فيض الكتابة

 

أميمة الخش*

 

عندما أمسكتُ بالقلم عن تصميم قاطع على "الكتابة"، كنتُ أحسُّ – وإنْ بطريقة غير واعية – أنني اتخذتُ هذا القرار منذ زمن بعيد لا أذكره. كلُّ ما أذكر هو أنني، مذ بدأتُ أعي الأشياء من حولي، كان إحساسي ينمو بطريقة متفرِّدة، وكنتُ أعرف تمامًا، وأنا أستقبلُ في داخلي باكرًا تلاوين الحياة، أن هذا الإحساس يتحول تدريجيًّا إلى حساسية مفرطة، تجعلني أتماهى مع الحالات والأفكار، في حالة تكادُ تلامسُ الوَجْد.

أستعينُ دائمًا، في أثناء الكتابة، بموسيقى كلاسيكية هادئة، تعيد تشكيل الجوِّ من حولي وتنقِّيه، حيث تختلط أنغامُها مع الأفكار التي تجولُ في ذهني، بخطًى وئيدةٍ في البداية، ثم تتسارع مع مرور الوقت، الذي يصبح محايدًا وهامشيًّا؛ وتختارُ طائفةٌ منها أجنحةَ خيالي – الحاضر دائمًا – لتَرْكَبَه، محلِّقة في أجواء رحبة، وسيعة.

في تلك الساعة أنفصلُ عمَّا حولي. الأشياءُ والأصواتُ تقفُ كلُّها على حدود دائرة الداخل، الذي تبدأ محتوياتُه تمورُ في عالمها الخاص، حيث أبدأ أسمعُ الأصوات، وأرى الوجوه والأشكال والأمكنة والأزمنة كما تنطلق من الأعماق، وقد امتزجتْ وتفاعلتْ مع سائر المشاعر والأحاسيس التي تفيض بكلِّ التلاوين، وتنعكس على حالتي النفسية والجسمانية.

حين أنوي كتابةَ رواية، أعيشُ حالةً قصوى من القلق الجميل، أحلِّق من خلاله عاليًا، وألتصق بالأرض أيضًا حتى الالتحام. وأنا بين هاتين الحالتين، أمدُّ أناملَ ذاتي، متلمِّسةً هنا وهناك شيئًا منبثقًا أصلاً من كوَّةٍ في داخلي، عن غير علم منِّي. أظلُّ في حالة الغليان هذه شهورًا.

وفي لحظة لا أتوقَّعها، تطلُّ عليَّ الفكرة كوجهِ قمرٍ من خلف غيمة. أراه ولا أراه! أغيِّر موقعي، أؤخِّر الزمن أو أقدِّمه، وتبقى الرؤية غائمة.

تظلُّ المحاولات مستمرةً زمنًا لا أحسبه. في غضون هذا الزمن يَرهفُ سمعي ليصلَ إلى التقاط ما لا يُسمَع، ويقوى نظري لينفذ إلى ما وراء المُشَاهَد، وتزدادُ حساسيتي لتبلغَ رهافةً قصوى، بينما تمتلئ نفسي بفيضٍ يمكن له أن يغمرَ ما حوله.

هنا يبدأ فكري بنسج الخيوط، خيطًا خيطًا، كعنكبوت يغزلُ نسيجه، بتؤدة ورَوِيَّة. وحين تهبُّ من أعماقي ريحُ الخَلْق، تبدأ الغيمة بالتلاشي، ويبدو وجهُ القمر جليًّا واضحًا.

تبدأ الخطوات الأولى، وهي إدخالُ الفكرة إلى الداخل لمعالجتها ومناقشتها، وتوضيح أبعادها، والتفكُّر في الرؤيا التي تطرحها، لتطابقَ من خلالها الواقعَ المَعيش. وهذا هو الأمرُ الأهم في نظري. في هذا العمل يشتركُ فكري ونفسي، ويتناوبان في حوار طويل يتصفُ بالهدوء والسكينة حينًا، وبالغليان حينًا آخر. ومع نهاية هذا الحوار، يبدأ رسم الشخصيات وأدوارها وفعالياتها، مترافقًا مع رسم الزمان والمكان.

حين أبدأ بإمساك القلم للمرة الأولى أحسُّ بالرهبة وبالمسؤولية. أدوِّنُ كلَّ ملاحظاتي وأفكاري حول الشخصيات: الرئيسية، أولاً، والثانوية، ثانيًا؛ وأتركُ البابَ مفتوحًا لشخصيات ثانوية أخرى يمكن لها أن تحضر في أثناء سير الأحداث.

أحيطُ الشخصيةَ بمكانها وبزمانها، دون أن أقيِّدها بهما تمامًا، لأنني أريدُها مسبقًا شخصيةً إنسانيةً تَصلحُ لكلِّ زمان ومكان. وحين يكتملُ الهيكلُ الذي أريده على صفحات، أحتفظ بها كمرجع دائم يكون قابلاً للتعديل والحذف والإضافة، أبدأ بكتابة فصول الرواية.

ينقسم الفَصْلُ في ذهني إلى مَشاهد متعددة، فأبدأ بالعمل على كلِّ مشهد على حدة. وفي المشهد الواحد تتفرع وتحضر تفاصيلُ قد لا أكون فكَّرت بها مسبقًا، تستدعيها ضرورة الأحداث.

في أثناء انشغالي بكتابة الرواية، لا أكتبُ على الورق فقط، بل أكتبُ في رأسي أيضًا، وفي كلِّ الأوقات التي تومضُ فيها الفكرة. وكثيرًا ما يفوتني تدوينُ فكرة أو مقطع يحضرني فجأة، وأنا بعيدة عن متناول الورقة والقلم، فأشعرُ بالأسف وبالضيق.

أتوفر، في أثناء فترة الكتابة، على قراءات متعددة ومتنوعة، تُغني فكري وتساعده على طرح فكرة الرواية ومعالجتها بطريقة أكثر عمقًا وشمولية. وكثيرًا ما أتحقَّق من صحة تواريخ معينة وأحداث جرتْ على أرض الواقع.

وكثيرًا ما تَسْتَحضِرُ أحداثُ الحاضرِ الماضيَ من غفوته، فيطفو على شبكة الذاكرة، ويدخل في سياق الحدث، واضعًا أحماله المختلفةَ الأشكالِ والأوزانِ في زوايا الأمكنة والأزمنة. من هذه الزوايا تنهضُ الخبايا والموروثات والأماني الغافية لتلبسَ أقمصة جديدة تليق بروح الفكرة المطروحة.

وقد تحضرني، في أثناء الكتابة، فكرةُ تعديل أُجْريها على حدث ما، أو على حركة إحدى الشخصيات في منعطف من المنعطفات، ويكون هذا ضروريًّا لإيضاح الفكرة. أما النهايات فغالبًا ما أتركها تأتي وحدها في الوقت المناسب، وأفضِّلها مفتوحةً على احتمالات يتصورها خيالُ القارئ.

عندما أكتب، أفكِّر مليًّا في المعنى الذي أريد أن أضمِّنه جُمَلي وعباراتي، حتى يبلغ بي التفكير حدًّا لا أستطيع تخطِّيه، فأغيب عن نفسي، ويندغم فكري في الحالة التي أعيشها. وهذه الحالة من الامتلاء تمنحني شعورًا هائلاً بالسكينة؛ وكأني، حين أمسكُ بالقلم، أنطلقُ إلى عوالم بلا حدود هي هواء الحرية.

أحيانًا تتحرك أصابعي بالقلم من غير ما دراية مني. تأتيني الصور والألفاظ تلقائيًّا، وكأنها تُملى عليَّ إملاءً. وأحيانًا كثيرة، أعود إلى مقاطع كتبتُها، فأتساءل إنْ كنت أنا التي كتبتْها فعلاً، وكيف كتبتُها، ومتى. وأدرك أني لن أستطيع إعادة صوغها كما جاءت في وقتها.

لا يختلف الأمر في كتابة القصة القصيرة إلا في كيفية تناوُل الموضوع، حيث تُخْتَصَرُ هنا الشخصيات والأحداث، وتُختزَل الأمكنة والأزمنة، بما يتناسب مع الفكرة المطروحة، التي قد تكون أحيانًا لقطة أو خاطرة.

القصة القصيرة نَقْلُ حالة وجدانية تماهيتُ فيها تمامًا مع حَدَثٍ معيَّن رأيتُه أو سمعتُ به أو عايشتُه. شخصياتها قليلة ومعدودة وأحداثها مختصرة. أهمُّ ما فيها هو التعبير عن الفكرة بأفضل أسلوب. في حين تقوم الرواية على عالم غني متشابك بأحداثه وشخصياته.

عندما أكتب هذا النوع من الأدب تظلُّ الفكرة في ذهني أسابيع، وأحيانًا أشهرًا. وحين تختمر تخرج مباشرة خلال أيام معدودات، وقليلاً ما تحتاج إلى إعادة تصحيح أو تنقيح. وأحسُّ وأنا أكتبها بأني أتلقَّى الكلمات من عالم لا أعرفه، لكني أحسُّ به في داخلي تمامًا.

في كتابتي لنوعَي الأدب هذين – الرواية والقصة القصيرة – أتناول أبعادًا مختلفة: فهناك دائمًا بُعْدٌ تربوي ثقافي، يتعلق بالتهذيب الأخلاقي للإنسان، وضرورة تحقيق الانسجام بين فكره وسلوكه.

وهناك بُعْدٌ اجتماعي ينحو إلى تجاوز الموروث من وجهه السلبي الذي يَحُوْلُ دون تفتُّح الوعي واتِّصاف الإنسان بثقافة شمولية، ويُحَوِّل المجتمع إلى بنية قبائلية متناحرة الأطراف.

وهناك بُعْدٌ سياسي يعالج فكرة أن الإنسان ليس معزولاً عن غيره ولا يعيش في جزيرة نائية: فالإنسان معنيٌّ بكلِّ ما يحدث في مجتمعه وفي العالم أجمع، لأنه يشارك فيه ويتأثر به.

بطلي هو الإنسان الذي يتمتَّع بحساسية أخلاقية عالية، تجعله يثور أمام كلِّ ظلم يقع عليه وعلى الآخرين، وبخاصة على أولئك الذين تربطه بهم وشائجُ الوعي الثقافي المشترك أو الذاكرة المشتركة. وهو يسعى لوضع إمكانياته من أجل ترجيح كفة العقل والعدالة، بحسب دوره في مجتمعه.

أما البُعْدُ النفسي أو الفلسفي الذي يتميَّز به أدبي فهو التحقُّق الفردي للإنسان وتفتُّح وعيه. إنني أرصد هذا التفتُّح من خلال تطور أبطال رواياتي وقصصي.

تتلخَّص رؤيتي في أنَّ في الإنسان قوًى كامنة، إنْ هو عمل على تفتُّحها ازداد تطورًا إنسانيًّا وفهمًا لأسرار الحياة والموت ولأصل الوجود والمصدر والمآل.

هذا الفهم النافذ للأسرار الكبرى هو الذي يجعل المرء يطرح قضايا الحقِّ والخير والعدالة، وهو الذي يجعله يناضل من أجل تحقيقها في وطنه ومجتمعه الذي هو الحقل المباشر لهذا التحقيق.

التوق إلى المعرفة وتلمُّس الحقيقة هو الذي يحرِّك أبطالي دائمًا. وكلُّ اختبار يخوضونه يدفعهم نحو بوابة النور، ويُلهِبُ الشعلة الإنسانية في داخلهم، ويُبقي الطريق مفتوحًا دائمًا لاقتبال كلِّ ما تقدِّمه لهم الحياة.

البطل الرئيسي في رواياتي إنسانٌ مستقبلي، يجسِّد فلسفة معينة، ويطرح، من خلال قوله وفعله، رؤيا معينة نحن أحوج ما نكون إليها في وقتنا الحاضر الذي نتخبَّط فيه في خضمِّ تيارات مختلفة الاتجاهات. هو شمولي التفكير والثقافة، ومتجذِّر في أرضه في الوقت نفسه؛ يعمل لخير الإنسانية منطلقًا من تراب وطنه وهموم مجتمعه.

المرأة، التي هي البطلة الرئيسية الأولى في رواياتي خاصةً، هي المحرِّك وهي الأصل. خلاقة، فاعلة – حتى وهي في أوْجِ ضعفها. تقف إلى جانب بطلها دائمًا وتدفعه. هي المشارِكة التي تأخذ وتعطي، لكنها المتفوِّقة في العطاء، حتى ليبدو في النهاية أنها هي التي كانت تتقدَّم على البطل منذ البداية. إنها تحمل في داخلها الحدس والحكمة. ويقوم دورُها على إعادة توازن الأشياء إلى نصابه – كما الطبيعة، كما الأرض، كما التناغم في النظام الكوني العظيم.

الشخصيات الأخرى تتفاوت بين شخصيات ثانوية أساسية وأخرى تبدو هامشية، لكنها تخدم المتن وتكمِّله. وهي تتراوح بين السلب والإيجاب. وقد تَجْمَعُ بعضُ الشخصيات الصفتين معًا. وهي في هذا إنما تمثِّل ألوان الحياة المتعددة.

أحسُّ في كتاباتي أنني لا أستطيع أن أنفصل عن هموم مجتمعي، وأتعجَّب حين أقرأ لأدباء يغرقون في تشكيلات نفسانية، ذاتية صرفة، لا علاقة لها بزخم الحياة الشامل.

الإنسان هو المحور الذي يصنع الحياة والمستقبل. وإذا انكفأ على ذاته وخرج من دائرة الحياة خَسِرَه المجتمع وخسرتْه الحياة – فكيف بالأديب الذي هو صاحب رسالة في الأصل؟!

فلتكن رسالة الأدب واسعة وشاملة، ولنتحرَّرْ في أدبنا من الذاتية والتقوقع. فالعمل الأدبي مفيد بأبعاده الجمالية، مفيد بأبعاده الفكرية والأخلاقية، مفيد بأبعاده الإنسانية، لأنه لغة مشتركة بين البشر. فلنعمل على تطويره وإغنائه.

*** *** ***

تنضيد: دارين أحمد


* كاتبة سورية من كتَّاب معابر الدائمين؛ لها مجموعتان قصصيتان هما: انعتاق والرشيم، وثلاث روايات هي: دعوة إلى الرقص، زهرة اللوتس والتوق، بالإضافة إلى رواية رابعة تحت الطبع بعنوان خط الأفق. (المحرَّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود