إسرائيل... أميركا... والعرب

النبوءة*

 

شارل مالك

 

21. مجابهة إسرائيل

إذا اعتزم العالم العربي تبديل أوضاعه بإحداث انقلابات تحررية إصلاحية جوهرية في الحقل الداخلي، وبانتهاج سياسة خارجية رشيدة، حسب الخطوط التي رسمتُها في ما مرَّ: أي إذا أطلق حرية الفكر والنظر، فحفز نشاطًا روحيًّا عقليًّا خلاقًا صاخبًا، وإذا وحَّد كلمته، وجدَّد جامعته في حلف عسكري اقتصادي منيع، وفي اتفاقات خاصة بين مجاميع أعضائه، تقوِّي الحلف العام وتسانده، وإذا عَنِيَ بقوته العسكرية، فأعدَّ جيوشًا قادرة على الذود عن حدوده ومصالحه، وإذا قامت فيه نهضات إصلاحية تناولتْ أسُسَ حياته وأوجدتْ تبدلاً ملحوظًا بارزًا في نُظُمه، وإذا تفاعل هذا العالم العربي المتجدِّد مع الخارج تفاعلاً بصيرًا، يعرف حلفاءه، فيتعاون معهم، ويدرك مواطن الخطر على مصالحه، فيتجنب منزلقاتها: فلبَّى التحدي الروسي بإجراء الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، دون أن يرتمي في أحضان السياسة الروسية، ولمس إمكانية محالَفة غربي أوروبا له، فعزَّز أسبابها، وأدرك فعالية الكنيسة الكاثوليكية خاصة، والقوى المسيحية عامة، فتعاون معها تعاونًا سمحًا، ونفذ إلى أعماق مشاريع التنمية الأميركية المغرية، واكتشف نواياها ومآربها، وميَّز بين تلك المشاريع الصادرة عن أميركا الرسمية أو عن الأوساط الأميركية الخاضعة للنفوذ الصهيوني، فحذرها، وبين تلك المشاريع التي قد تصدر عن أوساط أميركية متحرِّرة من اليهود، تبغي التعاون معه تعاونًا صادقًا، فرحَّب بها – أقول، إذا فعل العالم العربي كلَّ ذلك، أو بعضه، فأنا أعتقد أن مشكلة إسرائيل تصبح عندئذٍ أبسط المشاكل وتحلُّ نفسها بنفسها. إذ إن العالم العربي الناهض يصبح عندئذٍ قادرًا على ضبط الوضع، سيدًا له؛ ويبطل عندئذٍ كون إسرائيل تلك العقدة المكبِّلة أيدينا الآن.

حلُّ مشكلة إسرائيل حلاً أخيرًا، إذن، يتوقف على ما ذكرناه في ما مرَّ من عمل عربي حاسم في العالم العربي نفسه، أكثر من توقُّفه على مجابهة وجهية frontal attack مباشرة. لكن مثل هذه المجابهة الوجهية المباشرة بيننا وبين إسرائيل لا بدَّ أن تحصل وتستمر من الآن حتى إتمام هذه الشروط.

وإذن، ففي أثناء إتمام هذه الشروط، والى أن تتم، توجد أمام العالم العربي، منطقيًّا، إمكانيات عامة ثلاث. أقول "إمكانيات عامة"، لا لأني اعتقد أن كلاً منها ممكن، أو أنها كلَّها ممكنة إلى درجة واحدة من الإمكان، بل لأنها هي المجالات المنطقية الوحيدة المفتوحة أمام عقدة كالعقدة العربية–الإسرائيلية أو من طرازها:

أولاً: إمكانية القضاء على إسرائيل واليهود قضاء تامًّا. هذه الإمكانية – وأحسن تعبير عنها هو القول الشعبي: "كب اليهود في البحر" – هي الطرف الأقصى في اتجاه التفاؤل العربي. وأنا لا أعتقد أن هذه "الإمكانية" ممكنة على الإطلاق الآن، وبالطبع لا أرى لحدوثها أيَّ احتمال.

ثانيًا: وعلى الطرف الأقصى المعاكس، توجد إمكانية قضاء إسرائيل على كلِّ مقاومة عربية، واكتساحها العالم العربي والسيطرة عليه سيطرة عسكرية سياسية تامة. وهذه "الإمكانية"، في نظري، لا تفوق الأولى إمكانًا أو احتمالاً في الوقت الحاضر: لا لأن الطموح الإسرائيلي لا يبلغ حدَّها، ولا لأن القوة العربية والتضامن العربي مكتملان بحيث يكفلان عدم حدوثها، بل فقط لبعض الاعتبارات والعوامل الطبيعية الخارجية اللاإنسانية، وأهمها ضآلة عدد اليهود المقيمين حاليًّا في إسرائيل أو الممكن وجودهم هنا، بالنسبة إلى عدد العرب في الدول المحيطة بإسرائيل.

فأنا لا أعتقد أن اليهود سيبلغون المليونين، من الآن حتى عشر سنوات؛ وقد يكون هذا التقدير نفسه مبالغًا فيه. ومليونا يهودي لا يستطيعون، بحالٍ من الأحوال، السيطرة العسكرية على العالم العربي والاستقرار فيه، بحيث تدوم هذه السيطرة لمدة طويلة وتغدو مستتبة راسخة. ولذلك، فلمدى السيطرة والاتساع والانتشار اليهودي في العالم العربي، من حيث الاكتساح العسكري السياسي، حدود، متأتية في النهاية عن العوامل الطبيعية العددية المرافقة لاستيطان اليهود في إسرائيل، بالقياس إلى عدد العرب ومعدَّل تزايدهم وإلى شسوع أراضيهم.

لست غافلاً عن الأسباب التخفيفية العديدة لأثر هذا العامل الطبيعي المحدِّد لقدرة إسرائيل. فأنا أعي تمام الوعي التباين بين المجتمع اليهودي والمجتمعات العربية من نسبة فعالية الطبقات والفئات المختلفة في كلٍّ من المجتمعين: أي أنه إذا كان الأطفال والنساء والشيوخ والكثيرون من الرجال الذين هم في متوسط العمر، لكنهم محرومون من كلِّ أسباب العمران أو النشاط أو الاندفاع الوطني، لاسيما من طبقات العمال والفلاحين – إذا كان كلُّ هؤلاء في العالم العربي يشكِّلون في الصراع مع إسرائيل قيمة عددية كمية فحسب، لا فعلاً جوهريًّا لهم، فإن الحال في إسرائيل على العكس: إذ إن نساء إسرائيل ورجالها، حتى في سنيهم المبكرة وسنيهم المتأخرة من العمر، يساهمون في المجهود السلمي والحربي الإسرائيليين مساهمة جدية، وليسوا، بالتالي، كميات مهملة في المجتمع الإسرائيلي، وليس بينهم طبقات عمالية أو قروية محرومة؛ بل لعل عمال إسرائيل ومزارعيها هم أكثر الإسرائيليين همة ونشاطًا وفعالية. هذا هو أحد العوامل التخفيفية في أثر العامل العددي في الحدِّ من قوة إسرائيل. وثمة عامل آخر هو عامل الفعالية الذاتية للشخص الإسرائيلي الواحد بالقياس إلى الفاعلية الذاتية للشخص العربي الواحد: فإن للشخص اليهودي العادي من الفعالية ما يفوق فعالية الشخص العربي العادي. يضاف إلى ذلك تنظيم اليهود بالمقارنة بعدم التنظيم العربي؛ وكذلك التقدم التكتيكي اليهودي واستخدام اليهود لأحدث الوسائل الحضارية التكتيكية، وقدرتهم، بالتالي، على التوصل إلى ما لا يستطيع العدد المتفوق من العرب التوصل إليه دون حصول تقدم تكتيكي وحضاري مماثل. لهذه العوامل كلِّها، قد تكون فعالية مليوني يهودي أبلغ أثرًا ووزنًا من فعالية ملايين من العرب.

لكن لكلِّ هذه العوامل التخفيفية معًا حدودها. وتظل ضآلة العدد اليهودي عقبة كأداء تحول دون سيطرتهم التامة على العالم العربي، وتظل قدرة اليهود على الانتشار في العالم العربي والاستقرار فيه، اللازمة لاستتباب سيطرتهم عليه، محدودة جدًّا. إذ إن ثمة حدًّا أدنى يجب توافره حتى تصبح كلُّ هذه العوامل التخفيفية قادرة على إبطال مفعول الضآلة العددية. وهذا الحد لا تبلغه إسرائيل الآن، ولا تستطيع أن تبلغه عدديًّا في عشرات السنين: أي أن أمام العالم العربي فترة سمحة من الزمن لاستكمال استعداده للمجابهة الفاصلة.

وعلى الرغم من هذا كلِّه، فلزام عليَّ أن أقول إن اتكالنا يجب ألا يكون على هذا العامل الطبيعي اللاإنساني الخارجي، لاسيما وأن اتكال الشعوب العربية قد كان، حتى محنة فلسطين، يكاد يكون كله ملقيًّا على الكمية العددية والمناداة بأن "الأربعين مليونًا" من العرب لن يُقهَروا. وإذا صحَّ القول إن اتكالنا على مثل هذه الاعتبارات هو من أبلغ الأخطار الكيانية التي نواجهها، فإنه ليصحُّ أيضًا أن يقال إنه من مآسينا البالغة أن عامل اطمئناننا الأقوى إلى عجز اليهود أخيرًا عن سحقنا هو ضآلة عدد اليهود أنفسهم.

ومع أن الاكتساح العسكري والسيطرة السياسية اليهودية على العالم العربي محدودة بالنسبة لضآلة عدد اليهود، فهذا لا يعني أن الاكتساح والسيطرة الاقتصادية محدودة إلى النسبة عينها، وللسبب نفسه. وإن الخطر الأكبر المباشر ليس، في المقام الأول، من اكتساح اليهود العسكري وسيطرتهم السياسية بقدر ما هو من سيطرتهم الاقتصادية. وهذا الخطر حقيقي جدًّا؛ وهو يعبِّد السبيل إلى الاكتساح العسكري السياسي في المستقبل. ولنا في تعاقُد شركات إسرائيلية مع شركة "فورد" الأميركية لتكون الأولى ممثِّلة الثانية في الشرق الأدنى كلِّه ومركز توزيع منتجاتها، وفي استعداد اليهود وعملهم ليل نهار ليكونوا رأس الجسر في استخدام "النقطة الرابعة" من مشروع ترومان لتنميتهم هم لموارد الشرق الأدنى – لنا في هاتين الظاهرتين دليل على مدى الخطر الاقتصادي المحدق بنا.

هذه "الإمكانية" الثانية، إذن، ليست ممكنة، وبالطبع ليست محتملة: أي أن قدرة اليهود على إفناء العالم العربي أو السيطرة عليه سيطرة مستتبة تحدُّها في الأساس ضآلة العدد اليهودي دون الحدِّ الأدنى اللازم لمثل هذا الاكتساح.

فإذا كانت هاتان "الإمكانيتان" المتطرفتان – قضاء العرب على إسرائيل وقضاء إسرائيل على العرب – غير ممكنتين، تبقى هناك إمكانية واحدة قائمة في أثناء إتمام شروط النهضة العربية وإلى أن تتم هذه الشروط؛ أعني وجود العرب واليهود في حالة جوار، ومجابهة أحدهما الآخر. هذه هي الإمكانية التي ستحصل حتمًا الآن، إلى أن تتوافر للعالم العربي القدرة على تصفية مسألة إسرائيل تصفية يكون العالم العربي فيها هو المقرِّر الأخير والسيد. وهذه الإمكانية، بدورها، قد تتخذ أشكالاً ثلاثة، من حيث نوع المجابهة العربية الصهيونية التي تتم فيها. والعالم العربي يجد نفسه، إذن، أمام مواقف مباشرة ثلاثة ممكنة من إسرائيل، عليه أن يختار أحدها. وللوضع في الشرق الأدنى، إذن، من الآن حتى يتم تجديد العالم العربي، إمكانات ثلاثة. ويتوقف حدوث أيٍّ من هذه الإمكانات على اختيار وقرار عربيين مسؤولين. ومن اللازم أن يعي حكام العرب وقادتهم كلَّ النتائج المتأتية عن أيٍّ من هذه القرارات قبل أن يختاروا أيًّا من المواقف الثلاثة المعروضة أمامهم. وبالطبع، إن هذه المواقف هي إما التعاون التام مع إسرائيل، أو مقاطعة إسرائيل مقاطعة تامة، أو الاعتراف الجزئي بها والتفاعل الجزئي معها.

أولاً: أما التعاون التام بين العالم العربي وإسرائيل فمعناه أن ينسى العرب كلَّ ما جرى، ويعانقوا إسرائيل، ويدخلوا معها في علاقات ودية، باعتبارها دولة من دول الشرق الأوسط، ويتعاونوا معها كما يتعاونون مع تركيا وإيران واليونان، ويفتحوا لها أسواقهم، فيصدِّروا إليها ما تحتاجه من مواد وأغذية، ويرحِّبوا بفنييها وبرؤوس أموالها، تنمِّي مواردهم وتستثمرها، ويتيحوا لأبنائها التجوال والسياحة والمتاجرة في أراضيهم، ويتجولون هم ويسوحون ويتاجرون فيها.

هذه الإمكانية قليلة الاحتمال والخير: أما أنها قليلة الاحتمال، فلأن إسرائيل هي التي أنزلت الحيف بالبلدان العربية؛ والبلدان العربية لن تنسى ذلك، وسيظل في صلف إسرائيل وكبريائها واعتدادها وتأهبها للامتداد مذكِّر لنا بالحيف الماضي وبالخطر المقبل. وأما أنها إمكانية لا خير من ورائها على الإطلاق، بل الشرُّ كلُّ الشرِّ فيها، فلأن مطامح اليهود، كما سبق وذكرنا، تتعدى الرقعة التي حلُّوا فيها فاحتلوا، ولأن طبيعة الحركة الصهيونية الوثابة تأبى التوقف عند حدود إسرائيل، بل تتحفز دائمًا لتخطِّيها، ولأن كلَّ تعاون إسرائيلي–عربي إنما هو في الحقيقة مهادنة مؤقتة يستفيد منها اليهود ليوطِّدوا أقدامهم في إسرائيل وليقووا على التوسع في ما بعد.

إن الكثير من الأوساط الأجنبية المراقِبة، التي تنفذ إلى أبعد من القشور، لا تزال ترى، على الرغم من قيام إسرائيل والاعتراف الدولي بها، أن بقاء إسرائيل متوقف – وسيظل متوقفًا – على رضى العرب عن بقائها – أي على اعتراف العرب بها وتفاعلهم معها تفاعلاً تعاونيًّا – ولو جزئيًّا. وبهذه المناسبة أذكر أن أحد ممثلي بنك التصدير والتوريد الدولي حدَّثني، قبيل ذهابه إلى فلسطين لدرس إمكانية منح قرض لإسرائيل، فأسرَّ إليَّ بصراحة أن البنك يدرك أن تركيب إسرائيل الاقتصادي محتَّم الانهيار مادامت في معزل عن التعاون مع الإطار العربي المحيط بها. إن هذه الحقيقة لتحمِّل المسؤولين في العالم العربي مسؤولية كبرى حول مصير العرب ومصير إسرائيل. إن تعاون العرب غير المشروط مع إسرائيل لبمثابة استسلام عربي سابقي، دون قيد أو شرط، للسيطرة اليهودية، وتعبيد لها.

ثانيًا: وأما مقاطعة إسرائيل مقاطعة تامة فمعناها مقاطعة يهودها في جميع حقول الحياة: معناها عدم الاعتراف بهم سياسيًّا ودوليًّا، وعدم التفاعل معهم اجتماعيًّا، وعدم التبادل معهم اقتصاديًّا، بيعًا أو شراء، وعدم السماح بالانتقال من إسرائيل إلى البلدان العربية أو بالعكس. ولقد ذكرت هذا مرارًا في رسائلي السابقة إلى الحكومة الجليلة. ولا أزال عند اعتقادي، الذي صرَّحتُ به مرارًا في تلك الرسائل، أن هذه المقاطعة، لاسيما الاقتصادية، إذا نُظِّمتْ تنظيما مسؤولاً، ونجحت حتى ثمانين بالمائة من النجاح فقط، تقضي على الدولة اليهودية في سنوات قلائل، فتنهار هذه من تلقاء نفسها.

إن لم يستطع العرب القضاء على إسرائيل ايجابيًّا في الجولة الأولى من الصراع، والى أن تتوافر لهم القوة – بفضل الإجراءات الداخلية والخارجية المرجوَّة – للقضاء عليها في جولات لاحقة، ستحتِّمها طبيعتها الوثابة العدائية، فإنهم ليستطيعون القضاء عليها سلبيًّا بواسطة سياسة الحَجْر والمقاطعة التامة.

ولست بغافل عن إمكانية حدوث ردِّ فعل قويٍّ من جانب إسرائيل، إما للحؤول دون هذه المقاطعة أو للتغلب عليها وإبطال مفعولها. وهناك أخطار حقيقية تتمثل في ردود الفعل اليهودية الممكنة: إذ إن هذه المقاطعة، بمقدار ما ستُضبَط وتنجح، بذلك المقدار عينه ستحفز الجانب اليهودي على محاربتها بعنف. فقد تلجأ إسرائيل إلى المنظمة الدولية، وتعمد إلى الاحتجاج على هذه المقاطعة، معتبرة إياها عامل تهديد للأمن والسلم، وتلقى في أوساط تلك المنظمة آذانًا مصغية ورغبةً في إحداث ضغط على الدول العربية. ولزام على الدول العربية أن تستعدَّ، لا لردِّ الاتهامات الإسرائيلية فحسب، بل لعدم التأثر بالضغط الدولي. وقد تلجأ إسرائيل إلى العدوان المسلح، بحجة أن هذه المقاطعة تشكل بنفسها عدوانًا على إسرائيل، وأن الدول العربية كانت هي البادئة بالعدوان. بل قد ترحِّب إسرائيل بإعلان المقاطعة ذريعةً لإعادة كرَّة عدوانها. وقد يكون هذا العدوان خطرًا بالفعل، لاسيما إذا تمَّ على أساس الاستفراد بالدول العربية ومنازلة جيوشها فرادى، حيث يسهل عليها التغلب والظفر، كما حدث بعد الهدنة في العام الماضي. فعلى الدول العربية أن تحسب حساب ردود الفعل هذه لدى تقريرها القيام بمقاطعة إسرائيل مقاطعة جدية، وعليها أن تعتزم بصدق أن تتعاون معًا إلى أبعد حدود التعاون، إنْ في تنفيذ المقاطعة أو في ردِّ العدوان المتوقع.

لكن ثمة خطرًا على هذه المقاطعة أشد من خطر ردود الفعل اليهودية: هو خطر إعلان هذه المقاطعة وفشلها من الداخل، أي فشلها من الجانب العربي نفسه. وهذا الخطر – الذي يَمثُل إلى الذهن كلما ذكرنا قرارات المقاطعة السابقة التي أُعلِنَتْ ولم تنفَّذ تنفيذًا فعالاً – قد يتأتى عن تجارية تجار القاهرة والإسكندرية وبورت سعيد وعمان وبيروت والشام وحلب، وعدم حزم الحكومات العربية في ردعهم عن التعاون مع إسرائيل، أو عن ابتكار اليهود مختلف الأساليب للاتجار المداوِر مع العالم العربي بمساعدة بعض عملائهم العرب (كما فعلوا في الماضي يوم كانوا يطلقون على مصنوعاتهم أسماء عربية ويطبعون على بطاقاتها "صُنِعَ في لبنان"، مثلاً)، أو عن انفراد إحدى الحكومات العربية بالاعتراف بإسرائيل والقبول بالتفاعل معها. فعلى الحكومات العربية أن تكون يقظة، وأن لا تحسب حساب ردِّ الفعل اليهودي فقط، بل أن تتحفظ لإمكانيات إبطال مفعول المقاطعة من الداخل، أي من الجانب العربي نفسه.

ثالثًا: وثمة، أخيرًا، إمكانية هي مزيج من الإمكانيتين الأخيرتين – أعني بها إمكانية الاعتراف والتفاعل الجزئيين. هذا الموقف – الذي قد يروق للبعض أن ينعتوه بـ"الموقف الاعتدالي" أو "الإيجابي"، وأن يبرِّروه بالاستناد إلى ما يسمونه "واقعية سياسية" أو "وجهة نظر عملية" – سيُعرَض أمام الرأي العام العربي في السنوات القليلة القادمة، وسيُلوَّح به أمام الشعوب العربية كأنه هو المصير الذي لا مفرَّ منه، وهو الموقف الأكثر اعتدالاً وتعقلاً وخيرًا للبلدان العربية. وقد تجد هذه الدعوة لنفسها في الأوساط الشعبية – إذا يئست هذه من إمكانية الإصلاح وأُقنِعَتْ باستحالة حدوثه – آذانًا مصغية، كما وقد تجد في بعض الأوساط الرسمية شيئًا من التأييد، وإنْ بدا في البدء مترددًا. وشرُّ ما في هذه الإمكانية أنها ستُعرَض أقساطًا، بحيث يبدأ عارضوها في المراحل الأولى بالدعوة إلى اعتراف جزئي أو تفاعل محدود، والادِّعاء بأن هذا شرط لاكتفاء إسرائيل وتوقفها عن التأهب للعدوان، ثم يتقدمون، في المراحل التالية، إلى المطالبة باعتراف أكمل وبتفاعل أوسع وأشمل. وأخشى أن يراوح التفاعل مع إسرائيل، من حيث البلدان العربية المتفاعلة ومن حيث حقول التفاعل، بين درجات متباينة.

إني أعتقد أنه ستتسرب إلى الأوساط العربية المفكِّرة خطوط جديدة من التفكير السياسي (لاسيما إذا لم يبدُ أيُّ اعتزام عربي مسؤول أصيل على معالجة الوضع العربي العام بالإصلاح الجوهري) تدعو إلى هذا الموقف – أعني موقف الاعتراف والتفاعل الجزئيين – وتصوِّر هدف هذا الموقف بأنه وضع اليهود في محلِّهم، وتأمين شرِّهم، والاستفادة منهم استفادة سلبية وإيجابية: أي الاستفادة منهم على اعتبارهم، بمحض خطرهم المحدق، حافزًا خارجيًّا مستمرًّا لنا لننشد الإصلاح ونسعى لتقوية أنفسنا، من جهة، وعاملاً فعالاً جديدًا لإنماء موارد الشرق الأوسط بتكتيكهم ومالهم، مما يعود بالخير على اليهود والعرب على السواء، من الجهة الأخرى.

وسيكون الدفاع الرئيسي عن هذا الموقف هو الحجة التالية: بما أنه قد سبق لبعض الأوساط العربية – ومن جملتها اللبنانية – أن أقلعت عن السلبية التامة في تحديد موقفها من الصهيونية، وماشت تطور الأوضاع في فلسطين من منتصف العقد الرابع من هذا القرن، فتنازلت عن تشبثاتها السابقة، ورضيت بمبدأ "الكانتونات" في فلسطين، وبقيام "كانتونات" يهودية، ولم تخشَ شرَّ هذه الإدارات اليهودية، لأنها، نظرًا لقيامها ضمن إطار فلسطين الأوسع منها، ستظل موضوعة في محلِّها، محدودة الخطر، مؤمَنة الشر، وستلعب دورها في الحياة والرقيِّ الفلسطينيين – فكذلك اليوم، وقد حصلت تطورات في الوضع الفلسطيني، لا يسعنا إلا الاعتراف بحدوثها والإقرار بأنها أمر واقع مفعول: فعلينا أن نماشي هذا التطور، وننظر إلى إسرائيل بكاملها ككانتون يهودي قائم، لا ضمن إطار فلسطين الضيق، بل ضمن إطار العالم العربي الأوسع، وككانتون يصح القول عنه، استنادًا إلى المبدأ الذي سبق ذكره، أنه موضوع في محلَّه، محدود الخطر، مؤمَن الشرِّ، يلعب دوره في الحياة والرقيِّ العربيين.

بقطع النظر عما يبدو في هذا الموقف من اعتدال وايجابية وواقعية عملية، وبقطع النظر عن القالب أو القوالب التي يمكن لهذا الموقف أن يتجسد فيها، فإني أقول هنا، من وجهة نظر مبدئية ومن حيث المصير العام الأخير للعالم العربي، إن هذا الموقف، إذ يدعو إلى الاعتراف والتفاعل الجزئيين، سيؤدي إلى انزلاق العالم العربي، عاجلاً أو آجلاً، إلى تسجيل اعتراف دولي حقوقي بإسرائيل، مما يجعل من الصعب جدًّا في المستقبل نقض هذا الاعتراف. أي أن هذا الموقف لينقل الاعتراف العربي بإسرائيل من اعتراف واقعي بقوة عسكرية ظافرة، إلى الاعتراف الحقوقي بمشروعية وضع قائم – لاسيما وأن إسرائيل تصرُّ على أن يكون وضع اتفاقية السلم معها وتوقيعها شرطًا أوليًّا سابقًا لقيام أيِّ تفاعل جوهري معها. ولعل هذا الموقف يستند، واعيًا أم غير واعٍ، إلى اعتقاد بأن قيام إسرائيل وبقاءها قد أصبحا أمرين واقعين غير قابلين للتغيير.

وفضلاً عن هذا الاعتراض المبدئي، هناك اعتراض واقعي عملي، يقوم على أساس الواقعية عينها التي تقوم عليها الدعوة نفسها: وهو أن الاعتراف والتفاعل الجزئيين، ولو بدوا غير خطرين، يشكلان مزلقًا إلى أخطار أوسع منهما مدى. فلا يلبث العالم العربي أن يفتح مجالاً جديدًا للتفاعل، حتى يجد نفسه، بعد حين، مضطرًا أو راغبًا في فتح مجال آخر. والتفاعل، إذن، لا يمكن أن يكون محصورًا جامدًا، بل لا بدَّ له أن يتسع وينمو نموًّا متزايدًا. ومن البديهي أن التفاعل بين طرفين، لا يربطهما معًا سوى التقارب الجغرافي والمتاخمة في الحدود ولا يشتركان مطلقًا في المفاهيم أو المطامح أو الأماني – من البديهي أن هذا التفاعل لا يمكن له أن يصبح تفاعلاً تعاونيًّا صادقًا، بل هو منذ البدء – وسيبقي كذلك – تفاعل عداء مبطَّن ومشادة. ومادام أحد الطرفين وثَّابًا في طبيعته، نزَّاعًا نحو الاتساع، طَموحًا، والآخر متقلصًا متراجعًا، فإن هذا التفاعل سيكون، من لحظة ابتدائه، انتصارًا للطرف الأول واستسلامًا من قبل الطرف الثاني، وسيحمل في ثناياه، منذ البدء، بذور الحيف للفريق الأقل طموحًا وتوثبًا.

هذه هي المواقف الثلاثة التي يقفها العالم العربي والإمكانيات التي قد تحصل في السنوات القادمة. وهي تتفاوت في مدى وجوبها وخيرها أو خطرها وشرِّها تفاوتًا بعيدًا. أما احتمالها وحصولها فمنوطان، بالدرجة الأخيرة، بالإرادة العربية. وما سيحصل من هذه الإمكانيات هو بالضبط ما يجب على السياسة العربية تعيينه وتقريره. إن ما يقرِّره حكام العرب وقادتهم، اليوم وفي الأشهر القادمة، هو بالضبط ما سيقوم بين العالم العربي وإسرائيل من تعاون تام أو مقاطعة تامة أو اعتراف وتفاعل جزئيين في السنوات القادمة. وهذا التقرير هو عينه وظيفة السياسة العربية والمسؤولية التاريخية للحكام الحاضرين.

كنَّا، حتى الآن، نتحدث عن الإمكانيات المنطقية المختلفة، والمواقف الممكنة التي قد تواجه العالم العربي، من حيث علاقته بإسرائيل. وكنَّا، في هذا التصوير للإمكانيات المشار إليها، نتحدث كأن الوضع كلَّه لا يعمل فيه سوى عنصرين اثنين فقط: العنصر العربي والعنصر الإسرائيلي. أي أننا جرَّدنا الوضع في العالم العربي تجريدًا تامًّا عن إطار الوضع العالمي والقوى الفعالة فيه.

لكن الواقع هو ليس إلى هذه الدرجة من البساطة والصفاء. فالعلاقات العربية–الإسرائيلية لا تتجرد – كما أنها لم تتجرَّد في الماضي، ولن تتجرد في المستقبل – عن الإرادات والقوى الخارجية. فالشرق الأدنى كان في كلِّ أطوار تاريخه – ولا يزال – نقطة التقاء لمصالح أجنبية عديدة، وبالتالي، مركز تدخُّل وتفاعل حميمين لقوى وإرادات أجنبية فعالة. ولن يكون في المستقبل أقل أهمية للدول الأجنبية، أو أقل إغراء لهم بالتدخل، مما كان في الماضي ومما هو في الحاضر. ولهذا، ففي سبيل استكمال البحث، وفي سبيل التكهُّن بإمكانية أخرى محتملة جدًّا، والتأهب لها قبل أن تحدث، سنتقدم الآن إلى تكميل الصورة العامة، بأخذ القوى والإرادات الأجنبية بعين الاعتبار.

إن العلاقات الممكن قيامها بين إسرائيل والعالم العربي غير مستقلة عن سياسات الدول الأجنبية، لاسيما بريطانيا وفرنسا وأميركا، في الدرجة الأولى، وروسيا، في الدرجة الثانية.

[...]

*** *** ***


* تنشر معابر (نقلاً عن "قضايا" صحيفة النهار) ما يمكن اعتباره "نبوءة" لشارل مالك حول "مجابهة إسرائيل"؛ وهي مستقاة من الفقرة 21، الفصل الخامس (ص 120-136)، من كتاب بعنوان: إسرائيل... أميركا... والعرب: تنبؤات من نصف قرن – "تقرير في الوضع الحاضر، 5 آب 1949"، بتقديم غسان تويني، سلسلة "وثائق"، دار النهار للنشر، بيروت، 2002. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود