|
معابر
في مرآة الذات 2 نعم لم يعد أمامكم –
كما لم يعد أمامنا، برفقتكم أيها الأصدقاء –
إلا كلُّ شيء! المرآة والبحر
تحديدًا يشكِّلان، في نظري، الرمز المكثف لمعنى
الصداقة بين طرفين: صداقة مدهشة، تتمتع
فيزيقيًّا بكشف الذات وتعريتها (والميتافيزيقا الأكثر
إدهاشًا، بالحدس الشفاف الكاشف الأعماقَ
السحيقة السرِّية، ستصير يومًا على الكفِّ حقيقة
منظورة، سواء كانت ذاتنا أو مكوِّنات الحياة
فينا أو من حولنا)، بصدق شديد، دون مواربة أو
تقنع، ودون إخلال بتوازن الطرفين، أحدهما
تجاه الآخر أو كلٌّ منهما تجاه نفسه الخاصة،
ودون تماهٍ أو تطابق. لذلك سأروح بمعاني
الصداقة إلى معابر، التي حمل مقالُها
الافتتاحي النيساني عنوان: "معابر في مرآة
الذات"*. إذن، نحن أمام "مرآة"
معابر، وبحر نلجه، محفوف بالأسرار
المعلنة، بما يذكِّرني ببيتين من شعر الحلاج: سرائرُ سرِّي ترجمـانٌ إلى
سرِّي * إذا ما التقى سرِّي
وسرُّك
في السِّرِّ ومـا أمرُ سرِّ السِّر
منِّي وإنمـا * أهيـم بسرِّ السرِّ منه إلى
سـرِّي لقد راح بعض الدارسين
للحلاج يحصرونه في الحقيقة المطلقة، وفي
قراره البقاء في فلكها وتمثُّله
الدائم بها. إنما، في ظني، كلُّنا يبحث عن
السرِّ وعن معاييره الذائبة في ذواتنا
– وإن كنَّا على درجات ودروب ومدارات ونبرات
مختلفات. ومرآة "ذات" معابر،
بتجربتها المنعكسة عن ذوات القائمين عليها –
كما وَرَدَ في بوح النصِّ الشفيف بدفء
وحميمية – تنفذ إلينا بطاقة ضوء، باستقامة
ضمير محمَّلة بالمعاني وبالألغاز؛ تخترق
بسلاسة جُدُرًا تطوِّقنا – وما أكثرها من
جُدُر، منذ لحظة البدء في الرحم وحتى اللحد وما
بينهما! – آلاف مؤلَّفة، تحمل تركات الماضي
والقادم وتكلُّساتهما، وترنو إلى الاغتسال
من صدأ المعاني. وثمة أصابع حائرة
تطرق بوابة السؤال حول سرَّانية السرِّ
وحقائق من
رحم وحدة الوجود – رغم اختلاف درجات الصوت
والنبرات – لكنها في زماننا باتت ملحَّة.
لذلك نرى معابر، بروح الإنسان فيها – في
زمن الاستعصاء والإقصاء والإخصاء – وقد أخذت
على عاتقها مسؤولية صعبة في استقلاليتها عن
أية سلطة كانت، فباتت، إذن، مطلبًا حيويًّا
وملحًّا، بإبحارها في لُجَّة الاستحالات
الممكنة والممكنات التي قد تبدو من فصيلة الاستحالة،
من خلال تشرُّد بعض جنبات رصيف دربها، كنتيجة
حتمية للاغتراب الروحي في مجتمعات
تقوم يقينيَّتها على سراب عالق خلف المسافات،
وتقوم قائمتها اليوم على
مفاهيم
تحويل إنسانها إلى مُستهلِك (بكسر اللام) مادي
بدرجة امتياز، ومُستهلَك (بفتحها) روحيًّا
إلى حدِّ الشفقة. وبالتالي، تصير مهمة معابر
للمتلقِّي، أينما
كان، في زمن النشر الإلكتروني، صعبة للغاية،
أمانةً لدربها اليقيني المؤكد. * سأتوقف هاهنا أمام
بعض النقاط التي وردت في الافتتاحية
النيسانية، وتحديدًا أمام
فقرتين: الثانية والثالثة التي تنتهي، قبل
الفقرة الرابعة، بـ"نداء" خجول (النداء
ذاته الموجود منذ أشهر على صفحاتها!) – نداء
يطرق بوابة الوجود بالاستقلالية ذاتها،
وبالطروحات التي تميِّز وجودها؛ إعلان شديد
التهذيب، أقرب إلى نقرة الطنَّان
الأحمر الخجول على غيمات السفر، يأخذني إلى
ألم التساؤل حول ماهية الصراع بين ما هو
مادي وما هو روحي، إلى عوالم المادة المتمثلة
اليوم بالتمويل وبالإعلان، بصناعته الجنونية الأقرب
في نظري إلى القتل، بهدف كشف وجع، وليس
المقارنة؛ إعلان يملؤني بعلامات الاستفهام، وأروح
أطلق العنان لهواجسي، متكئة على ما يقوله
يونغ: "إننا نسبح في بحر من هواجس الأجداد." والمشكلة أن الأمر
كذلك: فكلُّ ما يسكننا من قلق الغد ذو صلة
بالأمس. صحيح أن التاريخ لا
يعيد نفسه؛ ولكن من هواجس اليوم الاستجارةُ
بالأمس، نحدق فيه، ولَربما – لَربما
– وَمَضَ الدرب، وتبدَّد شيء من رماد بات بين
الرمش والعين! * كما يعرف الجميع،
يشكل كلٌّ من رأس المال، كجزء من المادية
في حياتنا، من ناحية، والمعرفة الحيادية، من
ناحية أخرى، قوة عظيمة يمكن
لها إحالة الحياة جنة؛ كما من الممكن أن تصير
قوة ضارية بسقوط شرط "الحياد" المعرفي وبتَحَوْصُلها
في أيدٍ ملطخة بتركة الدم، فتحيل كوننا إلى
جحيم. الحضارة الغربية–الأمريكية تحديدًا هي
أول حضارة في تاريخ البشر استطاعت توحيد
العالم وفق نمط تعبير وسلوك ومزاج
موحَّد، بسبب اندلاع قوة العقل العاتية في
المجالات كافة؛ حضارة ربطت أقصى طاقاتها البشرية
(المعروف منها والملموس اليوم على الأقل)،
محوِّلة إياها إلى إرادة القوة والهيمنة، مرتبطةً
بإرادة المعرفة، متجسدةً بشكل لا نظير له،
محققةً أشكالاً متفاوتة لم يسبق لها مثيل
من استئصالٍ لذاكرات وشعوب وقوى كانت بالأمس
ندًّا قويًّا، أو ما يقترب منه وينوب
عنه. جيوش من العلماء والمختصين والخبراء، في
كافة الحقول والمجالات، قذفوا اليوم – وما
يزالون، ولا ندري حتى متى يطول أمدُ فعلهم –
عصارة فكرهم الخلاق في تطوير هذه الحضارة
وهذا النوع من التقدم، عبر تفاعل غريب بين رأس
مال محموم جَشِع، منجزًا – وبشراسة – فصل
العلوم والاختراعات والمكتشفات عن سياج
أخلاقها وقيمها وسلوكها؛ وبمعنى آخر، محققًا
إلغاء كوابح إنسانية وأخلاقية، ليتوحد
الإنسان والآلة كتجربة أولى
في تاريخ استعباد البشرية، محولاً الإنسان
إلى كائن مشترك، منعزل عن قيمته الحقيقية في ارتباطه
المعنوي والعضوي بـ"الآخر"، سواء كان
هذا الآخر هو الإنسان أو الطبيعة والكون.
ويبدو ذلك واضحًا اليوم في تحويله التدريجي
إلى وسيلة في خدمة أهداف وغايات لن تعود شروطُ السيطرة
عليها ممكنة إلا بمزيد من حمامات الدم، أو...
بصمود القلة ومدِّ أذرعهم الروحانية عبر
الكوكب الذي نسمع استغاثاته عِبر كلِّ
الخرائب من حولنا. * كلُّ ما حولنا اليوم
يصبُّ في آليات القتل والتقتيل، بدءًا من
الجسد وانتهاءً بالمعاني السامية: قتل بمعنى
أو بآخر، كما وَرَدَ في المقال الافتتاحي من
إشارات مباشرة وغير مباشرة، كالفقر والمجاعات،
بما يأخذنا إلى أبعاد الوجع البشري اليوم،
الناشئة عن صور متطورة عن "القاتل الأول":
أخطاء وخطايا سياسية ومجتمعية، أو سوء نُظُم
إدارة الأرض والتعامل المجحف
مع البيئة، أو ابتكار الأمراض والأوبئة بدل
الحدِّ مما هو موجود؛ تصفيات جسدية
ومعنوية وثقافية... هي رحلة طويلة
زمانيًّا، قامت بها مغامرة العقل البشري،
بدءًا من وعيه
العفوي للقتل. بدأها رمزيًّا بالآلة الحجرية
– وهي من ضمن أوائل معارف الإنسان تأريخيًّا
في النزوع العدواني ورغبات احتلال الآخر،
جزئيًّا أو بالكامل – ونعيها في مغامرة
الوجود الكبرى. ولقد تطورت هذه
المعرفة، ليس في الأسلحة وفتكها وقوة تطوير
الآلة، منذ
قابيل وهابيل، أي منذ ابتكار آلة القتل
الحجرية وحتى القنابل الذرية والنوترونية والليزرية
وعابرات القارات إلخ، فحسب، إنما كانت
استمرارًا وتطويرًا لذلك العدوان والاقتتال
اليومي الذي يستمر من غير مدية أو قنبلة عبر
يوميات طاحنة. يخرج الكائن من
أول جدار آملاً
بالحرية، إلا أنه يتربى، وتتربَّى معه حروبُه
وضغائنه؛ طفولة تشب عن طورها وتدخل عالم
الذين، من فرط "رشدهم" و"حكمتهم"،
يقفون وراء كلِّ القتل والتقتيل والمذابح
والتصفيات والأنانيات التي تتناسل مقابرها
عبر الأجيال، بكل أنواعها. هم صُنَّاعها
وضحاياها وشهودها – وهنا تكمن المأساة! هي عودة إلى أولى
المعارف البشرية التي
راحت للقتل، رغبةً في الاستحواذ على الروح
والجسد: القتل المعنوي الروحي والقتل المادي.
أراد خالقه
وقتئذٍ إضفاء لمسة حنان وإنسانية بدفن جثة
أخيه المتعفنة، فلم يستطع اكتشاف وسيلة
لذلك. كان وعيه حبيس جدار اللاوعي تمامًا،
عاجزًا عن خلق ناموس للمحبة، رغم أن وعيه كان
هائلاً و منفتحًا لخلق القتل، فتماهى بمعرفة
جديدة أخذها عن كائن آخر سبقه إلى الأرض: ذاك
هو الغراب الذي كان أول معلِّم، ملقِّن أول
حكمة للإنسان الأولي على الأقل، مؤرَّخة، مؤرشَفة
في الذاكرة الجمعية؛ كائن لا تتسم حكمتُه
ببشاعة إعلان حرب وقتل إنسان،
إنما
تُواري سوأته وتطمرها في أعماق أرض طاهرة،
ستمتلئ لاحقًا بالجثث والضحايا والخيانات.
(لكم أشعر بالرثاء لمن يمقت الغراب؛ وشخصيًّا
لا أحمل لهذا الطائر أية ضغينة،
بل أشفق عليه – فهو أقدم كائنات الأرض وجودًا
وتكيفًا ومحاولة للصمود، وفيه الكثير
من الأسرار الأولية – أشفق عليه مما أسبغنا
عليه من سمات القاتل فينا.) فأي سرٍّ
هذا الذي يحفر عميقًا في روح الإنسان،
محتدمًا في عنفه ودمويته وعبثه وكذبه
التاريخي وتاريخ مَن
يجاورونه في الأرض، وفي علاقات يعلِّق عليها
خطاياه؟! * أحد أهم محاور الصراع
في تاريخ
البشرية كان صراع الرغبة المتمثلة بالامتلاك
المادي بالمطلق (امتلاك جسد أنثى وامتلاك
أغنام وأرض). وقد راح الصراع لاحتلال المعنوي
عبر المادي، أي احتلال "الذاكرة"
المتمثلة بدفن
جثة الأخ المقتول؛ بمعنى الصراع الذي أشعله
مَن يريدون محوها وتدميرها (أي الذاكرة) لصالح معرفة
ما، أو بتعبير أدق، لصالح "وهم معرفي"
قائم على ذاكرة ذاك الفعل الحجري القديم. وعلى
هذا الأساس، تمَّتْ إبادة شعوب ومجتمعات،
واغتيال عقول، ودفن معارف وقيم، وراحت المحاولات
الحثيثة تتوالى لقذفها خارج ذاكرتها
وتاريخها وخارج زمانها. ومن بعدُ العناية بالجماجم
الفارغة، تمامًا كما نرى في أدبياتنا، كمثال
على ذلك، من تطيُّر وتشاؤم من المسكين الغراب
– أول شاهد ومعلِّم بات ضحية في التاريخ! ففي
أعماقنا المذعورة ثمة دومًا شاهد وضحية
يبحث عن معبر يعبُر جُدُرًا تكاثرت أكثر من
اللازم، ضدَّ نزعة العدائية والأنانية والجهل
التي تنتظرنا وراء كلِّ أكمة ومنعطف وزقاق،
أمام مشهد مهيمن، مهين للغاية، على سياق
الحياة والبشر. ومازال مغروسًا في أصابعنا
الشاهدُ الذي بتنا نخشى – وقد لا أبالغ إن قلت
إننا لا نعي سرَّ التحديق فيه. * مجتمعاتنا اليوم
تغوص في وحل الاستعراض والاستهلاك
وشهوة الامتلاك، رغم حدَّة وجعها
وفقرها
وأمراضها، كنسيج يلف وجودها بكامله، مفضيًا
بها إلى حتف القيم الإنسانية، بل إلى حتف كلِّ
ما هو مشرق في نبل مشاعرها
وموروثاتها من سرِّ وجود الإنسان والأرض
الأولية. تتحرك كائناتنا اليوم كالدمى
الدائخة في دائرة هذا المظهر الاستعراضي الذي
تتفاخر به وتزهو أمام الآخر المختلف،
متنامية على حساب نقاط وجودها الحقيقية.
وعندما تطلُّ لحظات الإحساس بنسق الاختلاف
ورفض الانصياع والتطابق، يصير الاستعراض
والاستهلاك وشهوة الامتلاك هو تلك اللحظة
الأولى للمعرفة الحجرية ذاتها، فيهطل الدم
ويسيل أنهارًا على الأرض بعدما توقفت السماء
عن إرسال نيازك مائها النقية هدايا لبحارنا. أمام هذا الواقع
المؤلم، لا نستغرب
تلك الدعوات المتشنجة التي لا تفتأ تتكرر في
كلِّ مناسبة: النظر إلى الثقافة الرفيعة وإلى
الفنون الراقية وإلى ما يمتُّ إلى الإبداعات
الروحانية بارتياب وحذر وتشكيك. فهي (أي هذه
الدعوات) منسجمة
مع سياق معيشها الاستعراضي، المبتور بترًا عن
الذاكرة والمعرفة والحقيقة التي باتت
سرًّا في السرِّ السحيق. * نحن اليوم أمام
مواجهة عارمة مع أنماط قيمية ينتجها "آخرون"،
تكثَّفتْ لديهم جينات تجربة القتل الأولى،
غير معنيين بالحقيقة وبما
تخلقه من قيم وأخلاق وروحانية. وقد أمست وسائل
تسويقهم كاسحة على المستوى
الكوني، يساعد على ذلك انتشار مفاهيم وثقافة
الإسفاف بالطبيعة الإنسانية والسطحية
المعرفية والروحية، ومفاهيم استنفاد أقصى
طاقات إرادة "الفرد" لبلوغ أهداف
النُّظُم الإدارية
والمؤسَّساتية، واستنفاد عطائه الإنساني
الخلاق للطبيعة عبر وسائل الاتصال الحديثة
التي أمست تحتل الحيِّز الأكبر من العقل
البشري والحياة المعاصرة في معظم أنحاء كرتنا
الأرضية، عبر سلسلة أدلجات وتدجينات، متغيرة
الأقنعة والتسميات. وهذه وغيرها من شأنها
مضاعفة حجم المسؤولية الملقاة على حلم معابر،
ذات الخطاب المغاير لسوق
الإنتاج الثقافي السائد، التي تقف اليوم وهي
تعلن، بشيء من الخجل، صعوبة الدرب،
رغم مشاقِّ دروب التمويل، الذي لا يمكن أن
يأتي على ظهر حصان أبيض مجنَّح ما لم تتوفر
شروط تحقيق الحلم. * الإعلان الذي يمرُّ
خجولاً أمام أنظارنا وسط الافتتاحية
النيسانية، وعبر صفحات معابر – وقد
لاحظتُه منذ أشهر طويلة – يذكِّرني بأعزِّ
الأصوات عندي، وهي تشدو بحزن فيروزي جليل: "لا
تندهي... ما في حدا... لا تندهي..." أخشى
على
معابر من هذا، وأنا أقلِّب لعبة صناعة
الإعلان والترويج ومآسي التمويل. والأكثر مأساة
يكمن في جموع المتلقِّين وجماهيرهم الذين
فقدوا اليوم اسم الإنسان في أبجديات الحياة المعاصرة،
وقد انسلَّ اسمُه من ثقوب غربال الألقاب، حتى
في المؤسَّسات ذات الصبغة الإنسانية،
وبات يحمل لقب "مستهلك"! * جوهر لعبة الصناعة
الإعلانية المستجدة
– القديمة تاريخيًّا، لكن تغوُّلها اليوم
وتحوُّلها إلى شكل معرفي بات قوة ضارية – لم
يعد يقتصر على الجانب التضليلي المعروف،
المستند إلى نظرية استنفاد كافة الوسائل الممكنة
وغير الممكنة لمنتَج معيَّن أو سلعة ما،
بغضِّ النظر عن انطباق الشروط والمقاييس. إذ لا
بدَّ من فعل التأثير على "المستهلِك"
اليوم ("الإنسان" بالأمس)، وخلق
اجتياحات وهم
الاحتياج. وبالتالي، اعتدنا على مفردات مبالغ
فيها، مثل "ساحر" و"فتَّان" و"فتَّاك"
و"يخلب العقول والألباب" و"مقرمش" و"مدندش"
وغيرها من الألفاظ، ناهيكم عن الصور غير الواقعية، في
تناقض معرفي علمي مرعب، قائم على الكذب بين
المُنْتَج وبين حقيقة الأمر. لقد وصلت المأساة إلى
حدِّ توظيف المراكز البحثية للخروج بنتائج
تُطابِق مصلحة تسويق السلعة، إضافة إلى
استغلال الصور والرموز الأدبية والفنية
العالمية واستغلال أعمال خالدة، كلوحات فان
غوخ والجوكوندا، التي تغمز لنا في إحدى
الإعلانات، منافِسةً غمزة
سميرة توفيق الشهيرة التي كانت تطيح برؤوس
أعتى الذكور العرب في ستينيات
وسبعينيات القرن العشرين! ربما لا يهم
الكثيرين منَّا، لا من قريب ولا من بعيد، ظهور
الزعيم غورباتشوف في إعلان البيتزا الشهيرة؛
لكن المأساة تكمن فيمن يمتلك معرفة
علمية وثقافية ما، فيجيِّرها لمكانة التسويق
والترويج والإعلانات وقيمها، على
أنها باتت اليوم ذاكرة الشعوب، بل "الفن
الثامن"! ويروح مَن يروح، دون أدنى
وازع من مسؤولية أو ضمير، للتنظير يلوي عنق
الحقائق، فتتحول إلى نظريات معرفية قابلة للإقناع،
فتدخل مساقات كلِّيات جامعات العالم التي
تدرِّس الإعلام والميديا الحديثة اليوم! * آلاف مؤلَّفة من
الدارسين والمتشرِّبين أكاذيب وتلفيقات
معرفية باتوا
عاملين في أخطر وسائل التأثير الجماهيري
اليوم. بهذا المعنى، ستكون مرحلة ما بعد
الحداثة، بعد هذه التحولات الساحقة، مكرَّسة
لصناعة بشر بمواصفات معينة؛ مما يخلق الآن – وسيزيد
خلقًا – هزة في الوجدان الجمعي، ولخبطة في
جهاز الاستقبال الذهني والعصبي، لصالح الاغتراب
والأنانية المفرطة والوهم والمزيد من العزلة. فمن المؤسف أن البقاء
الظاهر اليوم هو لكرة ثلج تهوي بنا من أعلى
الجبل صوب المنحدر. وعلى ما يبدو، لا الثلج
من مائنا، ولا المنحدر في أرضنا! نعم، تبدو الرحلة
شاقة أمام الاحتياج الملح
إلى إبحار متواصل في عوالم ترفض منطق
الانسياق والانصياع، وتنبذ الاطمئنان ليقين
الأجوبة العمياء التي قذفوها في وجهنا
كمسلَّمات في عصور التهافت وأزمنته: الحياة ليست
سوى رغبة البقاء، حتى في الظلِّ المؤقت. ولذلك
يصير التساؤل مشروعًا: -
هل ثمة وسيلة
وحدود ما بين الإعلان والتمويل، من جهة،
والثقافة الجادة المعمَّقة
المستقلة، من جهة أخرى؟ -
كيف نساهم،
كمتلقِّين، في الإبقاء على ما هو ممسك بما
نروم إليه من سرِّ الوجود، وفي حماية ما تبقى
من إنسانيتنا بدعم معابر؟ سؤالان أتركهما لكم
كمحاولة للنبش عن دروب في زمن ما بعد الحداثة،
لكي تبقى معابر "تعبُر" جُدُرنا صوب
الحقيقة التي ننشد. وصباحاتكم ومساءاتكم
جميلة – رغم أنف كلِّ شيء! *** *** ***
|
|
|