|
الرجل الذي لا خِصال له قراءة في الترجمة العربية لـ"أهم الروايات الألمانية" في القرن العشرين روبرت موزيل كَتَبَ جداريةً روائيةً لمآسي عصر بأكمله
رواية الرجل الذي لا خصال له – التي صَدَرَ الجزء الأول من ترجمتها العربية عن "منشورات الجمل" (2003)، بترجمة فاضل العزاوي – هي "رواية القرن العشرين"، بحسب ما أظهر استطلاعٌ للرأي أجرتْه دار الأدب في ميونخ ودار نشر برتلسمان الألمانية في مطلع العام 1999. يومذاك أجمع النقاد والباحثون في الأدب الألماني على اختيار رواية الأديب النمساوي روبرت موزيل (1880-1942) لتتربَّع على رأس قائمة "كلاسيكيات الأدب الألمانيِّ اللغة في القرن العشرين"، قبل رواية المحاكمة لفرانتس كافكا، التشيكي الأصل، التي حلَّتْ ثانية، بينما جاءت رواية الألماني توماس مان الجبل السحري في المركز الثالث. وفيما يلي قراءةٌ في الترجمة العربية لرواية الرجل الذي لا خصال له. كلَّفتْ رواية الرجل الذي لا خصال له مؤلِّفَها الكثير، وربما كلَّفتْه في النهاية حياته! خامرتْ فكرةُ الرجل الذي لا خصال له ذهنَ موزيل منذ مطلع القرن العشرين في أثناء دراسته الجامعية، إلا أنه – بدقَّته الرهيبة في العمل التي تصل إلى حدِّ الهوس! – لم يجد الشكل المقبول لها إلا بعد زهاء عشرين عامًا. وكمثل بطل روايته، حاول روبرت موزيل ثلاث مرات أن يستقر في مهنة يتصورها مبتغاه، ولكن من دون جدوى. عمل أولاً ضابطًا في الجيش، ثم أستاذًا مساعدًا في جامعة شتوتغارت بعد أن درس الهندسة، وأخيرًا باحثًا أكاديميًّا بعدما حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة وعلم النفس. إلا أنه، في كلِّ مرة، كان يهجر مهنته بحثًا عن شيء آخر لا يعلم كنهه. وفي نهاية المطاف، تفرَّغ للكتابة الأدبية، علَّه يجد ما يبحث عنه. حقَّق موزيل شهرةً كبيرة بعد صدور أولى رواياته اضطرابات الربيب تورلس (1906). إلا أن أعماله اللاحقة لم تلقَ النجاح نفسه، الذي لن يصيبه مرة أخرى إلا في العام 1931، عندما نشر الكتاب الأول من الرجل الذي لا خصال له. احتفى النقَّاد الألمان بهذه السيرة الروائية فور صدورها، ووضعوها على ذروة سامقة متفرِّدة، كرواية تؤسِّس للحداثة في الأدب الألماني (إلى جانب أعمال كافكا وهيرمَن بروخ). واعتبرها الأديب توماس مان رواية "استثنائية" بين الروايات الألمانية. لكن النجاح الكبير الذي أصابتْه الرواية لم ينقذ مؤلِّفها من ضائقته المالية، على الرغم من الأقساط المنتظمة التي كان ناشرُه إرنست روفولت يدفعها له مُقدمًا كمكافأة على نشر الرواية الجديدة. وطوال ثماني سنوات، ظل الناشر يلتزم ماليًّا، والكاتب لا يكتب! وفي العام 1933، نفد صبر روفولت، فقطع أقساطه. ووجد موزيل نفسه على حافة الإفلاس والتسول، فتشبَّث بعمل حياته، وأصدر، في العام نفسه، الجزء الثاني من الرجل الذي لا خصال له. شهد العام 1933 أيضًا صعود النازية وتولِّي هتلر السلطة في برلين التي كان يعيش فيها موزيل، فقرر على الفور العودة إلى موطنه النمسا. وسرعان ما أسدل النسيانُ ستائره على الأديب النابغة، ما دفعه إلى جمع مقالات عدة وقصص قصيرة وأصدرها تحت العنوان الساخر: ميراث أثناء الحياة (1936). وبعد عامين، تختفي أعمال موزيل من مكتبات النمسا وألمانيا، ويُمنَع من النشر، فيحيا في عزلة مريرة وفقر مدقع. وعندما "يضم" هتلر النمسا إلى الرايخ الثالث، يقرر موزيل الهرب إلى سويسرا، حيث توافيه المنية في العام 1942، وهو في غمرة الإعداد للجزء الأخير من روايته الذي صَدَرَ بعد وفاته. "الرجل الذي لا خصال له" يُدعى أولريش. وهو في بداية الرواية – آب 1913، أي عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى – في الثالثة والثلاثين من عمره. يشعر أولريش أنه "ولد ومعه رغبة في أن يكون رجلاً عظيمًا". لكن مشكلته هي أنه "ما كان يعرف كيف يصبح واحدًا من العظماء" (ص 43 من الترجمة). وبعد محاولات فاشلة في العمل ضابطًا ومهندسًا، يقرر أن يأخذ إجازة مدة عام من حياته، ليتأمل في أحوال الدنيا والخلق، ويبحث عن الطريق إلى العظمة. يدرك أولريش أن مكمن الخطأ في مكان ما، إلا أنه يعجز عن تحديده. الحقيقة تراوغه. يشعر بالقيم العتيقة تنحل، وبالثوابت تصبح موضعًا للشك والمساءلة. إنه عصر التحولات والتغيرات، عصر يقف على الحافة. الجديد لم يبدأ بعد، والقديم مازال يبسط سيطرته على عقول الناس: "إننا نعيش في زمن عبور. وهو زمن قد يطول حتى نهاية الكوكب." (ص 279) يكتشف أولريش أنه غير قادر على اتخاذ موقف يخصه، فيكتفي بدور المُشاهد السلبي الذي يجلس في مقهى الحياة ويستغرق في التأمل، من دون أن يكون له موقفٌ أو سِمات: إنه يتردد في أن يصنع من نفسه شيئًا ما. فالشخصية، المهنة، نمط الوجود الثابت، هذه كلها في نظره تصورات ينعكس فيها الهيكل العظمي الذي يُفترَض أن يكون كلَّ ما تبقى له في النهاية. يسعى إلى أن يفهم نفسه بطريقة أخرى؛ وبميله إلى كلِّ ما يُغنيه داخليًّا، وإنْ كان ممنوعًا أخلاقيًّا أو ثقافيًّا، يشعر بنفسه مثل خطوة حرة تقوده نحو الجهات كلِّها، من توازن إلى آخر، ودائمًا إلى الأمام. (ص 324) يبدو أولريش بلا "سمات" أو "خصال" لأنه يعجز عن الإفادة الإيجابية من إمكاناته المتنوعة على أرض الواقع؛ لذا يبحث عن "الممكن" بدلاً من "الواقع". والشعور بالتيه والعجز أمام إمكانات الحاضر المتعددة هو ما يَسِمُ أيضًا بطلةَ الرواية ديوتيما، التي اتضح لها أنها ... تعيش في زمن عظيم، مادام الزمن عامرًا بالأفكار العظيمة، ولكن لا يمكن للمرء أن يصدق كم كان صعبًا تحقيقُ الأعظم والأهم منها. كانت جميع الشروط متوفرة، ما خلا شرطًا واحدًا: معرفة أيٍّ منها هي الأعظم والأهم! ففي كلِّ مرة تكون فيها ديوتيما على وشك أن تنحاز إلى فكرة مثل هذه، كان عليها أن تلاحظ أنه سيكون شيئًا عظيمًا أيضًا أن تحقق العكس من ذلك. (ص 296) ويُعتبَر أرنهايم الشخصية المضادة لأولريش في الرواية (وهو بورتريه للسياسي والكاتب الألماني فالتر راتناو، المعاصر لموزيل). أرنهايم يعتقد أنه وصل إلى ما يبحث عنه أولريش: وصل إلى الأخلاق الجديدة الملائمة للعصر الجديد، إلى التوازن بين العقل والروح؛ وهو "توازن" ينتقده أولريش باعتباره محاولة للتوفيق بين "سعر الفحم والروح" (ص 365)، على حدِّ تعبيره. وإذا كان أولريش غارقًا في التأمل والفكر، فإن أرنهايم يرمز إلى الإنسان في العصر الصناعي، الذي يؤمن بقوة الفعل – لا الفكر – في مناحي الحياة كافة. أسباب عدة جعلتْ من هذه الرواية عملاً "عملاقًا" في دنيا الأدب، يحترمه المرء ويتهيب الاقتراب منه. مثلاً: حجم الرواية الضخم الذي جاوز الألف صفحة من الطبعة الألمانية الصادرة بعد وفاة موزيل، وموضوعها الذي يتطرق إلى مجالات عدة، كالفلسفة والتصوف وعلم النفس ونقد العصر وفكرة حتمية التقدم (ما يمثل صعوبة خاصة في الترجمة). تبدو الرواية، للوهلة الأولى، معقدة بسبب فصولها الأشبه بالمقالات، التي يبدو فيها أثرُ نيتشه – الذي جمع في مقالاته بين التحليل الفلسفي والأسلوب الأدبي الناصع – واضحًا جليًّا. يمزج موزيل أيضًا في هذه الفصول بين أفكاره ونظريات أو آراء نيتشه وفرويد واشبنغلر وإرنست ماخ. وكثيرًا ما يقطع موزيل الخيط الروائي لإفساح المجال أمام التأملات والهواجس والظنون التي تخامر رؤوس شخصياته؛ إذ إنه كان يعتقد أن هذه التقنية هي المُثلى لمضمون روايته (وربما لذلك ظل هذا "النص المفتوح" مخطوطة). إن العصر القلِق، كما يرى موزيل، لا يمكن تصويره من خلال حكاية تقليدية، لها بداية واضحة ونهاية. هذا النوع من "القص البدائي" لم يعد يتلاءم مع الحياة الحديثة المضطربة التي غَدَتْ "عَصِيَّة على القص". فكتابة الرواية، بنظر موزيل، أشبه بعملية نسج لخيوط لا نهاية لها؛ والنتيجة ليست واضحة منذ البدء. الرواية لدى موزيل جدارية ضخمة مفعمة بالتفاصيل الدقيقة، إلا أنها لا تبوح بكلِّ ما فيها لدى النظر إليها للمرة الأولى. لكن، وعلى الرغم من كلِّ التعقيد في تخطيط الرواية، فإن الرجل الذي لا خصال له هي أبعد ما تكون عن الرواية الذهنية المعقدة التي تدور حول أفكار مجردة، بل هي رواية مغرية للقارئ. نعم، النَّفَس السَّرْدي طويل، لكنه لا يُرهِق القارئ ولا يُضجِرُه. ولعل ذلك يعود إلى ما يتَّسم به أسلوبُ موزيل من سلاسة وسخرية هادئة، وإلى أن الحكاية–الإطار تجمع شتات "الأفكار العظيمة" المنبثة في ثنايا الرواية. وهي، إلى ذلك، حكاية تستند إلى وقائع تاريخية جَرَتْ في النمسا. إلا أن موزيل لا يستغرق في وصف تفاصيلها المحلِّية، مما يسهل الأمر على القارئ، أيًّا كان موطنُه. يضيق والد أولريش بخواء حياة ابنه وهامشيَّتها، ويحثه على أن يوطِّد صلاتِه بالطبقة الراقية في "كاكانيا" – وهي التسمية التي يطلقها موزيل على "إمبراطورية النمسا والمجر" التي كان يُرمَز إليها بالحرفين K&K، اللذين يختصران "الإمبراطورية والملكية". كانت الطبقة الراقية في فيينا مشغولة آنذاك بأخبار الاحتفال الذي ينظِّمه الألمان لقيصرهم فِلهِلَم الثاني بمناسبة العيد الثلاثيني لجلوسه على العرش. "ألا تستحق كاكانيا احتفالاً مشابهًا؟"، تتساءل نخبة المجتمع الفيينوي. أما المناسبة فهي مرور سبعين عامًا على اعتلاء قيصر كاكانيا عرش البلاد (المقصود فرانتس يوزف الأول، قيصر النمسا وملك المجر). لذا لا بدَّ من منافسة الدولة الجارة بإقامة "احتفال موازٍ" – هذا ما تقرِّره النخبة. يتم تأسيس لجنة لإعداد الاحتفال تضم ألمع رجال الثقافة والجيش والصناعة، تجتمع في صالون السيدة ديوتيما لمناقشة خير السبل للاحتفال بيوبيل القيصر. يتم اختيار أولريش أمينًا عامًّا للَّجنة التي لم يكن لديها أدنى تصور عن شكل الاحتفال. ولم تتمخض الاحتفالات عن شيء؛ إذ إنها استهلكت نفسها في مآدب عشاء طغى عليها الكلام الأجوف والمؤامرات والمغامرات العاطفية. ومع ذلك، يشعر أعضاء اللجنة بالرهبة لعِظَمِ المهمة الملقاة على عاتقهم. وعبر فصول عدة، يصف موزيل التحضيرات التي تقوم بها الطبقة الراقية للاحتفال الموازي، ويبرهن في ثناياها على عبقريته في النقد والتحليل الساخر لعصر يقف على شفا الانهيار. موزيل بالعربية من المعروف عن روبرت موزيل أنه كان يعيد صوغ بعض فصول روايته مرات عدة تصل أحيانًا إلى العشرين، قبل أن يصل إلى صياغة لغوية وأسلوبية يرضى عنها بعض الرضا! هذا الهوس بالكمال كان أحيانًا يضيِّق الخناق على موزيل، فيشعر بعجزه عن أن يسطِّر حرفًا واحدًا، ما دفعه إلى التردد على أحد الأطباء النفسيين! ولا شكَّ في أن هذا الأسلوب المصقول يمثل امتحانًا عسيرًا وتحديًا كبيرًا لِمَنْ يتصدى لترجمته إلى أية لغة أخرى. فكيف كانت الترجمة العربية؟
لا شك أن الشاعر والروائي العراقي فاضل العزَّاوي بذل جهدًا فائقًا في هذه الترجمة التي جاءت، في مجملها، جيدةً ورصينة، مبدعة في أجزاء منها، أمينة، تخلو من الأخطاء النحوية والصرفية – وإن لم تخلُ من الأخطاء المطبعية وأخطاء الهمزات التي لم تجلس في مكانها الصحيح في كثير من الأحيان! ولعل القارئ العربي يفتقد مقدِّمةً تقرِّب إليه مثل هذا العمل الصعب، وتشرح خلفياته التاريخية؛ وهو أمر ربما يستدركه العزاوي في ترجمته للجزء الثاني الذي سيصدر لاحقًا. ولا تخلو الترجمة من هنات وأخطاء وركاكة أحيانًا، تنجم عن محاكاة صريحة لبنية الجملة الألمانية أو عن حرفية في الترجمة. وتبدو هذه الحرفية إشكاليةً، خصوصًا لدى ترجمة التعبيرات الاصطلاحية. مثلاً: عندما يقرأ المرء "صديقة النهود" (ص 122)، فقد تذهب به الظنون كلَّ مذهب، لكنه لن يهتدي إلى أن المقصود هنا هي "الصديقة الحميمة المقرَّبة إلى القلب"! كذلك إذا قرأ المرء "سمعوا عشب التاريخ ينمو أمامهم" (ص 249)، فلن يفهم أحد – على ما أعتقد – أن المقصود هو الإلمام بكلِّ ما يحدث، أو أن المرء لا تخفى عليه خافية، أو – كما يقال – أن المرء "يسمع دبيب النمل". ما يلفت النظر في هذه الترجمة أيضًا هو الإفراط في استخدام فعل الملكية (انطلاقًا من الأصل الألماني). المرء لدى العزاوي "يملك" الصديق والأب (بدلاً من أن يكون لديه)، و"يمتلك" الخصال (بدلاً من أن يتسم بها)، والفرصة (بمعنى تسنح له أو تؤاتيه)، واللغة (بمعنى إجادتها)، بل وحتى البيرة في المنزل، والمكابدات الروحية! كذلك، يلتزم العزاوي بالترجمة الحرفية لكلمة "حقيقة" التي تَرِدُ كثيرًا في التعبيرات الألمانية ولا تتطلَّب ترجمة؛ إنه يقول مثلاً: "حقيقة أنه لم يفلح" (ص 442، والمقصود لأنه لم يفلح). وكذلك يتساءل المرء لماذا يترجم العزاوي الثالوث الشهير "الحق والخير والجمال" على نحو آخر بقوله: "الحقيقة والطيبة والجمال" (ص 52)؟ وينحو العزاوي أحيانًا – قليلة لحسن الحظ – إلى استخدام ألفاظ مهجورة متقعِّرة، لا تتناسب مع لغة موزيل السلسة. فنجده يفضل استخدام "نفاجة برجوازية" (ص 432) بدلاً من القول "نفخة برجوازية كذابة". وعلى هذا المنوال، نجده يستخدم كلمات مثل "الصعفوق" و"الصعفقة" (ص 64، بينما المقصود هو الهاوي غير المتخصِّص) و"القنزعة" (ص 86، والمقصود في الأصل "البابيون"). ربما كان يعوز المترجم الوقتُ لإعادة النظر في هذه الترجمة الضخمة المرهقة. أو ربما كان يجدر بالناشر أن يعهد بالترجمة إلى مُراجِع يلتفت إلى ما فات على المترجم في غمرة عمله المضني الذي استغرق ثلاثة أعوام. لكن الأكيد أن هنات الترجمة – الموزعة على طول 450 صفحة – لن تعوق القارئ العربي عن الاستمتاع بهذا العمل الفلسفي المهم الذي لم يفقد راهنيَّته بعد. *** *** *** تنضيد: دارين أحمد
|
|
|