جوارٍ وذهب ورؤوس مقطوعة...

باسم الإسلام!

 

محمد علي الأتاسي

 

"إن المسلمين ضيَّعوا دينهم، واشتغلوا بالألفاظ وخدمتها، وتركوا كلَّ ما فيه من المحاسن والفضائل، ولم يبقَ عندهم شيء. هذه الصلاة التي يصلونها لا ينظر الله إليها ولا يقبل منها ركعة واحدة؛ حركات كحركات القرود، وألفاظ لا يعقلون لها معنى. لا يخطر ببال أحدهم أنه يخاطب الله تعالى ويناجيه بكلامه، ويسبِّح بحمده، ويعترف بربوبيَّته، ويطلب منه الهداية والمعونة دون غيره... سألني المستر براون: مَن أكثر الناس جناية على القرآن؟ فقلت: ذووه وأصحابه!"

الإمام محمد عبده

الأعمال الكاملة، الجزء الثالث، ص 194-5

 

غَلَبَ على معظم المقالات الصحافية التي تناولتْ صور قطع رأس الرهينة الأمريكي نيكولاس برغ المقارنةُ التي عقدتْها بين هذه الصور وصور تعذيب السجناء العراقيين في سجن أبو غريب. المقارنة هنا تستقيم، ليس لجهة أن المجموعة التي نفَّذتْ عملية الإعدام اعتبرتْ قتل الرهينة "غضبًا لدين الله وثأرًا لأعراض المسلمين والمسلمات في سجون الصليبيين"، ولكن لجهة الهمجية لدى الطرفين في استباحة جسد الآخر ونزع الطابع الإنساني عنه؛ وأيضًا لجهة آلية عمل الصور في صنع الحدث وفضحه واستثماره: لا حدث بدون صورة! لقد قيل الكثير في إدانة جرائم الحرب التي ارتكبها المحتل الأمريكي في سجن أبو غريب؛ فلن نزيد في الإدانة، وإن كان هناك الكثير مما يمكن له أن يضاف في هذا المجال. فما نبغيه في هذا المقال هو عقد مقارنة بين ثلاث حالات شهدها شهر نيسان 2004، وتخصُّنا نحن العرب والمسلمين، بسبب الاستخدام المجحف للخطاب الديني في الدعوة إلى القتل والعبودية... نعم، العبودية!

ففي بداية شهر أيار، قام رجل الدين عبد الستار البهادلي – وهو من أتباع مقتدى الصدر –، في أثناء خطبة الجمعة التي ألقاها على آلاف المصلين في مدينة البصرة، بعرض مكافأة قدرها 250 ألف دينار عراقي (170 دولارًا أمريكيًّا) لأيِّ عراقي يأسر مجندة بريطانية، وقال إنها ستُعامَل كجارية إذا ما تمَّ تسليمها للزعماء الدينيين؛ كما وَعَدَ الإمام عبد الستار البهادلي بتقديم مكافآت لمن يقبض على أعضاء من مجلس الحكم الانتقالي في العراق.

في الفترة ذاتها، نشر موقع إسلامي مقرَّب من تنظيم "القاعدة" رسالة نسبها إلى زعيمه أسامة بن لادن، الذي وعد بمكافأة قدرها عشرة كيلوغرامات من الذهب لمن يقتل الحاكم المدني الأمريكي في العراق بول بريمر، أو الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، أو مبعوثه الخاص في العراق الأخضر الإبرهيمي.

أخيرًا، أطلَّتْ علينا شاشات التلفزة بشريط مصوَّر بثَّه موقع "أنصار الإسلام" على الإنترنت، يظهر فيه خمسة رجال ملثَّمين في مواجهة الكاميرا، وأمامهم يجلس القرفصاء شاب أمريكي، مديرًا ظهره لهم، ويداه موثقتان إلى الخلف، وهو يرتدي ثوبًا برتقالي اللون شبيهًا بملابس سجناء معسكر غوانتانامو. في البداية يعرِّف الشاب عن نفسه بصوت متهدج ويقول: "اسمي نيكولاس برغ، اسم والدي مايكل، اسم والدتي سوزان... لي أخ وأخت، ديفيد وسارة. أقيم في فيلادلفيا." يتلو بعدها أحد الملثمين (قيل إنه أبو مصعب الزرقاوي) بيانًا جاء في أحد مقاطعه الآتي: "كيف ينام المسلم الحرُّ ملء عينيه وهو يرى الإسلام يُذبَح، ويرى نزيف الكرامة وصور العار وأخبار الامتهان الشيطاني لأهل الإسلام، رجالاً ونساءً، في سجن أبي غريب؟! فأين الغيرة، وأين الحمية، وأين الغضب لدين الله، وأين الغيرة على حرمات المسلمين، وأين الثأر لأعراض المسلمين والمسلمات في سجن الصليبيين؟! لقد أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) – وهو سيد الرحماء – بضرب أعناق بعض أسرى بدر وقتلهم صبرًا – ولنا فيه أسوة وقدوة حسنة." فجأة ينتهي البيان، وعلى إيقاع صيحات "الله أكبر!" يُخرِجُ الملثَّم خلسة من ثيابه خنجرًا طويلاً، ويمسك بشعر الشاب أمامه، ويطرحه أرضًا، ويبدأ بحزِّ عنقه، في الوقت الذي يجهد فيه رفاقُه في تثبيت الرهينة المتلوِّية كما تُثبَّت الشاةُ لحظة الذبح. وما هي إلا ثوانٍ حتى يرتفع الرأس المقطوع في يد الملثَّم، ملوِّحًا به أمام الكاميرا!

لن نسأل هنا: كيف ينام المسلم الحرُّ وهو يرى هذه الجريمة الفظيعة تُرتكَب باسم الإسلام؟ فسرعان ما سترتفع الأصوات المحقة قائلة بأن الإسلام من هذه الجريمة براء؛ كما أنه براء من ذلك الإمام الذي يريد أن يعيدنا إلى عصر الجواري والإماء؛ وبراء أيضًا من النهج التكفيري لابن لادن وصحبه. لا شكَّ في أن الإسلام – كدين – غير مسؤول عن هذه الجرائم، وأن هناك، في الدرجة الأولى، الكثير من الدوافع السياسية والاجتماعية والسلطوية التي تقف وراء هذه الأفعال والأقوال. لكن السؤال الذي نريد طرحه عبر هذه الأمثلة الثلاثة هو الآتي: ما هي مسؤولية الفقه الإسلامي السائد اليوم في تمكين هؤلاء الناس من التلطِّي وراء الإسلام واستخدامه لتبرير أفعالهم وأقوالهم الآنفة الذكر؟

لنتمعَّن، أولاً، في العلاقة اللاتاريخية التي تربط حاضر هؤلاء الناس بالماضي المتخيَّل والمستعاد كلحظة تأسيسية، يبدأ عندها التاريخ وينتهي. سبائك ذهب وجاريات وأعناق مقطوعة في مواجهة طغيان المحتل! انزياح لغوي وسيميولوجي كامل، وقياس فقهي للأصل على الفرع وللغائب على الشاهد. لغة مستعادة من القرون السحيقة، لا كألفاظ فقط، ولكن كدلالات ومعانٍ أيضًا. ابن لادن يتكلَّم على "فسطاط الإيمان" و"فسطاط الكفر" وعن "غزوة"11 أيلول وعن إباحة دم النصارى واليهود، وينأى أخيرًا بلغته عن استخدام ألفاظ العملات المتداولة، ويستعيض عنها بأوزان الذهب ترغيبًا لأتباعه بقتل كوفي أنان والأخضر الإبرهيمي. الأسيرات البريطانيات يُراد لهنَّ أن يتحولن إلى جوارٍ في بلاط رجال الدين في القرن الحادي والعشرين! أما سجون المحتلين فتغدو سجونًا للصليبيين! ويأتي قطع رأس الرهينة تيمُّنًا بالنبي، كما يدَّعي أصحاب البيان!

ولنوسِّع، ثانيًا، باب المقارنة – وليسامحنا البعض إذا بدا منَّا إجحاف. لكن أليس هذا الانزياح اللغوي وهذه الرؤية اللاتاريخية يستندان إلى بنية في التفكير تتقاطع، على المستوى المعرفي، مع الفقه الإسلامي السائد اليوم؟ فإذا كان الإسلام صالحًا لكلِّ زمان ومكان – وهذا في أساس أيِّ دين – فلماذا يدفعنا هذا المبدأ إلى إسقاط 14 قرنًا من التجربة المعيشة، في إصرار عنيد ولاتاريخي، قائم بالدرجة الأولى على وهم امتلاك حقيقة الفترة التأسيسية الأولى، نازعين عنها كلَّ هذه القرون الحافلة بالخيبات والآمال، الحافلة بالانشقاقات من "ملل ونحل"، والحافلة بكتب التفسير والأحاديث المتعارضة والمتناقضة؟!

يفتح المؤمن المصحف الشريف ويقرأ، متصورًا أن الله يخاطبه بلغة اليوم وبمصطلحات اليوم وبمنطق اليوم، متناسيًا أن معاني الكلمات ودلالاتها تتبدل بتبدل الأزمنة والأمكنة، وأن اللغة العربية صَنَعَها البشر قبل زمن الوحي، واستمروا في صنعها من بعده، وأن الله أكبر من أن تحتويه تفاسير وتصورات – فكيف إذا كان هذا الكتاب "حمَّال أوجُه"؟!

يفتح المؤمن المصحف الشريف ويقرأ، متخيلاً أن معاني الفترة التأسيسية الأولى ورهاناتها هي ملك يديه من خلال أطنان كتب التفاسير التي كتبها بشر مثله، دشَّنوها في عصر التدوين، ولا يزالون فيها مستمرين على المنهج والبنية المعرفية عينهما.

يفتح المؤمن المصحف الشريف ويقرأ، فيفهم من "وأمرهم شورى بينهم" أن الشورى هي الديموقراطية بلغة اليوم، وأن كلمة "حزب الله" التي وردت مرتين في القرآن تدل على الأحزاب السياسية كما نفهمها اليوم، وأن حاكمية الله معناها الحكومة الإسلامية، وأن كلمتي "الشعب" و"الأمة"، كما وردتا في القرآن، تحملان المعاني والدلالات المتعارَف عليها اليوم. تعترض المؤمن، في حياته الراهنة، كلمات مستحدثة، من مثل: "دستور"، "انتخابات"، "اقتراع"، "مساواة"، "اشتراكية"، فييمِّم وجهه وعقله شطر القرآن، باحثًا عن معانٍ ودلالات تخص هذه الكلمات.

يفتح المؤمن المصحف الشريف ويقرأ، فيخيل إليه أن آية السيف من سورة التوبة التي تقول: "فإذا انسلخ الأشهر الحُرُم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم واحصروهم واقعدوا لهم كلَّ مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم"، معناها قتل المشركين أينما وُجِدوا وتحليل دمهم. ينسى المؤمن أن هذه الآية أتت في ظروف تاريخية خاصة – وكيف له أن لا يفعل؟ – مادام الفقه الكلاسيكي قد أجاز لنفسه نسخ، وإلغاء، عشرات الآيات القرآنية التي تدعو إلى "لا إكراه في الدين"، بحجة المبدأ البشري جدًّا، والمجحف جدًّا، الذي اسمه "الناسخ والمنسوخ". فكلُّ الآيات التي تدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة من مثل: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"؛ "لا إكراه في الدين فقد تبيَّن الرشد من الغي"؛ "ولو شاء ربك لآمن مَن في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين"؛ "ولا تسبُّوا الذين يدعون من دون الله فيسبُّوا الله عدوًّا بغير علم" – نعم، هذه الآيات كلها هي، في الفقه التقليدي، آيات منسوخة، تُقرأ فقط ولا يؤخذ بها؛ آيات قرآنية نَسَخَها بشرٌ من مثلنا بآية السيف من سورة التوبة. فكيف لنا أن نستغرب بعد ذلك أن يأتي ابن لادن ليستشهد بهذه الآية، مبررًا جرائمه بقتل الأبرياء، ومحلِّلاً ما حرَّم الله من قتل النفس البشرية بغير حق؟!

يفتح المؤمن المصحف الشريف ويقرأ، فتعترضه كلماتٌ ومعانٍ من زمن الوحي تخص الإماء، وملك اليمين، وقوامة الرجال على النساء، وضرب النساء وهجرهنَّ في المضاجع إذا خاف الأزواج نشوزهنَّ، فيُخيَّل إليه أن المعاني والدلالات السائدة اليوم في تفسير هذه الآيات صالحة لكلِّ زمان ومكان. ويغيب عن المؤمن أن الفقه الإسلامي لم يتجرأ، مثلاً، على إلغاء الرق على مدى 14 قرنًا، وإنما جاء إلغاؤه في البلدان العربية والإسلامية بقرارات سياسية، اتُّخِذَ بعضُها في النصف الأول من القرن العشرين،[1] في حين لا يزال فقه الرقيق، إلى اليوم، جزءًا من الفقه الإسلامي، يدرَّس في مدارس الشريعة، ويعجز رجال الدين عن إلغائه لوجود نصوص قرآنية صريحة تخصه (وَرَدَ أكثر من 15 مرة في القرآن). وهناك كتب حديثة تخصِّص حيزًا واسعًا لأحكام الرق؛ وبالتالي يجب إبقاؤه في نظر الفقهاء لأنه جزء من الدين، ولأن عصر الرقيق قد يعود في يوم من الأيام! فالفقهاء يعتبرون، بحسب محمد شحرور، أن النبي تكلَّم على الرق وأوضح أحكامه؛ وبالتالي، فهذا جزء من الدين. ولكنهم يتناسون أن ما حدث في عهد النبي هو بداية لتحرير الرق ولكنه ليس تحريرًا للرق. إنهم يعتبرون أن ما حصل في ذلك الزمن هو البداية والنهاية.[2] تُرى هل نأتي بجديد إذا ذكرنا، مع نصر حامد أبو زيد، أن ألوهة القرآن لا تمنع من القول إنه

نزل في التاريخ، وهو يتفاعل مع التاريخ تفاعلاً حرًّا، وسيستمر عمله في التاريخ. القرآن يحمل ملامح القرن السابع الميلادي، ليس فقط في الجزيرة العربية، ولكن في الجزيرة وموقعها من العالم في ذلك الزمن (الروم والفرس). القرآن يدل على الحياة التجارية في مكة، ويدل على أديان ما قبل الإسلام، ويعكس لنا حالة التاريخ قبل نزوله ولحظة هذا النزول.

نعم، إن تاريخية النص القرآني لا تعني إنكارًا لألوهيته، ولا تعني زمنيَّته، لكنها تعني، بحسب أبو زيد، أن[3]

هناك أجزاء منه [...] أصبحت شاهدًا تاريخيًّا؛ أي أنها خرجت من مجال الدلالة الحية المباشرة إلى مجال الشاهد التاريخي. مثال ذلك تحوُّل آيات الرقِّ والأحكام المتعلقة بها إلى آيات للعبرة بعد زوال نظام الرقِّ من حياتنا.

يصرخ المسلمون اليوم بالويل والثبور، وتقوم الدنيا ولا تقعد، إذا لاح لهم أن عارضة أزياء جاهلة ارتدت ثوبًا بدا لبعضهم أنه يحمل في ثناياه آيات قرآنية؛ ويقعدون في بيوتهم، عاجزين خانعين، إذا ما أُقحِمَ اسمُ نبيِّهم وآيات الذكر الحكيم في مَسْرَحَة جريمة قتل بقطع الرأس على مرأى ومسمع من العالم أجمع.

أفما حان الوقت لنغضب لدين الله بغير غضبة ابن لادن وقتلة الشاب الأمريكي نيكولاس برغ وإمام الجواري البريطانيات؟! نغضب بتحرير عقولنا من الإكراهات، وتحرير قرآننا من أقفاص الإيديولوجيات، وتحرير إيماننا من الشكليات. وإذا كنَّا لا نغضب بعقلنا وبحثنا واجتهادنا، فلأن إيماننا ضعيف، ولغتنا متخشِّبة، وكتب فقهنا أكل الدهر عليها وشرب.

*** *** ***


[1] أُلغِيَ الرق في العربية السعودية في العام 1955.

[2] مقابلة أجريناها مع محمد شحرور، ونُشِرَتْ في ملحق النهار، 5 آب 2000.

[3] مقابلة أجريناها مع نصر حامد أبو زيد، ونُشِرَتْ في ملحق النهار، 13 تشرين الأول 2002، وفي معابر، الإصدار العاشر، باب "إضاءات".

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود