|
آلموت تناجي قبر مهندس حياتها!
المضيق ضيِّق، وفي ضائقة مائية، يا سيد قلاع القرن الحادي عشر الميلادي! جِنانك – رياضُ ملوك الديلم سابقًا – غارتْ ينابيعُها، يَبِسَتْ أشجارُها ومروجُها الخضراء، غابت نضارةُ الحياة عنها، وجفَّتْ حدائقُها الغنَّاء بعدما مُلِئَتْ بالأخاديد والأثلام! ماذا أقول لك؟! هو شحوب الوجوه، هو ذهول الأعين التي لا تصدِّق أن كلَّ هذا الخراب والدمار قد وقعا فعلاً، يا شيخ الجبل، يا حسن الصباح! وفود الدول والأمراء والإمبراطوريات، وحتى ممثِّلو التتار وقطَّاع الطرق الصعاليك، – التي كانت تنتظر طويلاً، ولا نأمةَ تذمُّر، – واقفةٌ بباب عرينك لتقدِّم الولاء وفرائض الطاعة، ما عادت على مألوف عادتها في تقديم الهدايا والقرابين، ببالغ الأدب والرهبة! يا ألله، يا حسن! ماذا جرى؟ وما سبب كلِّ هذا الجحود؟! بالله عليك! هلاَّ أنبأتني، مكفكفًا دموعي؟ – ولا تخبِّئ عني شيئًا! هل انقلبت الدنيا كلُّها عليك وفوق رأسك؟! إني أموت من الغيظ! إني أموت كمدًا من هذه الممالك الخاوية التي تفتقر إلى أبسط مكوِّناتها وأعقدها: الإنسان! أرملتك آلموت هذه القلعة الأرملة الحزينة هي تاريخ! كما هي حالات ترمُّل القلاع الأخرى الشقيقات – الكهف، مصياف، الخوابي، القدموس، المرقب، المينقة – والعديد من العواصم والمدن التي جرَّ عليها جمالُها أو موقعُها أو إشعاعُها وفيضُها الكثير من الويلات والنكبات. كما هي محنة قرطاجة أليسار وهنيبعل، سيدة البحر الأبيض المتوسط قبل مائتي عام من الميلاد! شئنا ذلك أم أبيناه، معهنَّ كنَّا أو ضدهنَّ – نحن زواحف القرن الواحد والعشرين، الذين نعيش خارج التاريخ، داخل أو تحت مظلَّة التاريخ الحديث لأمريكا، المنفردة الآن بحكم العالم، تبنيه بغطرسة روما، ومع أهوائها غالبًا، وكلما رأت أن غطرسة روما هذه وحدها غير كافية، أو أصبحت قديمةً بالية، تبنيه على تمزُّقنا، أو لأقلْ، دونما أيِّ شعور أو إحساس بعقدة الذنب، فوق تهتكنا وتناسي القدرات الكامنة فينا! هذه القلعة الأرملة الحزينة آلموت هي تاريخ ناصع البياض. فقد كان لها عمل؛ ولقد قامت به بشكل يوائم ضرورات الدفاع عن البقاء، كما وضرورات بقاء قرطاجة في وجه روما، بسطوع سيف هنيبعل، لزمن عصيب أبيض خالد! فوقائع هاتين الوردتين وأحداثهما، ناهيك عن أن رائحتيهما وعطريهما باقيان في نفوسنا، تحتضنهما خزائنُ دوائر المعارف لدول ذات شأن كبير وماضٍ بعيد في التسلط وإحصاء أنفاس متنوِّري الشعوب ومبدعيهم الذين لا يفتقر إليهم أيُّ شعب، مهما بلغتْ درجةُ فقره وجهله وتخلفه، تسهر على نشوء الدول والدويلات والأمم والأميمات والطوائف والأديان! وتحتويهما، كذلك، رفوفُ المراكز الثقافية والمكتبات العامة أو الوطنية لدول أقل شأنًا وأصغر حجمًا من سابقاتها، زخرفةً وبهرجةً على شكل أعمال الطفرة لا يُؤبَه لها، أو دراسات هزيلة، على الرغم من مساهمة المنصف بجانب المتحامل، والمحبِّ بقرب المبغض، والعاقل لصق الجاهل. فهي تكاد ألا تلامس الحماسة التاريخية العلمية الإنسانية، ذات الرسالة الوحيدة: تسليط الضوء والكشف عن الخبيء، بجماله وقبحه، بفوائده و"لزومياته"، وأضراره ومحاذيره! قصة الأرملة الحزينة آلموت مرويةٌ شفاهًا منذ أمد بعيد يزيد على العشرة قرون. تتناقلها شفاهُ الأجيال من جيل إلى جيل إلى وقتنا الحاضر، بكثير من الفخر والاعتزاز، وبعفوية فطرية ولحساب البطولة والإباء وحسب – أجيال أقلِّية منقسمة على نفسها إلى أكثر من ثلاثة مذاهب، قد تصير بعد حين من الزمن إلى أكثر من ثلاث أقلِّيات أو طوائف. ولا أدري إذا كان هذا جميلاً أو بشعًا مكروهًا، صحة وعافية أو مرضًا وسقمًا ممقوتين! فأنا لست أهلاً لإطلاق مثل هذه الأحكام، ولست بحضوري الآن هاهنا بهذه الشكوى التاريخية المجتمعية، المتواضعة جدًّا جدًّا، بصدد مقاربة الدين – أيِّ دين – لا من قريب ولا من بعيد، إلا بالقدر الذي يخدمني أنا والآخر – أيَّ آخر شارَكَني مدرستي وملاعبَ طفولتي! هذه الأقلِّية تسكن بفعل وانفعال وتفاعل ثماني وعشرين دولة، منها الهند وباكستان واليمن وسوريا والبحرين، وعلى شكل جاليات ميسورة الحال في بريطانيا وفرنسا وكندا، وتنتسب إلى حسن الصباح، بعل الأرملة الحزينة آلموت، الذي كان يؤكد على فضيلة إعمال الفكر والعقل، وفي أضيق الحدود، على بعض صياغات النقل والقياس. كما كان يؤكد على فضيلة إتقان فنِّ السيطرة على العواطف وقَهْرها أو خَنْقها في مهدها كلما دَعَتِ الضرورةُ وحزَّتْ الأمورُ الكبيرة، بوجهٍ فيه من القسوة بقدر ما فيه الكثير الكثير من التدبير والحزم: إذ يُروى أنه لم ينزل قط من القلعة طوال السنوات الأربع والثلاثين التي أمضاها في آلموت، ولم يترك الحجرة التي عاش فيها سوى مرتين صعد فيهما إلى سطح القلعة! وهذا ما نطق به على مسامع جلسائه ومريديه، ودبَّجه إلى دعاته في القلاع الأخرى والأقاليم؛ وهذا ما مارَسَه، مُقرِنًا نطقَه وديباجتَه بالعمل والفعل والقصاص السديد! فلقد أمر بإعدام ولديه الاثنين: الأول بتهمة القتل (تبيَّن فيما بعد أنها كانت باطلة)، والثاني لشكوكه بأنه كان يشرب الخمر! – وهذه الواقعة يذكرها د. فرهاد دفتري في كتابه الإسماعيليون في العصر الوسيط، بترجمة سيف الدين القصير، والروائي اليوغسلافي فلاديمِر بارتول في روايته آلموت التي كَتَبَها في العام 1936 وقامت بترجمتها فاطمة النظامي وصَدَرَتْ في لندن عن دار الزمن في العام 2002 – بارتول الذي يملك ثقافة عالية راقية. وطبعًا يبقى هذا ضمن حدود إبداء الرأي: فلكأني به يسمح لنفسه، فيمنح جائزةً أغلى وأرقى من جائزة نوبل المعروفة، بعيدًا عن السياسة وألغامها – فموضوعُه الذي يغزل عليه قديم – ومناصفةً بين حسن الصباح، بطل روايته، وأليسار قرطاجة، على فكرة شراء "مساحة جلد الثور" من مالكي الأرض التي أقاما عليها مملكتيهما لصدِّ الرياح العاتية المجنونة! فأليسار قرطاجة ابتدعتْ هذه الفكرة، وهنيبعل حارب روما من أجلها طويلاً، حتى آخر دقيقة من حياته، وحسن الصباح اقتبسها وأعاد صياغتها بعد مضي أكثر من ألف سنة! وللأمانة، فرواية آلموت لمؤلِّفها بارتول واحدة مهمة من عدة عوامل ساعدت على تشكيل هذا البوح الخجول وظهوره – خاطرتي هذه الهينة اللينة المتواضعة. فأنا مجنون منذ عهد قريب بزيارة القلاع والحصون، بدءًا بقلعة مصياف، التي لا تقل أهمية عن آلموت ودورها في ذلك الزمن العصر الوسيط، ومشيًا على الأقدام.
أحد أبراج قلعة مصياف (عدسة: رشا عروس) أنا في البرية: يعني أنا في نعيم متعة الإصغاء للطبيعة، للنهر، للوادي، للحجارة المزلزَلة الآن، الغنية الثرية سابقًا، أكانت بيتًا صامدًا أو رقيقًا شفافًا يغنِّي وينشد للشباب والشيوخ، للفرح وللحزن! ألم يقل أحدهم: "العمارة موسيقى صامتة"؟! أعتقد أنْ ليس فينا الآن مَن يوافق حسن الصباح على ذلك الحكم القصاص بالجلد أو بالقتل، على الرغم من شرعيته في إقامة حدود الله أو حدود الوطن! لماذا؟ أأدري؟! لا، لست أدري! لأن حسينًا، ابنه، تمرَّد وخَرَقَ القوانين التي ظنَّ أنه مُستثنى منها، ولا يمكن لها أن تطاله أو أن تُطبَّق عليه – فهو يكفيه براءة أنه فقط ابن حاكم آلموت، وقد نسي أنه يكفي "سيادة القانون" أنه فقط جندي "قاتِل" أو "شارب خمر" في جيش آلموت، تحت قيادة سيدها، الذي يثيب الجنود المقاتلين ويعاقب الجنود القتلة أو المُخِلِّين بفضائل الجندية وآدابها، أولئك الجنود المؤتمَنين على الدماء الزكية والتراب الطاهر – سيدها الذي بموته ماتت ديموقراطيةُ آلموت وحريتُها ومجتمعُها خليةُ النحل، ومات مبرِّر وجودها: صنع العسل! وامحَّى بفقده قانونُها من الوجود منذ دمارها. سُحِبَ مع مَكْرُماته ومآثره من أسواق كلِّ أنظمة الحكم، بألوانها وأطيافها كافة، منذ ذلك الوقت، واغتيلت هذه النوعيةُ من العدالة بدورها معه، فسُحِبَتْ من تحت بساط الشعوب، كي لا يفكر أيُّ شعب ولا يخطر على باله نهائيًّا إحياءُ مثل هذه العدالة المفرطة، أو حتى التذكير أو التلميح إليها – إطلاقًا وإلى الأبد! هذه القلعة الأرملة الحزينة فقدتْ بعلَها حسن الصباح، الذي سخر منه نظام الملك، الصدر الأعظم، في خديعته المشهورة، بإقدامه على سرقة القسم الأعظم من دراسة أعدَّها حسن الصباح، خلال أربعين يومًا الرهان، عن أوضاع الإمبراطورية الشاملة: اقتصاد، بيئة–رفاهية، بيئة–مجاعة، فنادق ومسابح للأصدقاء فخمة، سجون وزنزانات بمياه كبريتية للأعداء مظلمة، منافقون خُلَّص وآخرون مترددون، وأدمغة مهاجرة – لوضعها بين يدي السلطان السلجوقي! جَعَلَه رفيقُ الأمس، بدناءته تلك، هزأة! – هزأةً أحالت حسن الصباح وكأنه محكوم عليه بالموت. لكنه، ليكون بارًّا مع حدَّي إيمانه – "لا شيء حقيقي، كل شيء مباح" و"إتقان فنِّ السيطرة على العواطف" – استطاع أن يرمِّم هشيم نفسه ومشاعره وإنسانيته التي عبث بها صديقُ البارحة، إذ حنث بوعده، وتنكَّر لميثاق الأشقياء المشاغبين، الأذكياء الثلاثة: حسن الصباح عمر الخيام نظام الملك استطاع حسن الصباح أن يهرب، مع أنه ليس "مطلوبًا من العدالة"، وفق تعبيراتنا ومعاييرنا الأمنية المعاصرة، لكنه يأنف حياة الخوف والضعة والتخفي الذليلة؛ فمضى مسرعًا يستظهر مشروعه القادم مراتٍ ومرات – مشروعَ دولة سوف تطيح برأس نظام الملك، الصدر الأعظم، وبرأس سلطانه ووليِّ نعمته ووليِّ نعمة أولاده – وعددهم بعدد أشهر السنة! ألا قاتَلَ الله الخوفَ من الفقر وتبعاته، يا نظام الملك! أليس هو الفقر بعينه شاهد واضح وجليٌّ على عدم وجود أية حالة إيمانية حياتية إنسانية؟ أليست هذه "المدجنة" التي أنجبتَ هي وراء مؤامرتك؟ – لكي تحافظ على سوية تَرَفِ أولادك ورفاهيتهم ونعيمهم وتأمين السكن الشرعي – الذي مواصفاته، في أيامنا هذه من الألفية الثالثة، للطلقاء – عفوًا، للمطلَّقات! – ثلاث غرف ومطبخ وحمَّام وفسحة سماوية ومرحاض لكلٍّ منهم، فلا يكون مستقبلهم على كفِّ عفريت! دولة ضمن قلعة، سوف تتسع حدودُها تدريجيًّا، بكلِّ أناة وروية، ولسوف تبث الرعب وتنشره في نفوس وقلوب مَن يرعبنا اسمُهم ويثير فينا الذعر والهلع، حتى أيامنا هذه، – التتار، – ليس لقوتهم وبطشهم وكم سفكوا من الدماء، بل لأنهم الجراد بعينه! فزحفهم لم يحمل جديدًا إلينا غير نهمهم وشراهتهم، على طول مسافة وجودهم وبقائهم في مطابخنا ومطاعمنا الكبيرة! دولة ضمن قلعة ومشروع "دين" جديد – لا غنى عنه لأية دولة تفكر في الظهور إلى الوجود. وقد يكون هذا الدين مع أولى لبناتها ناجزًا، فيكون عمر هذه الدولة قصيرًا جدًّا، وقد يواكب أو يترسَّخ عبر طبيعة تطور الدولة لبنة لبنة، فيكون عمر هذا الدين طويلاً جدًّا – ينقض، يدكُّ دينَ الملوك والطغاة، بقواعد جديدة، عادلة، إنسانية، عسيرة الفهم على "الأنا"، الذي لا يتقن فنَّ السيطرة على الشهوات، الأدنى بكثير من إتقان فنِّ السيطرة على العواطف! لا شيء حقيقي، كل شيء مباح! وهذه، مع الأسف، هي التي وقعت في الفخ، لكنها لم تبتلع الطُّعم السام، فنجتْ؛ لكنها بقيت، زمنًا طويلاً، مشجبًا يعلَّق عليه جهلُ وتعصبُ فئة – لنقل هي "الجبرية"، ولنقل إنها انقرضت، أو هي في طريقها إلى الزوال، لأنها، بتعنُّتها، تحفر قبرها بأظافرها – ركبتِ الموجةَ المخالِفةَ تمامًا لفكر "الاختيار"، فكر المعتزلة، ومسألة الحرية الإنسانية، ولكلِّ من قال بأقوالهم، حتى ولو خالَفَهم في بعض نقاط الالتقاء على الأصول الخمسة – "العدل"، "التوحيد"، "الوعد والوعيد"، "المنزلة بين المنزلتين"، "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" – التي اجتمع عليها المعتزلة. ولنقل إننا لسنا مضطرين إلى الخوض في هذا الموضوع الفضفاض علينا، محافظةً منَّا على غاية شكوانا المنشودة: علم الاجتماع. وهذه الأخيرة – مع الأسف الشديد! – هي التي اجتهد عليها الفقهاء؛ وقد أخطأوا في شرحها وأساؤوا فهمها وتأويلها، فألَّفوا عليها، وليس لها، ملايين الصفحات السوداء، ولم ينسوا أن تتقاطع هذه الملايين السادية السوداوية مع ألوف الحكايات والاتهامات المنسوجة بإتقان، لم يخرجوا فيها، كما أسلافهم ولواحقهم، ندماء الملوك الظرفاء الجبريين، من المخدع والطهارة والنجاسة! ترى ما هو رأي فقهائنا الأعزاء وأحكامهم في طهارة ونظافة العامل الألماني أو الفرنسي؟ – الذي يستحم ثلاث مرات يوميًّا: قبل الذهاب إلى معمله، وإبان مغادرته المعمل، وعند خروجه للسهرة أو للتنزه مساءً، وحيدًا أو مع "الرأي الآخر"، على ضفاف السين أو الرون أو الراين – وهل يجب إيضاح جنس "الرأي الآخر" أو التعريف به، ذكوريًّا كان أم أنثويًّا؟ فقد غفلوا – أو تغافلوا – عن طهارة النفوس ونجاستها ودنسها وزناها، وكأنهم هم المفوَّضون – من الله تحديدًا – كما ملوكهم، بتعيين وتحديد نوعية الماء وجودة الصابون والعطور وأحمر الشفاه وأثواب العرس ومزيل رائحة الآباط، للَّواتي وللَّذين يريدون الزواج، أو لِمَن يتأهبون لاستقبال الزوار والضيوف في الأعياد الدينية والقومية وأعياد "زواج" أو "خلفة" أو "ختان" أبناء أولياء نعمتهم الملوك! وللإنصاف، لهم حسنة واحدة: فلقد حافظوا على سوية عدائهم لهذه الطائفة وللأخريات، وعلى روح البغضاء، في سبيل "ابتغاء" مرضاة السلطان، وبعدها "ابتغاء" مرضاة الله! وإذا ما حدث وتأخر قليلاً في الصعود والسموِّ – ابتغاءُ مرضاة الله هذا! – على طريق–أوتستراد أرض–سماء الذي شقَّه تطور العلم على حسابه الخاص لأجل سعادة الآخرين – بسبب إهمال وتلكؤ الحوذي أو تعتعة ساعي البريد – فالله واسع المغفرة ويعفو عن كثير: - اذبحوا هذه الطائفة الملحدة المرتدة من الوريد إلى الوريد! ترى هل ذُبِحَتْ هذه الطائفة، أو ذُبِحَ غيرُها، من الوريد إلى الوريد؟! أشك في ذلك! على الرغم من أني، كما أسلفت، لست في صدد مقاربة الأديان – أية أديان – بقدر ما أنا في صدد رفع لواء الألوية الاجتماعية والانحناء إجلالاً لها ولمكانتها السامية في النفوس. فمهلاً، أيها الفقهاء، وعلى رسلكم، ورويدًا رويدًا! فلقد سلكتم طريقًا مسدودة. فالحياة لا ترتد القهقرى إلى الوراء. واسألوا أهل "علم الاجتماع" إن كنتم تريدون النجاة فعلاً! فأبناء هذه الطائفة أو تلك يعيشون الحياة الطبيعية جدًّا، مثلهم كمثل بقية عباد الله. فيهم الذي يصلِّي – وهذا يعني أن متَّحداتهم فيها جوامع؛ – وفيهم إذًا الذي يصوم، ويحج، ويزكِّي، ويؤدِّي الخدمتين، الإلزامية والاحتياطية! وفيهم شارب الخمر، والمقامر، والزاني، والغني، والفقير، والبخيل، والقومي، والقطري، والماركسي، والمؤيد لنظام نيجيريا، والمعارض لنظام ماليزيا! ومنهم أدباء كبار، وعلماء أصحاب نظريات، وفلاسفة، وحتى رجال أمن وجمارك – يرتشون أو لا يرتشون؛ فهذه مسألة أخرى ليس هاهنا مجال ترجمتها! ولهم مع الجِوار وفي المتَّحدات التي تُظِلُّهم أشجارُها – قوانينُها الوارفة – علاقات واسعة، على رأسها "المصاهرة". وهم، عملاً بالمأثور الشعبي الرائع، يبنون في كلِّ مدينة أو قرية "بيتًا"، يعني صديقًا حميمًا! وبلا أدنى شك أو أقل ريبة، أيُّ مجتمع يوجد فيه رجل واحد لا يشبه واحدًا من هؤلاء الرجال ليس بمجتمع، ولا تعترف به هيئة الأمم المتحدة! واسألوا أيضًا أهل "علم الاجتماع"، إنْ كنتم فعلاً تريدون النجاة! لا شيء حقيقي، كل شيء مباح! سامحكم الله أيها الفقهاء! لماذا اجتهدتم على هذه من الخلف؟! تجوَّلوا اليوم في شوارع دمشق أو بيروت وعمان، وحتى بغداد التي تستعد الآن لاستقبال الشتاء الأمريكي القادم القارس! فإذا استطعتم أن تميِّزوا الشبابَ من البنات الصبايا، فأنتم سلاطين زمانكم وفقهاء حقًّا! والله، ثم والله، ليس عيبًا وكفرًا وإباحيةً إذا أرخى الشباب شعرهم الطويل أو ضَفَروه كما الشابات! إنها الحرية والاختيار. أليس لهم حظُّهم من متع التذوق؟ ألم يُلَقَّب المنذر بن ماء السماء بـ"ذي القرنين" لأنه كانت له ذؤابتان يضفرهما في قرني رأسه فيرسلهما؟! فللمرة الثانية، سامحكم الله، يا أيها الفقهاء! آمِنوا بتغير الأحوال والتطور والارتقاء. فنحن وأنتم لسنا، ولا يمكن لنا أن نكون كما كانوا في غابر الزمان، الذي اغبرَّ في بعض فتراته، كاسحًا الأخضر واليابس! ليس حقيقة أن كلَّ المدن نظيفة. لذلك مباح لنا ولكم، حضرات الفقهاء، أن نختار لإقامتنا وحياتنا المدينة التي لا تعمل آلياتُها على المازوت، ولا يوجد في وسطها أو على شاطئها معمل إسمنت، ولا يرمي أهلوها أكياسَ القمامة في عزِّ الظهيرة وفي الحدائق العامة! وليس حقيقة أن كلَّ العذراوات الجميلات متعلِّمات. لذلك مباح لفقهائنا الجميلين أن يُعرِضْن عن الزواج والاقتران من الأمِّية التي لا تملك كفاءة تعليم أولادهم مستقبلاً، حتى ولو كانت ملكة جمال الكون! وليس حقيقة أن كلَّ الأنظمة الملكية أو الاشتراكية عادلة. لذلك مباح لفقهائنا أن ينصحوا ويرشدوا، وحتى أن يحذِّروا، كما أباح حسن الصباح وغيره من رجالات التاريخ لأنفسهم اختيارَ الطريق الأقْوَم والأصعب، أو أن يهاجروا – فأرض الله واسعة! – ويجدوا فيها "مراغمًا كثيرًا وسعة". وهذا الطريق الأسلم، ويليه الاختيار الآخر، الأخطر والأشد شِرْكًا وكفرًا، وهو الطريق "الأدسم": السهر الدائم على الجلوس إلى موائد الملوك، الذي لم يَرِدْ ذكرُه إلا في معجَمَي أبي هريرة وأشعب! وليس حقيقة أن كلَّ الذين يؤكدون على مسألة الحرية الإنسانية، "غايتهم" انتزاع صكِّ البراءة من صَلْب المسيح أو من قَتْل الحسين! لذلك مباحٌ لفقهائنا أن يضعوا أو أن ينحتوا هذا الشعار: "مَن اتجَّر بغير فقه، فقد ارتطم في الرِّبا"، بدل الميزان، شعار التجار، على أبواب محاكمهم، إذا كانوا فعلاً ضد إعادة صياغة محاكم التفتيش أو ترميمها! وليس حقيقة أن "العاهرات" غير قابلات للتوبة والإصلاح والصلاح. ولهذا أباح لنفسه جارُنا أبو حسين – وهو من ذوي السمعة العطرة والسيرة الحميدة في الأربعينيات من القرن العشرين – الزواجَ من واحدة منهن، بعدما دفع للدولة نفقاتِ وغراماتِ عُتْقها، فأخْرَجَها من دار للبغاء مشهورة باسم "بحسيتا" في مدينة حلب. وبعد عام من زواجهما، أو أكثر قليلاً، يمَّما وجهيهما شطر الحجاز الشريف، وأدَّيا فريضة الحج ومناسكه، بنفس رضيَّة مطمئنة، أكثر رضا وطمأنينة من نفوس حجيج ذلك العام، المضيء بالنسبة للزوجين المخلصين الذين بقيا عاشقين حتى مماتهما! – وهذه، ولا حاجة للأيمان الغليظة، ليست من نَسْجِ خيالي ولا الخيال العلمي! إنها واقعة حقيقية، كحقيقة آلموت وتدمر وصيدا وصور وقرطاجة، ميناء تونس الجوي الذي نشر ظلَّه عليَّ تسعين دقيقة في شهر حزيران من العام 1968! فالزوج من أتباع حسن الصباح، لكن على أيِّ وجه من أوجُه الإتباع والانتماء والإيمان هو، لست أعلم! لكن ألستم معي – أنتم الذين بدأتم تميِّزون بين "فقهاء النصح" و"فقهاء الصحن" – أنه، بمفردات حياته العفوية ومفاتيحه الشعرية الجميلة، مع أنه كان يكاد ألا يستطيع أن يكمل رسالة من ثلاثة أسطر لأخيه في المهجر، يشبه إلى حدٍّ كبير مفردات حياة شاعر فرنسا الكبير جان جونيه، اللقيط واللصِّ والشاذ ونزيل السجون لأكثر من عشرين مرة، الذي كَتَبَ الكثير عن قضيتنا الفلسطينية وزار المخيمات والمواقع التي نُفِّذَتْ فيها وأُجْرِيَتْ عليها أكثر من كارثة ومجزرة، والذي كَتَبَ عنه مفكرُ فرنسا الكبير سارتر مجلدًا من 600 صفحة. ومفاتيحه الشعرية حين سألتْه تلك الصحفية: - أتؤمن بالله، يا جان جونيه؟! فأجابها باطمئنان وعمق كبيرين أربكاها زمنًا: - أؤمن بإيماني بالله! والزوجة المخلصة، الصالحة والوفية لتوبتها، من أتباع ورعايا فقيه آخر. لكنهما قرَّرا أن يجلسا فوق مقعد واحد في حديقة مدينتهما العامة – وكان لهما ذلك. فقد سَرَتْ في دمهما وأنارت مَدَييهما "خلطةُ" الفسيفساء السوريةُ الامتياز، المأوى والملاذ: الأكراد، الأرمن، الشراكس، إلى آخر حبة في هذا العقد الجميل، الذي ذَكَرَه "لورنس العرب" في كتابه أعمدة الحكمة السبعة على وجه سلبي قاتم، لمحاربتنا – في الاتجاه المعاكس دائمًا – كألغام وقنابل حدودية نفسية موقوتة! ولو أنهما الآن على قيد الحياة، لكنتُ دعوت مَن يرتاب في صدق روايتي إلى شرب فنجان قهوة معهما، في عمره لم يَذُقْ أطيب منه ولا أشهى! أو قد يباغتني متشككٌ حاذق أو صحفي، هو أديب أكثر منه قلمًا إعلاميًّا: - أرغب في فنجان قهوتك هذا مع أيٍّ من أبنائهما. فأهمس في أذنه، على انفراد وفي شرود عصبي، وأنا أعالج دموعي وعبراتي، تمامًا مثلما يعالج هاربٌ من الجلاد والنطع قبضةَ باب الكنيسة أو الجامع: - عيبهما الوحيد، يا صديقي العزيز، – تهمتهما الوحيدة – هي أنهما لم ينجبا... لم ينجبا أولادًا صالحين، ولا أولادًا مشاغبين أذكياء مثلك! وبعد، ترى هل هذه هي مسيرة القادة الكبار والأنبياء دائمًا؟ أعتقد ذلك. فالتاريخ مليء يغصُّ بهذه النهايات الظالمة. فهؤلاء النخبة الذين يجيئون بالكلمة الجديدة، ويذهبون تصحبُهم رعشتُها اللذيذة، يؤكدون أن قوى خفية أرسلتْهم للإنقاذ. وساعة رحيلهم، احتضارهم، يمكن لهم، من باب فتح كشف حساب لضمائرهم وعقولهم، أن ينسفوا جزءًا أو بعضًا من كل. أما أن ينسفوا كامل البناء الذي أشادوه وأنجزوه عصبًا عصبًا، ووهبوا له أعمارَهم وجوارحَهم وحواسهم، فهذا مستبعَد، وليس من طبيعة النفوس، حتى ولا من طبيعة الأشياء التي تربأ أن تعبث عبثًا كهذا. والتاريخ لم يحدثنا أبدًا عن زلازل نفسية كهذه، باستثناء ساحات الفنِّ والأدب. كذلك المثَّال الذي هشَّم بفأس تألُّقه رأسَ حبيبته – عجينته الرخامية – لأنها تمنَّعت وصمتت ولم تبادله الهمسة والقبلة والنشوة! وبعد، فهذا الذي يمكن أنه، من حيث لا ندري، اعتوره الخطأ، أو داخَلَه الفسادُ في الرأي في بعض ما طرح بتلك العفوية والنية السليمتين، أليس من حقِّنا جميعًا أن نسأل – ومعنا الفقهاء بنوعيهما النقيضين: - من هو السعيد ومن هو الأكثر إنسانية من هؤلاء القادة والمفكرين؟ فلربما اتبعناه وتعقَّبنا خطاه، ولو بعد فوات العمر. فلعلنا أن نموت هادئي البال، مرتاحي الضمير؛ أو على الأقل نموت في صمت، دونما أية ضجة أو جلبة تزعج الآخرين، المنكبِّين على العلم والمعرفة والكشف عن الدروب المؤدية إلى المجتمع المعطف، العلم، المعرفة: هل هو حسن الصباح الذي كان محور سطورنا السابقة؟ هل هو الثنائي الجميل: أبو حسين وأم حسين؟ – اللذان كبرا على التعصب وضيق الأفق، وحلَّقا عاليًا في ذلك الفضاء الرحب. هل هي أليسار؟ – صُوْر الفينيقية، أميرة قرطاجة وعروسها. هل هو عمر الخيام؟ – الشاعر الفيلسوف الذي داهم في شعره كلِّه أسئلتَنا الأبدية: الكون، العدم... وحُقَّ له أن يحيا تارة بين الأرائك والبرك والخمر، وأخرى بين النجوم والكواكب. هل هو نظام الملك؟ – الذي انشغل جلَّ وقته بإصدار قرارات العَزْل والتنصيب والحَبْس والإعدام. هل هو أنطون سعادة؟ – الذي أُعدِمَ خلال أربع وعشرين ساعة في إثر محاكمة اقتصرت فقط على اتهامه بتقسيم البلاد ونشر البلبلة والفوضى في البلاد التي كانت وليمة – والذين سلَّموه وسجنوه وحاكموه وأعدموه "ذئابها"! هل هو تولستوي؟ – الذي وزَّع أمواله وأراضيه على فلاحيه. هل هو كارل ماركس؟ – الذي قَبَرَ ابنه في حديقة بيته في صمت. هل هو هنيبعل؟ – الذي لاحقَه وتعقَّبَه الرومان حتى مسقط رأسه إسكندرون. أم... هل هو الآن جورج بوش الابن؟ – الذي يلاحق ويتعقَّب أبطال المقاومة في غزة وجنين والقدس، مستظهرًا القاعدة الفقهية التلمودية، مترنمًا بها: "ذمُّ الدفاع عن النفس والوطن"! 11 أيلول 2002 *** *** ***
|
|
|