسنا وعن الحياة. وهذه النتائج تظهر لأن حياة المرء حياة "تدجين" (بينما هو مصمَّم أصلاً ليكون نسرًا) هي من قبيل الزيف: زيفٍ نصارع للتغلب عليه كلما سعينا للبرهان لأنفسنا وللآخرين على أننا أذكياء، جميلين، قيِّمين، ومستحقين. هي حياة زائفة لأنها تتنكر لطبيعة النسر في الداخل – قدرتنا على الانخراط الواعي في الإبداع.

قد يبدو هذا الكتاب، في نظر بعض القراء، كتابًا في علم النفس – على كونه لا يورِد أية فنون علاجية؛ قد توحي فصولُه – أو "فواصله" – القليلة الأولى بأنه كتاب إرشاد في تربية الطفل – وهو كذلك من بعض الوجوه؛ بينما قد توحي الفواصل اللاحقة بأنها مصمَّمة للأعمال وللنشاط المادي الخارجي – مع أنه لا ينحصر في هذا المضمار. هذا الكتاب، ببساطة، هو عن هذه الأمور كافة، وعن غيرها كثير. هو كتاب عن أناس من سائر منازل الحياة؛ كتاب يروي لنا قصصًا عن الجهاد الإنساني تنطبق على الجميع، بصرف النظر عن الجنس والثقافة والمكانة الاجتماعية والاقتصادية أو مجال الخبرة.

وهو بالضرورة ليس كتابًا غرضه "الترويح عن النفس" بالمعنى المبتذل أو الرخيص. فهو وصف حي للدراما البشرية الدائرة كلَّ يوم، بدرجة أو بأخرى، في حياة كلٍّ منَّا – سيرورة تحول بيننا والصيرورة تمامًا إلى ما نحن إياه حقًّا. وهذه الدراما، بكلِّ منطوياتها من أجل سعادتنا النفسية والروحية والبدنية، دعوة للقارئ إلى فحص دائم لنفسه عن كثب: "حياة لا يُفحَص عنها لا تستحق أن تعاش"، كما كان يردِّد سقراط الحكيم. إن الكشوف الكبرى في  عالم الذات، كما تشهد غالبية "الراشدين" فينا، لا تتحصَّل إلا عبر وجع مخاض مستمر، و"الارتياح" الدائم هو عقبة كأداء في سبيل حياة ناضجة. حقًّا إن مَن لم يختبر "جحيمه" الشخصي لم يحيَ بحق.

لكنْ الشعور بكرب الجحيم طوال الوقت، من ناحية أخرى، ليس، هو الآخر، من قبيل الحياة التامة – وهذا من الأسباب التي حَدَتْ بالكاتب إلى وضع كتابه هذا. فالكثير من الناس يكابدون المرارة والشكَّ والضياع – حتى عندما "يتوفر لهم كل شيء" بالمعنى الرائج، ويعيشون وفقًا لمتطلَّبات الحياة الاجتماعية (أو "التجمعية" بالأصح، كما يعبِّر بدقة أستاذنا ندره اليازجي) الناجحة. والكاتب، إذ يصف، من خلال قصصه، السيرورة التي تقود إلى الخواء الداخلي بتفاصيلها، كما خَبِرَها بنفسه، فهو يفعل ذلك اعتقادًا منه بأن الخلاص من هذا الخواء يبدأ بالمعرفة، كما تكلَّم عليها الأمير لوبوفدسكي في فيلم بيتر بروك السابق ذكره.

نستهل قصتنا في سنينا الأولى، ونسير بها حتى رشادنا. وهذه الفسحة التطورية مغطاة في الكتاب، لا لتقديم نظريات في نموِّ الطفل أو نصائح للوالدين، على طريقة الدكتور سبوك الذائع الصيت، لكن بالأحرى لتوضيح كيفية بدء السيرورة في التشكل والتجذر في الحياة البشرية. لا بدَّ للقارئ من أن يتعرف إلى أناس من معارفه وهو يقرأ صفحات أغنيَّة الطائر؛ لكنه سيتعرف قطعًا إلى نفسه في كلِّ قصة من القصص: "كلُّ واحدة من هذه القصص إنما هي عنك، لا عن أحد سواك"، يقول دو مِلُّو (ص 15). وكلما تعرَّف القارئ إلى نفسه فيما يقرأ فليضحك على نفسه، وليضحك معنا جميعًا على ما يجترحه من حماقات! ففي المضيِّ قُدُمًا نحو فهم أعمق لمنطويات أفكارنا وأفعالنا وتصرفاتنا، وفي صيرورتنا قادرين على رؤية ما يكبح سيرنا ويحول بيننا وما نحن إياه حقًّا، يمكن لنا أن نبدأ في إحباط مؤامرة "التدجين" والتملص من قبضتها الخانقة.

هذا الكتاب، في الجوهر، كتاب عن الأمل – ذلك الأمل الذي يحدو بك وبغيرك من القراء على التحديق في وجه المخاوف التي تكبِّلك، ويمكِّنك من المطالبة باستحقاقك لمنزلتك كإنسان، ومن اختبار بهجة الطيران الحرِّ من جديد.

وهذا الكتاب، يزيِّن صفحاته عددٌ من الرسوم اللطيفة بالحبر الصيني، كتاب يُضَنُّ به، ويشارَك بمحتواه، ويُؤتى عليه عن آخره مرات عديدة، لأنه رفيق مؤنس على طريق التفتُّح الروحي.

*** *** ***


[1] أنتوني دو مِلُّو، أغنية الطائر، بترجمة أديب الخوري، سلسلة "الحكمة" 3، دمشق، 2000، 190 ص.

[2] "اللاهوت"، بحسب دو مِلُّو، هو: "فن رواية القصص عن الألوهة. وفن الاستماع إليها أيضًا." (ص 16)

[3] "ليس المهم أن يحيا المرء أمورًا خارقة، بل أن يحيا الأمور العادية بشكل خارق." هذا ما نصح لنا به صديقنا المرحوم رونيه فويريه ذات يوم.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود