next previous

أبناء الأرملة

3-1

على أرضية الواقع

محاولة

أكرم أنطاكي

 

أنا الكرمة الحق وأبي هو الكرَّام. كلُّ غصن فيَّ لا يأتي بثمر ينزعه، وكلُّ غصن يأتي بثمر يقضِّبه ليأتي بثمر أكثر..."

إنجيل يوحنا، 15: 1-2

 

مقدمة

وأجدني، في النهاية، حائرًا، غير قادر على الحكم و/أو على اتخاذ موقف قطعي من هذا الموضوع الشائك المعقد، لأنه – ولست أخفي – ثمة جانب من هذه المؤسَّسة الإنسانية يجذبني إليه بشدَّة: وأخصُّ بالذكر هاهنا العمق الروحي والفلسفي والسرَّاني لتقاليدها ورمزيتها وطقوسها. كما أن ثمة، بالمقابل، جانبًا آخر ينفِّرني: وأخصُّ منه بالذكر، هاهنا أيضًا، واقعَ حالها المؤسف وتشعباته على أرضية انحطاطنا الإنساني القائم.

وما يجذبني يجعلني أتفهَّم، إلى حدٍّ كبير، لماذا استحوذت هذه الحركة وقتئذٍ على نخبة النخبة من إنسانيتنا واستقطبتْها – تلك العقول والنفوس العظيمة التي وجدت فيها الملاذ، وعن طريقها ومن خلالها، الوحي. لذا تراني اليوم، على الأقل من خلال الجاذب الذي يسحرني، أتلمَّس خطى عبد القادر الجزائري وجمال الدين الأفغاني، فأنقاد وراء ألحان الناي السحري لموتسارت، وأغوص في أعماق رمزية رونيه غينون وسرَّانية هيلينا بلافاتسكي، وأحلِّق في الآفاق الروحانية والإنسانية الرحبة والمذهلة لكلٍّ من ليف تولستوي ونيكوس كازانتزاكيس. ولكن...

واقع حالها القائم، المقرون بالمحدودية وبالسذاجة، وخاصةً – مع الأسف – بالنفعية المباشرة للكثير من أبنائها، يجعلني أتفهَّم، في المقابل أيضًا، بعض ما واجهتْه – ومازالت تواجهه – هذه الحركةُ من عداء وتشكيك، وخاصة من مؤسَّسات بشرية أخرى – بدءًا من المؤسَّسة الكنسية الكاثوليكية، مرورًا، إبان القرن الماضي، بالأممية الشيوعية وبعض رموز الفكر القومي، وصولاً إلى بعض الحكومات والمرجعيات القوَّامة على بلدانها في منطقتنا اليوم – وإن كانت هذه الأخيرة، أيضًا بحكم بشريتها، ليست – ولم تكن يومًا – أفضل منها حالاً!

وأعاود التفكير من جديد في مجمل ما عرفت وأعرف عنها، وفي مجمل ما قرأت حولها، فأجدني، بادئ ذي بدء، أمام ما قد يبدو لي وكأنه...

1

مشروع دين فلسفي جديد...

لأن "مهندس الكون الأعظم"، أو لنقُلْ "إله الماسون"، هو، مبدئيًّا وفي نهاية المطاف، إله عقل مُحكَم أكثر منه إله قلب، إن لم نقل إنه "إله فلاسفة".

كذلك فإن الماسونية لا تتبنى مبدئيًّا أيَّ دين محدَّد. وهذا ما يبدو جليًّا في نظر كلِّ من اطَّلع على "دساتيرها"، وبمجرد قراءة الأسطر الأولى من افتتاحية هذه الدساتير حيث جاء: "... رغم أنه في الأزمنة الغابرة كان إلزاميًّا، في أيِّ بلد، أن يعتنق الماسون دين ذاك البلد، أيًّا كان هذا الدين، فإننا نجد أنه من الأنسب عدم إلزامهم بأيِّ دين حصرًا، إنما ذاك الذي يتفق عليه جميع البشر، وأن يكون لهم مطلق الحرية فيما يتعلق الأمر بآرائهم الخاصة. بالتالي، يكفي أن يكونوا أناسًا طيبين ومخلصين، أناسًا أصحاب شرف ونزاهة، وذلك أية كانت الانتماءات الدينية أو القناعات التي تميِّزهم..."[1]. وبالتالي...

فإن هذا الأمر يضعنا، بشكل طبيعي، أمام مشروع أممي حاول – وربما مازال يحاول – وطمح – وربما مازال يطمح – أن يتجاوز المؤسَّسات الدينية (والمدنية) القائمة، سواء في البلدان التي نشأ وترعرع فيها و/أو بشكل عام؛ مشروع دعا – وربما مازال يدعو – إلى عقيدة يُفترَض أن يتفق عليها البشر، على اختلاف مشاربهم وأديانهم (وهذه أمور قد تسجَّل، من وجهة نظري، في نهاية المطاف، لصالحهم)...

مشروع آمن مؤسِّسوه وفلاسفته آنذاك – وربما مازالوا يؤمنون – بضرورته الملحَّة لأنه، كما عبَّر بكلِّ بلاغة بلانتاجينيه (متحدثًا عن الفنِّ الملكي)، يجب "... إعادة إحياء هذه الحكمة في هياكلنا، لأن كنائسنا التي دَّنست الأديان باطنيَّتها قد شوَّهتْ تعاليمها وحرَّفتْها..."[2]؛ الأمر الذي، إن لم تُفهَم منه – بالنسبة للموقف من الأديان والمؤسَّسات الدينية السائدة في أيِّ بلد – حياديةٌ دينيةٌ مطلوبة، فقد يفسَّر، إنْ تجاوزنا حرفية التعبير، على أنه تجاوزٌ للشرائع وعودة إلى جوهر مفترَض، لن يتفق عليه الجميع قطعًا. لذلك...

كان من الطبيعي أن تواجه هذه الحركة، منذ بداياتها، وفي الكثير من الأماكن حيث انتشرت (بدءًا من القارة الأوروبية، وصولاً إلى معظم بلداننا العربية ذات الغالبية الإسلامية المحافظة)، معارضةً قويةً من المؤسَّسات المدنية والدينية السائدة آنذاك.

ونبدأ بالكنيسة الكاثوليكية التي كانت، منذ اليوم الأول، العدوَّ الأساسي والأهم للحركة الماسونية، ولم تزل كذلك (على الأقل نظريًّا ونسبيًّا) إلى الآن. فنسجِّل للتذكير...

أنه في العام 1735، أصدر البابا كليمانت الثاني عشر فقاعة بعنوان In eminenti apostolatus specula ، أدان فيها، لأسباب مختلفة، من ضمنها "... [أسباب] أخرى نعرفها نحن، وهي في الوقت نفسه صحيحة ومنطقية..."، (أدان) التجمعات الماسونية التي "... تقبل في صفوفها، دون أيِّ تمييز، أشخاصًا من مختلف الأديان والمناحي، حيث، وراء ظاهر خلفية صالحة يتم القبول بموجبها، وُضِعَتْ أنظمةٌ تجمع فيما بينهم، وتجبرهم خاصة، تحت طائلة أقسى العقوبات، بالقَسَم على الكتب المقدسة، من أجل الحفاظ على سرٍّ لا يمكن البوح به، ويتعلق بما يجري في تجمعاتهم..."[3]. ثم تلاه في العام 1751 تأكيد البابا بونوا الرابع عشر، عبر فقاعته Providas، لإدانة سابقِه.

لكننا نلاحظ، في المقابل أيضًا، أن هذه الإدانات – التي بالإمكان تبريرها، من منظور الكنيسة طبعًا، من جراء ما يُفترَض أنه تشجيع الماسونية للميول الهرطقية و/أو لما يمكن أن تحمله هذه الأخيرة في طياتها من مؤثرات أنغليكانية و/أو بروتستانتية ألمانية – (نجد أن هذه الإدانات) لم تصادق عليها آنذاك، بسبب تطور أوضاع تجاوزتْ على أرض الواقع سلطاتِ الكنيسة، برلماناتُ معظم الدول والممالك الأوروبية، وبالتالي، بقيت يومذاك حبرًا على ورق؛ الأمر الذي قد يفسِّر، ربما، واقع تواجد الكثير من الكهنة في صفوفها. وقد استمرت الأمور على هذه الحال حتى قيام الثورة الفرنسية.[4]

ثم كانت إدانات أخرى في بدايات القرن التاسع عشر. لكن الأمور استمرت على هذه الحال العائمة، حتى كان ذلك الموقف الأهم والأعمق عبر رسالة البابا ليون الثالث عشر umanum genus في العام 1884، التي أدان بموجبها الفرمسون بشدَّة، واصفًا إياهم بأنهم أناس "... يريدون التدمير الكامل للسلوكية الدينية والاجتماعية المنبثقة عن المؤسَّسات المسيحية، واستبدال أخرى بها تخصهم، وهي مبادئ تعود، من حيث منطلقاتها الأساسية، إلى النزعة الطبيعية..."[5]. ثم تلاه البابا بونوا الخامس عشر، الذي أعطى لجميع هذه الإدانات بُعدًا شرعيًّا؛ فكان البند 2335، الصادر في العام 1915 عن الفاتيكان، الذي تَحْرِم الكنيسةُ الكاثوليكية بموجبه "... كلَّ من ينتسب إلى الملَّة الماسونية أو إلى أية جمعية سرِّية تتآمر ضدَّ الكنيسة وضدَّ السلطات الشرعية..."[6].

ونتذكر أنه، في تلك الأيام، كانت الكنيسة الكاثوليكية مازالت تحارب من أجل الحفاظ على سلطاتها المدنية والسياسية على ما تبقى لها من الأرض الإيطالية، وأن ألدَّ أعدائها، والمهدِّدين مباشرة لسلطاتها الدنيوية هذه، كانوا جماعة الوحدة الإيطالية، الذين كان معظمهم من "الكاربوناري" و/أو من الفرمسون. وأيضًا...

كانت الكنيسة قد فقدت الكثير من تأثيرها المباشر في فرنسا، حيث قامت في العام 1789 ثورةٌ أطاحت بالنظام الملكي المطلق الذي كان سائدًا هناك؛ ثورة دَعَتْ، في ذروة عنفوانها، إلى قيام دين العقل، وأعلنتْ ميثاق حقوق الإنسان والمواطن؛ ثورة كان الكثير من شخصياتها، أيضًا آنذاك، من الفرمسون؛ الأمر الذي يفسِّر عداء كنيسة تلك الأيام لهذه الحركة، من جهة، ويضع على بساط البحث أمامنا، بشكل ملحٍّ، من جهة أخرى، عددًا من المواضيع الشائكة التي قد يكون أولها، ضمن سياق بحثنا، موضوع العلاقة بين...

2

الماسونية والسياسة

لأنه، رغم ما تؤكِّده "دساتير أندرسُن"، التي اشترطت اشتراطًا واضحًا عدم تدخُّل المحافل بالسياسة، وأصرَّتْ على ضرورة أن يكون: "... الماسوني في الواقع تابعًا مسالمًا في كلِّ ما يتعلق بالسلطات المدنية، أينما كان مقرُّ إقامته أو عمله؛ وبالتالي، لا يُفترَض أن يتورط على الإطلاق في أية مؤامرة أو تآمر يمسُّ سلامة الأمة ورفاهيتها، ولا أن يتصرف بشكل غير لائق تجاه الحكام التابعين..."، وافترضت، بالتالي، أنه "... إذا حصل أنْ تمرَّد أيٌّ من الإخوة ضدَّ الدولة فإنه ينبغي عدم تشجيعه على ذلك، والتعامل معه في نفس الوقت برأفة، وكإنسان بائس الحال. وفي حال لم تتم إدانته بأية جريمة فإنه ليس بوسع الأخوية الوفية – التي يُفترَض فيها أن تستنكر التمرد، من أجل عدم إثارة السلطات القائمة، وعدم إعطائها أيَّ مبرِّر سياسي يثير الشكوك – طردُه من المحفل، بحكم كون العلاقات التي تربطهما علاقات لا تنفصم عراها."[7]

فما نلاحظه يقول إن هذه الافتراضات لم تكن واقعيةً، وبالتالي، لم تكن مصيبةً من حيث النتيجة. وقد كانت هذه الافتراضات غير مصيبة، بمعنى أنه لم يكن بالإمكان تطبيقها، إن لم نقل إنه كان من المتعذر، منذ البداية، فرضُها على الإخوة وعلى المحافل؛ لأنه إن كان مفهومًا ومبررًا جدًّا عدمُ التدخل هذا – من أجل حماية معتقدات "رفاق الكار" وسرَّانية تنظيمهم – عندما كانت الماسونية "عملية"، وعندما كانت الكنيسة مهيمنة ومسيطرة سيطرة شبه كاملة، إلا أن هذا الافتراض أضحى مستحيلاً بمجرَّد أن تحوَّلتْ المؤسَّسة الماسونية افتراضيًّا إلى حركة "تأملية"، وبمجرَّد أن بدأت تزعزِع، على أرض الواقع، سلطاتِ الكنيسة الكاثوليكية في البلدان التي كانت خاضعة لسيطرتها – أقصد بمجرَّد أن تحولت الماسونية إلى مشروع جامع، فلسفي العمق والأبعاد، وبمجرَّد أن بدأ عصر التنوير. لماذا؟ لأن مثل هذا المشروع هو السياسة بعينها... ولكن، ربما، لأنه...

كان من الواجب عندئذٍ الارتقاء في فهم وتطبيق ما يُفترَض أن تعنيه السياسةُ في نظر الفرمسون. ربما لأنه إن كان ضروريًّا ومازال مطلوبًا من الماسونية رفضُ تعاطي السياسة بمعناها المباشر الحزبي و/أو العامِّي و/أو التآمري الممارَس والسائد، فإنه كان – ومازال – من الواجب والمطلوب، في المقابل، وإلى يومنا هذا، فهمُ السياسة وممارستُها – سواء من خلال المحافل أو من قبل أبنائها مباشرة – من منظورها الأرسطي المبدئي، المثالي النبيل.

لكن ما نلاحظه، في نهاية الأمر، يؤكد – مع الأسف! – حقيقةً واحدةً تقول: إن الماسون كانوا، كغيرهم من أتباع المعتقدات والتوجُّهات الدينية والفلسفية الأخرى، مجرَّد بشر لم يتفهَّموا، كما كان ينبغي، عمق فلسفتهم وأبعادها، وأنهم، في كلِّ مكان، تعاطوا – تعاطيًا مباشرًا جدًّا، وغير معمَّق على الإطلاق في معظم الأحيان، إلى هذا الحدِّ أو ذاك، وفق توجُّهات محافلهم – السياسةَ وغيرها من النشاطات الاجتماعية والإنسانية الدنيوية. ونسجِّل، هاهنا أيضًا، مستعيدين التاريخ، وأيضًا للتذكير...

1. أنْ في فرنسا[8] (مثلاً)، حيث...

أ‌.       إنه، على الرغم من أن المحافل الماسونية كانت، دائمًا وعامةً، مرتعًا خصبًا للأفكار التحررية، إلا أنها بقيت حتى الثورة (1789) متعايشة، إلى حدٍّ كبير، مع السلطات الملكية، وتدعو أعضاءها للتعبير عن تأييدهم للملكية (من حيث الظاهر على الأقل).

أما في واقع الحال، وكما كان يجري في المجتمع، فقد كانت النار تتأجج تحت الرماد، وكانت المحافل مراكز لتجمُّع المفكرين والفلاسفة والعلماء والمشكِّكين والسياسيين، على اختلاف مشاربهم.

ونلاحظ، في تلك الفترة مثلاً، انتشارها الخاص في أوساط ضباط الجيش الفرنسي العائدين من حرب التحرير الأمريكية؛ كما نلاحظ انتساب عدد من الشخصيات الهامة إليها، كفولتير الذي تلقى مُسارَرته على يد بنجامين فرانكلين في محفل "الأخوات التسع"، ذلك المحفل الشهير الذي ضمَّ آنذاك في جملة أعضائه كوندورسيه وسييس وفريسو وكميل دِهْ مولان ودانتون وفلوريان، الذين لعبوا جميعًا دورًا بارزًا جدًّا في الثورة الفرنسية.

لكننا نلاحظ أنه كان هناك أيضًا، في المقابل، ماسون ملكيون، حاربوا الثورة بشراسة، ودافعوا عن المؤسَّسة الملكية، وعملوا من أجل قضيتها. وقد كان من أبرزهم آنذاك بعض أعضاء العائلة المالكة نفسها، الذين سيعود بعضهم، من بعدُ، ملوكًا على فرنسا، كـ"الأخوين" (صاحبي الجلالة) لويس الثامن عشر وشارل العاشر. وأيضًا...

ب‌.  نلاحظ إبان عهد الإمبراطورية الأولى، أو لنقُلْ إبان حكم نابوليون الأول (الذي نسجِّل للمناسبة أنه لم يكن ماسونيًّا)، ازدهار الماسونية التي كان يترأس أحد أهم توجُّهاتها – نقصد "شرق فرنسا الكبير" – شقيق الإمبراطور، "الأخ" جوزيف بونابارت. ونسجِّل أنه في تلك الفترة تحديدًا تمَّ وضع القانون المدني الفرنسي الذي كان على رأس لجنة صياغته، من الحقوقيين الكبار، "الإخوان" ميرلان وجوبير وفابر دُهْ لود. وأيضًا...

ت‌.  نلاحظ كيف أنه بعد انهيار الإمبراطورية الأولى، عيَّن "الأخ" الملك لويس الثامن عشر قرينه الدوق دُهْ ماييل رئيسًا لـ"معهد الطقوس" في "شرق فرنسا الكبير".

ونسجِّل أنه هكذا، بشكل عام، وعلى الرغم من سيطرةِ منحاها العام المتحرِّر والليبرالي، إلا أن الماسونية الفرنسية ضمَّتْ في صفوفها شخصيات هامة جدًّا من مختلف الاتجاهات السياسية. ونؤكد هنا، خاصةً، على الاتجاهات اليسارية منها: (شخصيات) كبلانكي ولويس بلان، وخاصةً... الشيوعي الطوباوي برودون. وأيضًا...

ث‌.  نلاحظ تطور الماسونية كثيرًا خلال فترة حكم نابوليون الثالث، الذي عيَّن، في كانون الثاني 1862، المارِشال مانيان على رأس "شرق فرنسا الكبير". ولكن، أيضًا وخاصةً...

ج‌.    نلاحظ أنه، بعد انهيار الإمبراطورية الثانية، وإثر هزيمة الجيش الفرنسي في سيدان على يد بسمارك، حقيقة أمرٍ، إن دلَّ على شيء فإنما يدل على عدم وجود موقف سياسي ماسوني موحَّد على أرض الواقع؛ حيث تشكَّلت في فرنسا آنذاك حكومتان: الأولى دُعِيَتْ "حكومة الإنقاذ الوطني"، برئاسة الكاثوليكي تروشو – وكان تسعة من أعضائها الأحد عشر من الفرمسون، الذين كان من أهمهم غامبيتا وأدولف كريميو وجول فيري (صاحب قانون "العلمانية" الشهير) وإرنست بيكار إلخ؛ كما تشكَّلتْ، في المقابل، حكومةُ معارضة، هي حكومة "كومونة باريس"، التي كان العديد من أعضائها أيضًا من الفرمسون، الذين كان من أهمهم جول فاليس وأودز وراسباي وغوستاف فلورينز.

ونتابع هكذا، مستعرضين إلى ما لا نهاية مختلف تموجات التاريخ الفرنسي، ومن خلاله، تموجات مواقف الإخوة، حتى نصل إلى الأزمنة الحديثة التي شهدتْ ظهور الحركة الاشتراكية والشيوعية، فنتوقف هنا قليلاً لأنه...

ح‌.    قبل أن يعلن المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية، المنعقد في موسكو في العام 1922، عدم تطابُق سياسات الحركة الشيوعية وتوجُّهاتها مع الماسونية وإدانته لها، فإن العديد من الإخوة كان قد انتسب عن قناعة إلى الحزب الشيوعي الفرنسي الوليد، وأضحى من أبرز أعضائه، إن لم نقل من أهم قيادييه. نذكر منهم، على سبيل المثال: مارسيل كاشان (صاحب صحيفة l’Humanité) وأندريه مارتي وأنطونيو كوين وباشوليه وشارل لوسي وفروسار إلخ؛ مما استدعى، من بعدُ، قرارًا صادرًا عن المكتب السياسي للحزب (بتاريخ الأول من كانون الثاني 1923) يؤكد على ضرورة أن يختار الإخوة–الرفاق بين التزامهم الحزبي أو الماسوني. وقد خضع آنذاك بعض الإخوة لقرار الحزب، فتنازلوا عن ماسونيتهم، ككاشان ومارتي، بينما رفض بعضهم الآخر ذلك القرار، وتنازلوا عن حزبيَّتهم، كفروسار وموريزه وكوين.

وقد استمر واقع الحال هذا بين مدٍّ وجزر، لكن لصالح الماسون عمومًا، وخاصة منذ زوال الستالينية وما تبعها من متلاحقات أدَّتْ إلى تمايز معظم الأحزاب الشيوعية في أوروبا وفي العالم وإلى استقلالها عن الحزب الأب في روسيا.

خ‌.    وأخيرًا، نسجِّل أن الماسونية التي مُنِعَتْ وحورِبَتْ بشراسة في فرنسا خلال فترة الاحتلال النازي، سواء من سلطات الاحتلال، أو من الحكومة المتعاونة معه في فيشي، عادت شرعيةً ومسموحًا بها من جديد فور استعادة فرنسا لاستقلالها وديموقراطيتها.

2. أو في بلادنا[9] (ليس حصرًا)، حيث نلاحظ...

أ‌.       أن الحركة الماسونية، منذ تأسيسها، وإبان تاريخ وجودها العلني كلِّه، ضمَّت العديد من الشخصيات الوطنية العاملة في الحقل العام، إضافة إلى أكابر البلد ووجهائه؛ حيث كان من أعضائها، خلال فترة الانتداب الفرنسي، السادة (مثلاً وليس حصرًا): عبد الرحمن الشهبندر وفارس الخوري ومصطفى السباعي وجبران لويس (المحفل الاسكتلندي رقم 1058)...

ب‌.  وأنها كانت تضم حتى عددًا من ضباط الجيش، الذين من أبرزهم، كما هو معروف: العقيد أديب الشيشكلي والفريق جمال فيصل (قائد الجيش الأول أيام الوحدة)، الذي كان منتسبًا لمحفل "خالد بن الوليد" منذ أن كان طالبًا في المدرسة الحربية... كما نلاحظ أن معظم المنتسبين إليها كانوا من أبناء الطبقة الوسطى، وخاصة من الموظفين الحكوميين أصحاب المراكز.

ت‌.  ونسجِّل أن الماسونية المحلِّية تعاطتْ السياسة بشكل صريح ومباشر جدًّا. لا بل إن هذا التعاطي كان موضع مُطالبة وأمرًا طبيعيًّا في نظر غالبية أبنائها، كـ"الأخ" المحامي خيري رضا (محفل قاسيون)، الذي عبَّر بصراحة، في محاضرة له عن تاريخ الماسونية، أنْ: "... نعم، لتكن لنا كلمة نافذة في إدارة شؤون بلادنا ومقدَّراتها. فحسبنا هذه العزلة الطويلة، وأن يكون لنا رأي مسموع في سياسة بلدنا. ثم ينبغي أن تحسَّ الأوساط السياسية بأن هنالك من يعالجها. ولا يجدر بنا أن يُنظَر إلينا بعين الإهمال، وأن نظلَّ على مثل هذه الحال من الاجتماع للقيام بطائفة من الطقوس والمراسيم التي تتمثَّل، ويعاد تمثيلُها كلَّ أسبوع، دون أن تصل إلى غاية عملية..."[10].

وأتوقف هنا قليلاً، لأن مثل هذا الرأي إنما يدل، في نظري، على أمرين خطيرين: أولهما هو التعامل مع الماسونية كتجمُّع سياسي؛ وثانيهما – وهو الأخطر والأعمق من منظوري – ألا وهو تلك النظرة من الاحتقار – إن لم نقل عدم الفهم المطبق – لما يدعوه صاحب العلاقة "الأخ" خيري رضا تلك "... الطقوس التي تتمثَّل، ويعاد تمثيلُها كلَّ أسبوع، دون الوصول إلى غاية عملية..."؛ الأمر الذي أربطه بما سبق أن أشرت إليه، ويتحدث عن سطحية المنتسبين إليها، وخاصة في بلداننا، وسعيهم إلى تحقيق غاياتهم النفعية من خلالها. لأنه، كما عبَّر بمنتهى البلاغة "الأخ" وجيه بيضون: "... الماسونية في هذا البلد فاسدة، فاسدة لآخر حدِّ. وقد أدرك ذلك الغرباء الأباعد، فضلاً عن الإخوان الأدنين. وعللُ الماسونية أخلاقية بحتة، لا تقوم بغير المظاهر، ولا يفيدها الانتساب إلى شرق دون آخر. إذن فليفكر العاملون بالأسباب الجوهرية قبل المظاهر الفرعية، ماداموا عاجزين عن إصلاح أخلاق الأعضاء المنتسبين إلى المحافل. ومادام هؤلاء [الإخوان الماسون] خليطًا مختلفًا، لا يمكن أن تكون بينهم وحدة فكرية، ولا يمكن أن ينشدوا الكمال الذي تتطلَّبه المبادئ الحرة، ولا يعرفون من الماسونية إلا ظواهرها، لأنهم خُدِعوا في الدخول إليها، ولم يطلبوها إلا للربح والكسب على أكتاف غيرهم..."[11].

ث‌.  وأسجِّل هنا أن المواقف السياسية العامة للماسون السوريين إنما كانت تتطابق مبدئيًّا مع المواقف الوطنية العامة، حيث كان الكثير منهم من "الكتلة الوطنية" ومن دُعاة الاستقلال والوحدة العربية. لكن، مع تطور الأوضاع بعيد الاستقلال، ومع احتدام الصراع العربي–الإسرائيلي وانهيار الأنظمة الليبرالية في المنطقة لصالح أنظمة عقائدية وعسكرية، حُظِرَت الماسونية رسميًّا في سورية بموجب الأمرين العرفيين رقم 25، تاريخ 10 آب 1965، القاضي بـ"... إلغاء الجمعية الماسونية المسماة بالمحفل الأكبر السوري العربي والمحافل التابعة له في جميع أنحاء القطر العربي السوري، إن وُجِدَتْ. ويُحظَر على المؤسِّسين المنتسبين القيام بأيِّ نشاط لصالح الجمعية، وتُختَم بالشمع الأحمر، وتصفَّى موجوداتُها من قبل لجان وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ويلاحَق المخالِفون أمام المحكمة العسكرية المختصة، لإجراء محاكمتهم بجرائم الانتساب إلى جمعية ذات طابع دولي..."، ورقم 26، القاضي بـ"... إلغاء أندية الروتاري الدولي في دمشق وحلب وحمص وفي جميع أنحاء القطر العربي السوري، إن وُجِدَتْ...".

ج‌.    وأسجِّل أيضًا أنه، إبان الفترة نفسها تقريبًا، كان حلُّ المحافل الماسونية في مصر، حيث "طلب [الإخوان الماسون] تسجيل عشيرتهم في وزارة الشؤون الاجتماعية المصرية.[12] ولكنه بعدما رفض الماسونيون إخضاع محافلهم لإشراف الوزارة، عملاً بقانون الجمعيات التي تخوِّل الوزارة حقَّ التفتيش على أعمال الجمعيات ونشاطاتها، للتثبُّت من أنها لا تخالف النظام العام، صدر في حزيران 1964 قرارٌ رسمي بإغلاق وحلِّ المحافل الماسونية في جميع أراضي الجمهورية العربية المتحدة. وقد تمَّ وضع المحفل الماسوني بشارع طوسون تحت الحراسة، وقام الأستاذ علي عوض، نائب الحارس العام، بجرد محتوياته، وتبيَّن من عمليات الإشراف والجرد أن المحفل يُدار طبقًا للقانون الماسوني الإنكليزي، ويعمل جميع أعضاؤه وفقًا لأحكام هذا القانون...".

قرارات تسارعتْ من بعدُ وتلاحقتْ، كان أهمها توصية مكتب مقاطعة إسرائيل (رقم 4 للعام 1977) للحكومات العربية بحظر وإغلاق فروع الحركة الماسونية في أراضيها، وقرار مجلس جامعة الدول العربية رقم 2309...

لأن الماسونية أضحت، مع الأسف، في معظم الدول العربية ذات الأغلبية المسلمة، تُربَط بالصهيونية. وهو واقع حال لم يكن حين نشوئها، حيث كانت تُربَط بالحداثة وبالتحرر. لكن...

ح‌.    يبقى أن الماسونية مازالت علنية ومسموحًا بها في بعض الدول العربية، كلبنان وبعض بلدان المغرب العربي، كالمغرب وتونس، وأنه حتى في سورية، حيث هي في حكم المحظورة، مازالت بعض الشخصيات الهامة تجاهر بانتمائها إليها، كالمرحوم السيد بدر الدين الشلاح (أبو راتب)، الرئيس السابق لغرفة تجارة دمشق...

السيد بدر الدين الشلاح الذي كان صديقًا لأهم شخصيات البلاد، والذي اجتمع به تحديدًا الرئيس الأمريكي الأسبق، "الأخ" جيمي كارتر، عندما زار سورية...

جيمي كارتر الذي كان يقف إلى جانب الرئيس الكوبي فيديل كاسترو في أثناء جنازة الرئيس الكندي الأسبق بيير إليوت ترودو...

وأتوقف هنا قليلاً... لأن الحقائق على أرض الواقع تقول إن كوبا – وهو من البلدان الاشتراكية القليلة "الصامدة" إلى الآن – هو البلد "الاشتراكي" الوحيد الذي ظلتْ الماسونية علنية ومسموحًا بها فيه، ولم تتعرَّض لأية مضايقة، منذ انتصار الثورة هناك في الأول من كانون الثاني 1958 إلى الآن.

وأتوقف قليلاً هنا للتأمل في هذا الواقع الذي يقول إن فيديل كاسترو كان – ولم يزل – "ثوريًّا وشيوعيًّا مخلصًا"، وأنه في بلده، حيث فَرَضَ حُكْمَ الحزب الشيوعي الواحد – ولم يزل – لم يتعرَّض إطلاقًا للماسونية كسواه.

وأستقصي الوقائع قليلاً، فأجد أنه كانت للماسونية في أمريكا اللاتينية – ولم تزل لها – تقاليدُها الثورية واليسارية، وذلك منذ أيام سيمون بوليفار؛ مما قد يفسِّر، إلى حدٍّ كبير ربما، موقف كاسترو منها وعدم تعرُّضه لها على الإطلاق. ومما يؤكد ما أذهب إليه في تخميناتي هذه واقعُ أن العديد من أهمِّ الشخصيات اليسارية في أمريكا اللاتينية كانوا من الفرمسون، كالشهيد، الرئيس الأسبق للتشيلي، الرفيق و"الأخ" سالفادور ألليندي... (يتبع)

***

next previous


horizontal rule

[1] James Anderson, “The Book of Constitutions of the Freemasons, Containing the History, Charges and Regulations of That Most Ancient and Right Worshipful Fraternity.”

[2] Plantagenet, Causeries en Chambre du Milieu.

[3] Alain Guichard, Les Francs-Maçons, Grasset.

[4] Ibid.

[5] Ibid.

[6] Ibid.

[7] James Anderson, “The Book of Constitutions of the Freemasons, Containing the History, Charges and Regulations of That Most Ancient and Right Worshipful Fraternity.”

[8] Alain Guichard, Les Francs-Maçons.

[9] حسين عمر حمادة، الماسونية والماسونيون في الوطن العربي.

[10] خيري رضا، شذرات من تاريخ الماسونية، ص 29-30؛ نقلاً عن: كتاب حسين عمر حمادة الماسونية والماسونيون في الوطن العربي.

[11] وجيه بيضون، "بين الهياكل: شرق سوري جديد"، الإنسانية، دمشق، ج 7 و8، شباط وآذار 1937، ص 291-292؛ نقلاً عن: الماسونية والماسونيون في الوطن العربي لحسين عمر حمادة.

[12] جورج فاخوري البولسي، المسرة، العدد 497، تموز 1964، ص 485-486؛ نقلاً عن: الماسونية والماسونيون في الوطن العربي.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود