أين المتهوِّرون، حارقو الحياة؟!

أجملُ الحريق وذروةُ الجِدِّية في مُنتَهى اللَّعِب والعَبَث؟

 

حوار مع أنسي الحاج[*]

 

تتردَّد قبل أن تطرق بابَه في آخر النهار. ربما لا يزال نائمًا، ربما استيقظ – هذا الكائن "الليلي" الذي يبدأ نهارُه عند منحدر النهار، في المساء الأول من الليل، حين يعود الآخرون إلى مساءاتهم.

لم يزلْ، كعادته، في الوجهة المعاكسة للوقت، للزمن أيضًا، للنهار المليء، للآخرين الذين يملؤون الأمكنة، حتى تكاد أن تسأله عن هذه العلاقة "المشبوهة" بالليل، بالفجر، أو بالصمت. لكن الشاعر لن يجيب – شاعر مملكة الليل.

هكذا يعيش الشاعر أنسي الحاج. أو هكذا اختار أن يعيش بعيدًا عن ضجة النهار. يُقبِل إلى أشيائه الخاصة وإلى فضائه الحميم، أو ينسحب إلى وحدة من نوع آخر.

منذ سبع سنوات، أعلن أنسي الحاج صمتَه. تكلَّم قليلاً، على الرغم من إيمانه بأن الكلام لم يكن ممكنًا إبان الحرب – ولا يزال. حاول أن يتوارى قدر المستطاع، أن يحقق انسحابَه المتكامل من عالم ليس عالمه، ومن زمن بدا مستحيلاً. في هذه المرحلة، عاش أنسي الحاج أقصى أنواع الوحدة وأنواع الصمت. الذين كانوا يرونه ما عادوا يرونه إلا نادرًا، والذين كانوا يقرؤونه أو يعاقرون قراءته ما عادوا يقرؤونه، لأنه ما عاد يطل عليهم – إلا من خلال كتبه ومقالاته القديمة.

في هذه المرحلة، لم يكن أنسي الحاج إلا شاعرًا، على الرغم من أنه لم ينقطع يومًا عن حياته الصحفية. كانت الصحافة آنذاك نوعًا من اللهو والعبث واللاجدوى في وسط السقوط الكبير، وكانت محاولةً للبقاء على هامش الحياة الهامشية. لم ينقطع، لكنه لم يوقِّع، أو لم يكتب، إلا الأشياء التي تعنيه، الأشياء التي توازي الموتَ الإنساني الذي غزا الأرضَ لسنوات. وفي وسط هذا الأفول، لم يعد يعنيه أن يظهر – ولم يظهر. والحرب، خاصةً، لم تُغْفِل شيئًا، بل مَحَتْ الملامح كلَّها.

كما كان أنسي الحاج شاهدًا في زمن السِّلم، كان شاهدًا في زمن الحرب. وها هو ذا يخرج من صمته الطويل، يتكلَّم كما لم يتكلَّم من قبل. لكنه رفض أن يحكي عن الحرب. رفض أن يحكي عن السقوط الكبير. لم يحكِ إلا عن الشعر والجنون والمرأة. أي لم يحكِ إلا عن قلقه الدائم.

وكتاباه لن والرأس المقطوع صدرا في طبعة جديدة[†]، وهما يجسدان مرحلة مضيئة، باهرة، من مراحل الشعر العربي الحديث.

في لقاءات ثلاثة، في ليالٍ ثلاثة، امتدتْ إحدى حلقاتها حتى الرابعة فجرًا، حاولتُ أن أسأل أنسي الحاج، وأن أصغي إليه.

ع.و.

***

 

لن والرأس المقطوع ثانيةً[‡]

بعد نحو ربع قرن على صدور مجموعتك الشعرية الأولى لن [1960]، وبعد صدورها في طبعة ثانية، كيف ينظر أنسي الحاج إلى كتاب لن وإلى مقدِّمته التي أحدثتْ تحولاً في الكتابة الشعرية العربية وشكَّلتْ منعطَفًا في مسار الشعر العربي؟

أجدني، بعد هذه السنين كلِّها، وأنا أكاد أن أكون ملخَّصًا في أول كلمة من قصائد لن وفي آخر كلمة منها. الكلمة الأولى: "أخاف"، والأخيرة: "حرية". أما المقدمة، فلن أقول لك إني كنت أتمنى لو استطعت أن أستغني عن كتابتها. فليس أسوأ من التنظير في الشعر. ولعل ما يهوِّن عليَّ اضطراري يومذاك إلى كتابة المقدمة هو أنها تحمل وقاية ذاتية من الوقوع في ما تحذِّر منه، ومن خيانة ما تدعو إليه.

نحن، على العكس، نرى في المقدمة حاجةً ماسَّة فرضتْها الظروف الشعرية والثقافية في تلك المرحلة التأسيسية – خاصةً أنها حملت "المعنى" الواضح لقصيدة النثر الكثيرة الحذر. وهي نابعة من التجربة الحية والاختبار الحقيقي، وليس من النظريات أو الإيديولوجيا الشعرية، بعدما جمعت بين قصيدة النثر واللغة. وفي كلام آخر، تمكَّنتْ مقدمتُك من أن تضع حدًّا للالتباسات الكثيرة التي أثارتْها الحداثةُ، والتي لا تزال مُثارةً حتى اليوم.

عندما أقول إني "اضطررت" إلى كتابة المقدمة، فهذا ما أعنيه. أعني أنها كانت ضرورية، تاريخيًّا، لإرساء نوع جديد. ولو أتيح لي أن أبدأ من جديد، لكتبتُها من جديد. وعندما أقول إنني كنت أتمنى لو أني استطعت الاستغناء عن كتابتها، أقصد أني أحب للشعر أن يدخل مباشرةً، دون وسيط من خارجه. ولكن، كي أكون صادقًا، يجب أن أعترف بأني، على الرغم من إقلالي كثيرًا جدًّا من التنظير والكلام على الشعر، لا أكره، من حين إلى حين، أن أتكلَّم عليه. لا أكره ذلك، بل أجد فيه سحرًا خاصًا، وأكاد أن أقول شعرًا خاصًّا. كأنك تتغزَّل! ولعله هكذا: هو من الشعر، مثل الغزل من الحب.

لكنك لم "تنظِّر" في المقدمة، بقدر ما كتبتَ عن تجربة عشتَها في الجسد والعمق!

هذا ما يعزِّيني. أسوأ ما في التنظير أنه يضع حدودًا خارجية لشيء هو في طبيعته متوثِّبٌ ومغامِرٌ ويرفض الحدود. إذا كان التنظير مستمَدًّا من نظرة إلى الشعر السائد، فلا بدَّ أن تكون آفاقُه محدودةً بحدود ما وصل إليه الشعرُ السائد. وإذا كانت نظرتُه مستمَدةً من شعر وهمي، أو من تصوره للشعر، فهذا معناه أنه، شاء أم أبى، يضع إيديولوجيا للشعر.

في الحالتين، الخطر الكبير هو خطر التحنيط، خطر التقديس. آمل، في مقدمة لن، أن أكون تجنَّبتُ هذا الخطر. لذلك أعتبر أن المقدمة هي "تنظيرية" في الحدِّ الأدنى من التنظير. وهي كتابة عن الشعر مفتوحة – باستثناء المقاطع المتعلِّقة بمحاولة استخراج ملامح لقصيدة النثر، تميِّزها عن بقية الأنواع وترفعها من الغَمْر.

مازلت تقول، حينًا فآخر، أنك تخاف كتاب لن، أو تخافه حين تفتحه؛ بينما نحن – الجيل الجديد – نرى فيه الكتاب–الحَدَث: الكتاب الذي بدأ زمنُه ولم يبدأ، لأنه كتاب المستقبل. لأنه يملؤنا، ويحتوينا، ويحتوي هذه "الغرائز السماوية" التي تنتابنا في الكتاب، يحتوي صفاءنا وخوفَنا وتوحُّشَنا الصافي، جنونَنا. كأنه كتاب الأجيال الطالعة من هزائمها الداخلية والخارجية! كيف تخافه؟

كما يخاف المرء من أشباحه! استودعتُ لن عصارةَ تجارب وهواجس عشتُها منذ الطفولة. كتبتُه كمن يلقي بحمل عن ظهره. وعندما أهرب منه اليوم، فإنني أهرب من أكثر هواجسي التصاقًا برأسي. وأية غرابة في ذلك؟ إنني أمضي حياتي في الهجس والهرب. أظن أن مالارميه هو الذي يشبِّه الكتاب بالقبر! أحيانًا لعلَّه هكذا. لكن لن هو أيضًا مكان سحري، غابة في منتصف الليل، تسرح فيها كائناتٌ فالتة من كلِّ عقال. كأنه قبر مفتوح!

أسباب عدة تجعلني أهرب من لن. منها أيضًا لغتُه. كلُّ ما يربطني بمرحلة خرجتُ منها. مرحلة يزداد خوفي منها بنسبة ما يزداد شعوري بقوَّتها.

خوفك من لن، ألا يعني أحيانًا خوفَك من مواجهة ماضيك أو طفولتك المنحرفة والناقصة؟

أخاف، عندما أعيد قراءة لن، أن أكتشف أن هواجسي فيه لم تجد أيَّ حلٍّ لها. إن في هذا الشعور رعبًا قاتلاً. كأني، بعد لن، أخذت عطلة، ورحت أقنع نفسي بأن إنسان لن لم يكن، وبأن هذا الذي يكتب الآن هو شخص آخر. ولكن مَن يستطيع أن يحكم أيَّ الحياتين أصح، وأيَّ الشخصين أفضل أو أسوأ؟

أتريد أن أعترف لك بأمر؟ بعد جفاء طويل بيني وبين لن، أعود اليوم لأبدأ من جديد حبَّ هذا الكتاب. وأنا قلق من ذلك، لأن هذا معناه أن "المفردات" استُهلِكَتْ، وأن دورة الكائن قد تكون مهددة بالعودة إلى نقطة البداية.

هل يعني أن الدورة سوف تُعاد؟ هل تؤمن بتكرار الأشياء والأفعال والأحداث؟

بلى، هناك عودات، ولكن من غير تكرار. عندما يعود المجرم إلى مكان جريمته، لا يعود ليرتكبها من جديد! ليس هناك ربيع يشبه ربيعًا. ومع ذلك، ففي كلِّ سنة يعود الربيع. العودة قانون خفي يسيِّرنا كلَّنا. ولكن حذارِ أن نفهم "العودة" بالمعنى الرومنطيقي المألوف. هذه العودة لا معنى لها. إنها لَهزيمة! إذا عدتُ إلى نقطة البدء فلكي أجمع ما كان مفرَّقًا في مراحلي كلِّها. وعلى الرغم من أني في الأساس، وبطبيعتي، أؤمن بجَمْع الأضواء، ولا أفصل فصلاً أخلاقيًّا عدائيًّا بين الخير والشر، حَدَثَ لي، أحيانًا، أن سهوتُ عن هذا المبدأ، وإنْ يكن سهوًا عابرًا. والعودة تجعلني أصحِّح هذا السهو. في الحقيقة لا أظن أني غادرت أيَّ شيء كي أعود إليه. كلُّ ما هناك أني أكملت قَدَري، بلعناته وبركاته. تنوَّعتْ لهجاتي، وبقي صوتي واحدًا.

أنسي الحاج لن هو أنسي الحاج ما بعد لن أيضًا. وأنا لا أميِّز بين لن وبين سائر مجموعاتك الشعرية الأخرى، وحتى قصيدتك الطويلة الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع [1975] – أي بين ما بدأتَ به وما وصلتَ إليه – لأن لا حدود هنا للكتابة الشعرية، ولأن الجذور الشعرية واحدة، والأفق الشعري واحد. فإن كان لن كتابًا طالعًا من الصوفية المتوحشة ومن "الغريزة السماوية" ومن الصدفة والجنون والموت والإثم، أو من الحضور السلبي لله، فكتبُك الأخيرة حاولتَ المصالحةَ الجديدة مع الزمن المرجوِّ أو الزمن السماوي، حين ازدادت الغريزة السماوية الأولى صفاءً، وحين انقشع الجنونُ والموت، فخرج شعرُك إلى متَّسعٍ من النقاء الداخلي واللغوي!

هذا ما قصدتُه عندما أشرتُ إلى وحدة الكائن – وإن كنت لا أحب كثيرًا تعبير "المصالحة"، لأني لا أحب مفهومه الشائع، الذي يعني، في ما يعني، التسوية والاستسلام. فلا أنا ساومتُ ولا أنا استسلمت. أحببت. هذا كلُّ ما في الأمر. هذه هي منطقة النور في عتمتي. وهذا هو الضعف في قوتي.

إني أشكرك على عبارة "الغريزة السماوية". إنها جميلة جدًّا، بصرف النظر عن لن. كذلك كلامك على "الحضور السلبي لله". إنها صورة ترينا الله كاذبًا عوضًا عن أن يكون صادقًا، ومديرًا لنا ظهره باستخفاف وهزء عوضًا عن أن يأخذنا على عاتقه. وهكذا كان الله معي، أو أنا كنت مع الله، في لن.

قال بعضهم إنك استسلمت في الرسولة...، بينما أجد أن جذور هذه القصيدة هي في مجموعتك الأولى لن: فالعناصر التكوينية شبه واحدة؛ لكنها، في حالات مختلفة، تغرق أحيانًا في عتمة الروح والجنون واللاوعي، وتخرج في أحيان إلى الصفاء وإلى الانقشاع. منتهى السلب يلتقي منتهى الإيجاب.

أضحك عندما يقولون إنني تعبت وسلَّمت السلاح! أين يرون هذا؟! إنهم يعتبرون الحبَّ خيانةً للثورة. هذا يعني أنهم يعتبرون الثورةَ حالةً من عدم الحب! هل يجب أن يكون الثوري خصيًّا، أو هو كائن نظري جامد، لا ينبض؟! هذه الثورية جثة محنطة. على كلِّ حال، أنا لست ثوريًّا. لا أحب كلمة "ثورة". أعتبرها مشروعًا خارجيًّا يصبح عَكْسَ نفسه بمجرَّد وصوله إلى مبتغاه. أنا متمرِّد ولست ثوريًّا. وإذا أردت الأصح فأنا فوضوي، حتى في مسيحيتي. علاقتي بالمسيح علاقة شخصية، حرة، علاقة إثم وحماية، علاقة paranoïa. هذه العلاقة أيضًا لم يفهموها. قالوا: ها هو يرتد! وهل المسيح "رَجْعي" لكي تُعتبَر العلاقةُ به ارتدادًا؟! أنا أرى المسيح من خلال المرأة. من خلال الهيام والتجلِّي. من خلال الهذيان والجنون. من خلال الجنس. من خلال عواصف الجمال والرغبة والتجربة وشياطينها.

تقول في شعرك إنه "تكويني"؛ أي أنه شعر ديني، في معنى آخر. ولا أقصد بـ"الديني" هنا المعنى الظاهري للكلمة، بل المعنى الآخر، الغيبي؛ لأن شعرك، وخاصة في لن والرأس المقطوع [1963]، قائم على سياق من "الأحداث" الشعرية، حيث اللحظة الشعرية حَدَثٌ تكويني، وحيث "الحَدَث" الشعري وصولٌ إلى "الغيب" واتِّحادٌ به أو تحقيقٌ له. شعرك يجسِّد الحقيقةَ الغائبة أو يُجاسِدها، انطلاقًا من اللاوعي الدفين، من الصدفة، من الرغبة، من التلاشي الصوفي والتشنج الصوفي!

نعم، شعري هو شعر ديني، خصوصًا في الجانب الملحد منه! وإني أتساءل: أليست تجربة الموت كلُّها تجربة دينية؟ بل أكثر: التجربة الـérotique كلها؟ الأمر يتوقف على زاوية النظر. إذا كنتَ مجهَّزًا للنظر نظرةً ميتافيزيقية، فإنك تستطيع أن ترى البُعد الديني في أيِّ شيء، أو أن تُضفيه على أيِّ شيء: على الغياب، على الحضور، على الحلال، على الحرام. وبكلمةِ "ميتافيزيقية" أقصد المعنى الديني والمعنى المادي أيضًا – كلُّ ما هو "وراء العقل" وليس "وراء الطبيعة" فحسب. الشعر الديني هو كلُّ شعر ينفتح على هذا البُعد. فليس من الضروري أن تدور القصيدة على الله أو الإيمان أو الإلحاد حتى تكون "دينية". ممكنٌ أن تكون قصيدة حب أو قصيدة جنون أو قصيدة عدمية، وتكون دينية. وفي نظري أن دو ساد هو ديني أكثر من بول كلوديل. أكثر وأشد جذرية. إنني لا أرى بين دو ساد والله مسافةً أبعد مما أرى بين الله وبين كلوديل أو بين الله وبين أيٍّ من الأدباء "الصالحين"! وليس هذا من باب المبالغة.

إن النهايات – أقصد "الأقصويات" – عند الشيطان هي أقرب ما تكون إلى البدايات الإلهية. وإذا كان الشيطان، في أحد معانيه، هو الفردية الأنانية، المشحوذة أكثر مما يستوعب العقلُ الطبيعي من معاني الأنانية وطاقاتها، فهل أكثر أنانية أيضًا من المتصوف؟ أليس المتصوف، في استئثاره بالله، هو كالعاشق الذي يدمِّر حبيبته من فرط التملك؟ إنها تساؤلات نابعة عندي من التجربة والاختبار. ولا أتكلَّم على ذلك لأستنتج حُكمًا على الإلحاد أو على الشيطانية، مع الصوفية أو ضدها. كل ما أريد أن أقوله الآن هو أن مقياس الذاتية والأنانية، والاتحاد والموضوعية، مقياسٌ ليس نسبيًّا فحسب، بل اعتباطي. وأعود إلى المقارنة بين دو ساد وكلوديل، أو بين دو ساد وفرانسوا مورياك، لأقول إن من الجائز لنا أن نعتقد، إذا كان الله يحب المدائح، أنه لا يصدِّقها دائمًا، ولا يثق كثيرًا في نوايا أصحابها! وقد يكره الله "الأهاجي"، إلا أنها تقلقه وتوقظ فيه مكامِنَ الشعور بالذنب.

ألا تعتقد أن كلامنا على "الديني" يقودنا إلى الكلام على "السحري" في شعرك؟ فشعرك، وخاصةً في لن والرأس المقطوع، له فعل السحر. أي أنه يملك طاقة كبيرة على التدمير وعلى خلخلة الأشياء والعناصر وتأسيسها وفق "دهشة" جديدة. كيف تنظر إلى هذه الطاقة السحرية في شعرك؟ وما مدى علاقة شعرك بالسحر؟

لا أفصل الشعر عن السحر، ولا الشاعر عن الساحر. لا يكفيني أن يعبِّر الشاعر عن الجمال، بل أريد له أن يَصِفَه. ليس الفن، ليس الشعر ابن الحياة فحسب، بل هو مخترعها أيضًا.

ما هو السحر؟ إنه الطاقة التي تجعل الواقع خرافيًّا والخرافة واقعًا. إنه الخداع الجميل، الأشبه بالمعجزة، والإغراء الأشبه بالجاذبية الـérotique. السحر خزَّان شعري مليء بإمكانات التحرير. ولعل أشده تأثيرًا هو السحر الذي يكون فينا ونجهله. مثل الطفولة.

كلمة "سحر" بالعربية تشتمل على أكثر من معناها: إنني أضع تحت هذا الاسم مجموعة اهتمامات وجوانب، كالاهتمام بالنجامة astrologie والبارابسيكولوجيا والخيمياء alchimie. إنها تفتح الأبواب على المدهش، وتعيد تذكير الشاعر بأن قدرته لا تحدها شاعريةُ الغناء ولا جماليةُ التزيين، ولا حتى عظمةُ الإبداع، بل هو قادر على التغيير، على التحويل: تحويل الإنسان والحياة والعالم على غرار مشروع الخيميائيين في تحويل المعادن بعضها إلى بعض، وعلى الخصوص تحويلها إلى ذهب. لا أظن أن رامبو كان يعني بعبارة "خيمياء الكلمة" هذا الهاجس التحويلي وحده، على الرغم من ندائه الشهير: "تغيير الحياة". من الممكن أن يكون رامبو ذهب إلى معانٍ أكثر "أدبية"؛ إلا أن تحميل عبارته "خيمياء الكلمة" معنى كونيًّا هو أيضًا اجتهاد شرعي، وهو التفسير الذي تبنَّاه الشعراء على كلِّ حال. وهذا هو في الواقع هاجس كلِّ شاعر: ففي أعماق حلمه هناك الطموح إلى السيادة على الزمن. كذلك كان طموح الخيميائيين، من قدامى المصريين، إلى جابر بن حيان، إلى نيكولا فلامِل[§]. وبين حجر الفلاسفة la Pierre philosophale، واسطة التحويل، وبين الكلمة، يجب ألا يقيم الشاعرُ أيَّ تمييز أو عائق.

كيف يستطيع الشعر، بحسب تصورك، أن يغيِّر وأن يحوِّل؟ بل كيف يتم فعل التحويل؟

بقوة الكلمة، بجعل الكلمة تقاطُعًا لطُرُق الخيال والحلم والعقل الباطن وكنوز المشاعر والعواطف ودفائن النفس وأسرار الدخيلاء كلِّها. يستطيع الشاعر أن يجعل كلَّ كلمة ملخَّصًا لعصور، وكلَّ قصيدة حياةً جديدة. دائمًا كنت أتشوق لكي أوصل الكلمة إلى هذا العرش، لكي أعطيها سلطة القرار والفعل. يخيل إليَّ أن الكلمة الشعرية كانت ذات يوم مثل كلمة المسيح عندما أقام الموتى! مثل كلمته عندما شفى المرضى وحوَّل الماء إلى خمر. أنا أريد للكلمة أن تستعيد هذا السلطان. هذا هو حلمي في الماضي والحاضر. سعيت إليه واعيًا وحالمًا، مدمِّرًا ومعمِّرًا. وما زادني واقعُ الخيبة إلا إصرارًا على متابعة الحلم.

والخيبة رافقتْني منذ البداية. فوجئت عندما نشرت أول نصٍّ لي – وكان نوعًا بدائيًّا من الشعر المرسَل، وذلك في مطلع الخمسينات – فوجئت بأنه، على الرغم من نشره في مجلة أسبوعية رائجة، لم يسبب "نتيجة"، لم يغير شيئًا! طبعًا أهلي وأقاربي تغيرت نظرتُهم إليَّ. لكن، ليس هذا ما أقصد. أقصد "الفعل في الواقع". وهذا ما أصابني تباعًا فيما بعد، بعد كلِّ نشر – مع أني ربما كنت من أكثر مَن ووجهوا بردود فعل سلبية، هائجة ومتطرفة، على ما كنت أنشر. ولكن، مرة أخرى، ليس هذا الفعل ولا ردُّ الفعل هما ما أقصد. عندما صَدَرَ لن، قامت القيامة، على الرغم من غموضه، واستمرتْ طويلاً. ومع هذا، على الرغم من تلك الحرب، وعلى الرغم مما يقال عما فَعَلَه لن من تغيير للشعر العربي، لا أزال أشعر بأن ما كنت أتوقعه لم يحدث.

ماذا كنت أتوقع أكثر من ذلك؟ ليس "أكثر" في الحقيقة، بل "غير" ذلك. كنت أتوقع تأثيرًا من نوع آخر: من نوع، إذا جاز القول، إنساني، حياتي، أخلاقي، لا أدبي ولا شكلي. لعل التغيير الشكلي يؤدي إلى التغيير الجوهري. هما مرتبطان عضويًّا، دونما شك. ولكن يجوز لنا التساؤل: لماذا علينا أن ننتظر ريثما يلحق أحدُهما بالآخر؟ لماذا لا يحدثان دفعةً واحدة؟

ولكني، من ناحية ثانية، أتوقف لأتساءل: هل أريد حقًّا لكتابي – لأيِّ كتاب كان لي، أو لأية قصيدة لي – أن ننتقل من "الاستيهام" المكتوب، من الورقة اللاعبة، من الخرافة، من الشكل، من خزانة الرأس الذي يرميها وخزانة الرأس الذي يستقبلها، من هذا النطاق الدافئ المَحميِّ بصمت الانغلاق أو الامتلاك... إلى معترك الحياة الواسع، حيث تتحول الكتابات إلى نتائج محسوسة؟ هل أرغب في التوجيه وأترك المجانية؟ إذا قلتُ شيئًا، إذا حلمتُ بشيء، هل أريد أن يصير بالفعل هكذا بين الناس، وأن يصيروا هكذا؟ وإذا لم يصرْ ولم يصيروا، هل أُصدَم وأشعر بأن في الأمر فشلاً أو خيانة؟

نصل هنا إلى ما يشبه السؤال القديم: التزام أم لا؟ لكنه ليس هذا. إنه، بالأصح، موضوع التزيين أو التغيير. في "الأدب التزييني" أيضًا مجانيةٌ واستهداف. كذلك في "أدب التغيير". المهم هو التوجه، الموقف. ما أعرفه هو أني لم أكتب لأزيِّن. لا لأزيِّن المجتمع، ولا لأزيِّن مكتبتي! إني تمامًا عكس المغنِّي. ولعلي، لهذا السبب، أحب الصوت الجميل. كلا، لم أكتب لأزيِّن. ولكني، كذلك، لم أكتب لأناضل، كما يقولون. لا يضحكني شيء مثل هذه الكلمة الحمقاء! هنالك منطقة ثالثة بين الشارع والمختبر. هنالك جامع، هنالك صاهر – وأنا عرفتُه وخبرتُه – بين الحياة والخيمياء، بين التاريخ والسرمدية. هنالك جسد واحد يلتقي فيه، في انسجام، العلنيُّ والباطني، اليقظةُ والحلم، الشمسُ والليل، مقتحِمُ الأبواب وكاهنُ الأسرار. إننا نريد دائمًا أن نفصل، أن نرفع حيطانًا عازلة، لأننا نريد أن نقيم إيديولوجيا. أنا لست إيديولوجيًّا، أو على الأقل، أحاول جاهدًا أن أتخلص باستمرار من كلِّ ما يمكن له أن يترسَّب فيَّ من حدود إيديولوجية، تساعدني في ذلك ميولي الفوضوية. وكما ذكرت لك، نبَّهتُ في مقدمة لن إلى خطر الإيديولوجيا الرافضة للتغيير بحجة التغيير، والواقعة في فخٍّ تنصبه بنفسها لنفسها. لا أريد أن أفصل. ليس عندي طلاقٌ بين كاهن الأسرار ومقتحِم الأبواب، بين الساحر والمتمرد. أنا هما. وأنا غيرهما أيضًا، على امتداد أشخاصي وشخصياتي وأدواري وأقنعتي.

هل تستطيع الكتابة أن تفعل في الواقع وأن تؤثر فيه؟

قد يكون الجواب أن بيت الكتاب – خصوصًا كتاب الشعر – هو المستقبل. فتأثيره لا يظهر إلا بعد مرور الزمن، حين يصبح زمنُ الآخرين في عمر زمن الكتاب. لكني لا أصدق تمامًا هذا الجواب. قد يتحقق شيءٌ من الشعر في المستقبل (كما رأينا في الماضي). ولكن الشعر لم يتحقق، لم يتجسد، لم يغيِّر الواقع، على قدر ما أطمح له وما طمح له من قبلي سواي. بل إن هناك شعرًا من الماضي – من أجمل الشعر – لا يعيش فينا إلا أدبيًّا، إلا جماليًّا. وكلما تقادم الزمن، ازداد حظُّ هذا الشعر من التأثير في الواقع تراجُعًا وضعفًا. طبعًا، التأثير الجمالي هو درجة من درجات التأثير في الواقع. ولكني أقصد أكثر من ذلك: أقصد الواقع الذي في حجم المثال، لا أقل ولا أصغر. أرفض أن أكتفي للشعر بالحيِّز الزخرفي. أرفض له دور المهرج وتبعية القريب الفقير. أرفض أن يظل الواقع هاربًا من سلطان الشعر. ولا بدَّ لي من أن أظل أؤمن بيوم يأتي، يصبح فيه العالمُ الذي يعيش داخل رأسي هو نفسه العالم الذي أستطيع أن أعيشه في الواقع اليومي إذا أردت ذلك.

هل يأتي زمن الشعر؟ أطرح هذا السؤال، وفي ذهني بضعة من الشعراء وليسوا كلُّهم شعراء. عندما أقول "شاعر"، أفهم كلَّ صاحب "رؤيا" شعرية. ليس هذا فحسب، بل كل صاحب رؤيا شعرية نحو عالم يسوده مبدآ الشهوة واللذة. بهذا المعنى، في ذهني، إلى جانب بودلير ورامبو ولوتريامون ودو نرفال ونوفاليس ويونغ، وإلى جانب آرتو وبروتون وشار وميشو، هناك، في شكل جذري، المركيز دو ساد ودوستويفسكي ويسوع المسيح وهرمس المثلث العظمة ونيكولا فلامِل وباراكِلْسُس[**] وإليفاس ليفي[††] وأفلاطون وشارل فورييه وغيرهم، صغروا أم كبروا، من الذين اخترقوا، أو أرادوا أن يخترقوا، سجن الجاذبيات القمعية التي تحكمنا، لكي يصلوا إلى "أرض ميعاد" الألوهة.

هل أفهم أن هناك استحالةً في التعامل الشعري مع الواقع؟ وإنْ تحقَّق العالمُ الداخلي أو الشعري في العالم الواقعي، كيف يكون مصير الشعر؟

تحقيق الحلم لا يوقف مجرى الأحلام، وتجسيد الخيال في الواقع لا يغلق أبواب الخيال. "أرض ميعاد" الشعر ليست مملكة محنَّطة! ليست صنمًا ولا آية ميتة من فرط كمالها. إنها ملكوتٌ يصير باستمرار. يصير باستمرار، أولاً، لأنه وليد عصور من الخيال المخزون والأحلام والرؤى، وثانيًا، لأن الشعر الذي صنعه لا يمكن أن يموت بعد أن يضعه في الوجود. فالأم التي تلد مرةً تلد مرتين، مثلما أن المنجم الذي يعطيك كمية من الذهب يعطيك كميات. لا تَخَفْ على مصير الشعر. لا تَخَفْ على مصير الحلم. ثِقْ بأن ما يتحقق من المثال في الواقع يبقى دائمًا في حاجة إلى تغيير. والتغيير هو نفسه يبقى في حاجة إلى تغيير. وحتى لو نزل المثال كلُّه من الرأس مئة في المئة، وتجسَّد في الواقع مئة في المئة، سيظل في حاجة إلى تغيير. سيولد مكانه في الرأس مثالٌ آخر ينتقده ويطالبه بمزيد من الكمال. لا تَخَفْ أن تبلغ المُثُلُ كمالَها في الواقع، فلا يعود هناك مجالٌ للشعر وللحلم. وكما يخلق الشاعرُ أشكالَه في حركة مستمرة من التبديل والبحث والمغامرة، كذلك سيخلق الشاعرُ "أراضي ميعاده" المستمرة كلما تحقَّق له منها في الواقع أرض.

وماذا عن هذه "الاستحالة"؟

إذا أردنا التعميم، نستطيع أن نقول إن الواقع هو في قبضة اللاشعر – باستثناء ظواهر شعرية تخترقه أحيانًا، وتلعب في الواقع دور الحليف الهامشي للشعر ضد الواقع.

المرأة

ننتقل إلى موقع آخر: إلى المرأة. للمرأة في شعرك نوعان من الحضور: إنها تجسِّد أحيانًا الحبَّ المدمِّر، العنيف والمجنون، الذي يحرِّر العناصر عبر تدميرها؛ كما تجسِّد، في أحيان أخرى، الحبَّ النقيَّ الصافي الذي يحرِّر العناصر عبر النقاء الحسِّي والأثيري. لكن الطبيعتين، كما شعرك تمامًا، تلتقيان في طبيعة واحدة تجمع التدمير والنقاء، أي الجحيم والسماء، اللعنة والنعمة. كيف ترى إلى هاتين الطبيعتين اللتين تنتهيان في طبيعة واحدة؟ وإلى المرأة وأبعادها لديك؟

هي الحرب وهي السلام! منذ ما وعيت علاقتي بالله، وهذه العلاقة مختلطة بالمرأة. تمتزج المرأةُ عندي بالمراحل الأساسية كلِّها: الولادة والحياة والموت. الأم والحبيبة–الأم. الشاشة والواسطة. الحجاب والوسيط. المياه الدافئة والصقيع الملتهب. ماذا أقول ولم أقلْه في قصائدي؟ بل ماذا قلت في قصائدي؟ يخيَّل إليَّ أحيانًا أنني لم أقلْ شيئًا. يخيَّل إليَّ في ما أكتبه منذ ما بعد الرسولة... أني ربما بلغتُ مسافاتٍ لم أبلغْها من قبل، وتبقى دوني مسافاتٌ ومسافات. بين ما قيل عني في هذا المجال، وما أعرفه عن نفسي، وما يقوله شعري وكتاباتي في العمق، فرقٌ كبير. موقفي من المرأة يراوح بين الخوف والعبادة: الرغبة في الوصول حتى التلاشي، والخوف عند الوصول من التحديق! هَدْمُ المسافات الفاصلة بيني وبينها، وإقامةُ مسافاتٍ محلَّها تستبدل بالغربة الأولى، السريعةِ الانكسار، غربةً أخرى أمتن، وتاليًا، أشد إثارةً للرغبة في هَدْمِها.

علاقتي بالمرأة هي علاقة بالهرب، كأكذب ما يكون الهرب: الهرب الذي لا يؤدي في الحقيقة إلا إلى المواجهة. الهرب من الموت والمواجهة مع الموت. وعلاقتي بالمرأة هي علاقة بالعصيان. فمن خلالها أتجاوز التقاليد والعادات، وأرتكب المعصية. من خلالها أرتكب الحرية. وعلاقتي بالمرأة هي علاقة انتحارية. فكلُّ امرأة هاوية، وكلُّ حبٍّ سقوط فيها.

علاقتي بالمرأة بسيطة جدًّا وهائلة التعقيد. إنها عالم قائم بذاته، يستطيع – لو أتيحت له ظروفٌ معينة، ولكنها من ضمن الممكن – أن يستغني بذاته ويحقق درجة عالية جدًّا من التفتح الإنساني. ذلك لأن المرأة عندي قلبُ عالمٍ يشتمل على عناصر أخرى تأتي بمثابة الإضافات إلى المرأة، وبمثابة الامتدادات والحواشي. هذا العالم هو عالم الـÉrotisme. وهو ليس وقفًا على الحياة الجنسية، لا الذهني منها ولا الحسِّي. إنه يتضمن، إلى جانب الجنس، مختلف الاهتمامات والنشاطات. هناك طريقة وجود érotique أو لا، كما أن هناك جنسًا érotique أو ليس كذلك. الـÉrotisme هو موقف من الإنسان والحياة. إنه يؤدي عندي إلى الله، كما أن الإيمان يؤدي عندي إلى الجنس.

هذا يقودني إلى نقطة أخرى: الطريقة التي فهم بها النقَّاد والكتَّاب شعري. لا أذكر، مثلاً، أن هناك من توقف بالقدر المناسب عند الجانب الـérotique فيه. حتى ما سُمِّيَ "صوفية" في الرسولة...، لم يقل أحد إلى أين يؤدي خارج الأماكن المألوفة التي تؤدي إليها الصوفيةُ عادة. وربما أحجم النقَّاد عن كشف الجانب الـérotique في شعري، لا لأنهم لم يدركوه، إنما خشية الكلام في موضوع محرَّم في مجتمعنا. لا أعرف. على كلِّ حال، ليست لذلك أهمية.

لنعد إلى المرأة. أين أصبحت لديك هذه المرأة، بعدما انتهت إلى نوع من الصفاء "الكلِّي" في الرسولة...؟ هل فقدتْ شكلَها وأصبحت تجريدية؟

تجربتي بعد الرسولة... متعددة الجوانب، ولم تتبلور نهائيًّا بعد. في مسيحية الرسولة... أريد أن أقول إنها، كما هو واضح في القصيدة، "مسيحية" خاصة بي. هذه النظرة إلى الرجل ليست مستوحاة من الدين المسيحي. الرجل في الرسولة... هو الخطيئة. المرأة في الرسولة... تعيد دخولها إلى العالم، لا من باب الملِكات فحسب، بل من الباب الإلهي: إنها الإلهة – وربما الإله – دون أن تكون سَعَتْ إلى ذلك أو رغبت فيه.

ولكن دعنا من الشرح. كلا، لا أظن أن المرأة عندي أصبحت "تجريدية". إنها مجسَّدة، حتى في الرسولة.... كل ما هنالك أني لا أصفُها، لا أصفُ وجهَها وجسدَها على طريقة الشعر الغزلي. قليلاً ما أتغزَّل. الغزل هو الذي يوهمنا أن المرأة التي نتحدث عنها هي امرأة حسِّية، لا تجريدية. الوصف الخارجي... لا أحب الوصف الخارجي، ولا الغزل! على كلِّ حال، في لن والرأس المقطوع أيضًا وضعُ المرأة، من هذه الناحية، هو هو: فعلى الرغم من التجربة الـérotique التي يدور عليها القسمُ الأخير من الرأس المقطوع (قصيدة "ماموت وشعتقات")، ليس هناك وصفٌ خارجي للجسد، للمرأة؛ في قصائد "الحب والذئب الحب وغيري" في لن كذلك، بل في كلِّ شعري الآخر – إلا، ربما، بعض تعبيرات في ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة [1970]. المرأة في شعري حسِّية، مجسَّدة، ولكن في شكل مصفَّى، تفقد معه ذاتيتها الاجتماعية السطحية، لكي لا يبقى منها بين يدي غير ذاتيتها الجوهرية، غير صميم ما يتصل منها بالدور القَدَريِّ الملقى على عاتقها.

ومع هذا، يتفق لي أن أصفَها، أن أصوِّرَ بعضَ حركاتها وهنيهاتها. ولكنك تعرف أن طريقتي في الوصف لا علاقة لها بوصف الحبيبة في الشعر العربي.

لنتكلَّم أكثر على الصورة الأعمق للمرأة!

في وسط شبكة العلاقات والرموز والإشارات والاستشعارات والتنبيهات غير المعروفة المصدر والدلالات العجيبة التي نعيش بينها وتتصل بنا، المرأة هي واسطة العقد. هي التي على يدها ولدتُ دائمًا.

المرأة هي الحب، هي الرغبة. قد أفهمها خارجهما؛ إلا أني سأنظر إليها حينذاك على أساس أنها مستقيلة من المرأة. المرأة هي المراوِدة الخلابة عن النفس – هذه المراوِدة التي دونها تذبل النفسُ وتموت. المرأة هي اللقاء. المرأة هي روح طالعة من خرافة تمجدها، في جسد هو منتهى التشويق، وفي متناول اليد، ويؤلِّف مع الروح تلك زواجًا انسجاميًّا فتَّاكًا بين الجليد والجمر!

إنها الجارية الصوفية، والأمَة الجلادة، والملاك الماجن. إنها الإرث البشري الذي يستعبدها معنا، والوعد بتخطِّي هذا الإرث معها، بفضلها.

كأنك، كما تقول، تتدمَّر في المرأة وتدمِّرها، تتحرَّر في المرأة وتحرِّرها؟ كيف ذلك؟

هكذا، بالتحليل العقلاني، لا أعرف! ولكن سأحاول أن أجيب. أعتقد أني أتدمَّر في المرأة كلَّما أحببتها، وأدمِّرها كلَّما أحبَّتْني. على الأقل هذا هو التفسير الشائع. هناك تفسير آخر: أتدمَّر في المرأة كلما أوغلتُ في أمومتها، وأدمِّرها كلما اكتشفتُ أنها ليست أمي!

ما دمنا نتكلَّم على التدمير، فلنتكلَّم على التدمير اللغوي. اللغة الشعرية لديك، بقدر ما تتوحش تصفو، أي بقدر ما تزداد "غريزية" (لن، الرأس المقطوع) أو "سماوية" (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة، الرسولة...)، تصفو وتسمو وتتحول إلى مادة حية؛ وذلك لأن اللغة لديك تجسِّد الحقيقة الشعرية، تجسِّد اللاوعي الداخلي والحلم والرغبة والجنون، أكثر مما تموِّه على هذه العناصر. أي أنها تعيش وتحقِّقها. وهي ليست لغة رمزية، وليست لغة بلاغية أو فصيحة، بل هي تتخطَّى اللغة كمصطلح نَحَوي وكنظام نَحَوي قائم، لتحقِّق اللغة الموعودة أو المنتظرة، أي اللغة الجديدة، "لغة الحقيقة"، كما يسمِّيها أحد النقَّاد البنيويين. في معنى آخر، اللغة لديك قائمة على إيقاعات جسدية جنسية رغائبية، متجاذبة ومتداخلة. كيف تحدِّد علاقتَك باللغة من خلال تجاربك الشعرية التي كانت وراء تأسيس هذه الكتابة الجسدية الجديدة؟

أشعر أن اللغة هي ملكي. هي لي. علاقتي بها علاقة جنسية. علاقة صراعية محكومة بتواطؤ ما بين القوى الخفية في العقل الباطن وبين أقصى درجات الوعي. أشعر بأني أنا المسؤول عن اللغة، سلبًا وإيجابًا. عندما يسيئون إليها – ودائمًا ما يسيئون إليها! – فكأنهم يعتدون علي. هو ما أشعر به أيضًا عندما يُساء إلى الصوت والنبرة.

في معزل عن الوعي، يتحكم في اللغة عندي الأعصابُ والعقل الباطن. ولا أعرف أيًّا منهما في المرتبة الأولى. الحلم والخيال هما في عهدة العقل الباطني. هو الذي يوفِّر العناصر الأساسية، سواء لتكون بساطًا يحتوي ما سيحتويه، أم أفقًا خلفيًّا يتَّكئ عليه ما سوف يتَّكئ عليه. العقل الباطن هو الخزَّان، هو المنجم، هو البئر العميقة التي نقيم فيها طوال حياتنا، ونحن نظن أننا نقيم في الخارج. أما الأعصاب، فمنها الضوء الذي يمتزج بعتمات العقل الباطن. الضوء والتوتر والنسغ... وإذا شئنا أن نشبِّه، قد نستطيع أن نقول إن العقل الباطن هو الماء، والأعصاب هي النار.

لي مع اللغة طريقتان أساسيتان في التعامل. الأولى – وأكثر ما اعتمدتُها في لن وبعض الرأس المقطوع – تقوم على إرادة القبض على جذور الحالة الشعرية، على الحالة الشعرية كهيولى في بدء تكوينها، قبل أن تتوزع هذه الحالة، وتبدأ في التفكك والضياع والانحراف والتشوه عبر قنوات الوعي، وتحت وطأة المراقبة والقمع والتشبُّه والتقليد من كلِّ نوع. أردت أن أستخرج من رأسي الحالة الشعرية، روحًا وجسدًا، وهي بعدُ في ظلمات أحشاء التكوين. هل ذلك جنون؟ أعرف، على كلِّ حال، أنني استطعت، في تلك التجربة، ألا أخون شيئًا من أغلى ما أحتفظ به، وهو الصدق.

أما الطريقة الثانية فتقوم على التحايل، على ملاطفة اللغة محلَّ تعنيفها، وعلى استدراجها محلَّ اغتصابها. وتظهر نتائج هذه الطريقة، أكثر ما تظهر، ابتداءً من ماضي الأيام الآتية [1965] – وإن يكن في لن نفسه قصائد تندرج هي أيضًا في هذا السياق.

لا أخفي عنك أن الكلام في موضوع اللغة يرميني في الاضطراب – مثل كلِّ شيء نظن أننا نمتلكه وحدنا، مثل كلِّ ما نعيشه ويعيشنا بتجاسُد عميق يبلغ حدَّ التلاشي. كلما بدأت أتكلَّم على اللغة، أحسُّ بأني قلت ما يجب ألا يقال، ولم أقل ما يجب أن يقال.

لنتحدث انطلاقًا من هنا عن تجربة القصيدة لديك: عن عناصر تكوُّنها الأولى... هل تحافظ في قصيدتك على شحناتها الأولى، أو تُخضِعها للكتابة ولإعادة الكتابة؟

تتكون القصيدة في مناطق الاختمار. وغالبًا ما تكون عناصرها الأولى هاجسًا يلح، أو بارقًا يلوح فجأة من خلال حُجُبٍ تنشق. تلعب الأذن عندي أيضًا دورَ الالتقاط فالتحويل: تلتقط أصواتًا أو نبرات، وتحوِّلها إلى الخزائن والأدراج الداخلية. كذلك يحدث لي مع بعض الروائح والألوان والنكهات. كلُّ شيء يدور هنا، في الرأس.

في الكتابة، أو إعادة الكتابة، ليس عندي نظام واحد. هناك قصائد تبقى كما انبثقت، وأخرى أعيد النظر فيها كثيرًا. فقصيدة "حالة حصار" في لن وقصيدة "المهرج" في الرأس المقطوع نُشِرَتا مختلفتين عن صياغتهما الأولى كما ظهرتْ في مجلة شعر.

بداية القصيدة تقع دائمًا في حالة من الانخطاف. التجمُّع داخل الذات بالقوى كلِّها. التحفز والاستنفار بجماع الكيان. ولماذا أقول "بداية القصيدة" فقط؟ كل القصيدة. عندما أكتب، تحتلني جملةُ مشاعر ملتهبة، بينها الكبرياء. وعندما أنتهي من الكتابة، تنهار الكبرياء فجأة، ويسحقني التواضع.

يسميك البعض شاعرًا "سورياليًّا" – ربما لقراءتك النقدية للشاعر آرتو، الذي بدأ سورياليًّا، ولأندريه بروتون، السوريالي المؤسِّس – بينما نرى أنك تقترب من السورياليين، دون أن تكون سورياليًّا: تقترب من حلمهم المطلق في الرفض والتغيير والبحث عن العالم الآخر! ما رأيك؟

كثيرًا ما تساءلت: لو أتاحت لي دروبي أن أوجد في باريس في السنوات العشرين، فألتقي بروتون وأراغون وسوپو وآرتو وإليوار وشار، هل كنت أنجذب إلى السوريالية حتى الانضمام إليها؟ وعلى افتراض أني انضممت، هل كنت أبقى طويلاً ملتزمًا؟ لا أعتقد. عندي من نقاط التناقض في شخصيتي ما يجعلني لا أرتاح ولا أريح داخل أية حركة. إلا أني، بين كلِّ المتعاطفين مع السوريالية "عن بُعد"، أو من وجهة "موازية"، أو بأكثر أو بأقل، قد أكون الأقرب إليها بعواطفي وبجانب كبير من فكري واهتماماتي وفضولاتي، إن لم يكن في شعري. بين الحركات كلِّها، السوريالية هي الأقرب إليَّ. وعلى الرغم من "مسيحيتي"، فإن نقاط اللقاء مع السوريالية – خصوصًا مع بروتون – هي أكثر بكثير من نقاط الفراق. حتى إني لأتساءل مرارًا: هل ثمة نقاط فراق، غير تلك التي ترافق الاختلاف الطبيعي، "الضروري"، بين الأشخاص، أو تلك التي لا تؤكد الفراق إلا لتعود فتؤكد اللقاء.

علاقتي بالسوريالية هي علاقة نفسية أكثر مما هي عقائدية أو "أدبية". علاقة "أمل" منبعث من تمكُّن مثل هذه الحركة وهؤلاء الشعراء من الوجود، أمل باتساع المجال، بعدُ، لمحاولات النجاة. وجدتُ في السوريالية حمايةً نفسية وأنسًا ونورًا على دروب مغامرتي الموحشة، وبين أكثرية تشبه بعضها بعضًا ولا أشبهها. اكتشفتُ السوريالية بعدما تكوَّنت، لكن مجرد "وجودها" ساعدني فيما بعد على الصمود. فضلاً عن الحقول العديدة التي لا أكتفي بأن ألتقي فيها مع السوريالية لقاء "حسن جوار" أو إعجاب، بل يتعداهما ليصبح لقاء تطابُق.

تبدو، على الرغم من شاعريتك الكبيرة وريادتك، وكأنك لست "محترفًا" شعريًّا. فلا يهمك من الشعر إلا غايته الكامنة في ذاته؛ كما لا يهمك منه إلا طاقته الداخلية وقدرته على التغيير والرفض والتأسيس. من هنا، تبدو علاقتك بالشعر علاقة صدفة دائمة: إنْ تَنْتَفِ هذه الصدفة يهدأ الشعر. كما يبدو الشعر لديك فعلاً ذاتيًّا جدًّا، مغرِقًا في ذاتيته. لذلك تظل مغامرتُك الشعرية مفتوحةً على الصدفة، على التحول: مغامرة تبدأ في الشعر ولا تنتهي فيه، تتعدَّاه إلى ما هو أعمق من الشعر وأبعد. لذلك يبدو شعرك على حالة دائمة من التجدد والقلق والألق!

مغامرة لا تنتهي... لا أعرف! إني أعيش منذ مدة في مناخ النهايات. نهاية العصر؟ نهاية العمر؟ نهاية مرحلة؟ لا أعرف. قلت لك في جواب سابق كلامًا على دورة الكائن، على العودة. سبق لي أن عشت في مناخ النهايات، ولكن ليس بالحدَّة التي أعرفها الآن. هل تظن أني سأعود إلى جوِّ لن، إلى لغته؟ لا أتصور ذلك. لا أقدر. من الخوف إلى الحرية... ومرة أخرى مع الخوف. دائمًا مع الخوف. فأية حرية؟! حرية التشوق إلى الحرية؟ حرية اللغة؟ حرية الرأس، الحب، الصمت؟ حرية السيادة فوق الآخرين؟ أم حرية خيانة الذات؟ العودة إلى الخوف. ولكن متى غادرتُه؟ الحب يخدِّره. هل يلغيه الحب؟ هذه النهايات، هذه النهايات... ولماذا هذه النهايات؟

أنسي الحاج: "النهايات" (ت: كميل حداد)

أنا لم تنتهِ فيَّ الجمراتُ الأساسية، فلماذا ينتهون أمامي؟ هل هم ينتهون معي ويبدؤون مع سواي؟ هل بداية أخرى تنتظرني مع سواهم؟ لماذا النهايات عندما نرفضها؟ مَن هي تلك القوة الشرسة التي تقرِّرها وتفرضها، على الرغم من إرادتنا؟ قهر النهايات... قهر أم خلاص؟

لا أستطيع أن أقبل بأن "ينتهي" ما أحب أن يستمر. ينتهي ما أريده أنا أن ينتهي. أين هي ثوابت الأمس التي ظننَّاها "حتى الموت"؟ أتراه كان "هذا" الموت؟ أين الصداقات والهيامات والشغف المجنون، لا يبالي بثمنٍ ولا بسمعة؟ أين هم المتهوِّرون الذين حرقوا معي الحياة كأجمل ما يكون الحريق؟ – ذروة الجدية في منتهى اللعب والعبث. أين هنَّ مفجِّرات رغباتنا في النزول إلى أعماق الضلال، أو في الصعود إلى قمم الطهارة، سعيًا وراء ملامستهن؟ أين هنَّ اللواتي كان مجرد مرورهنَّ قادرًا أن يجعلنا ننهض من عصور انحطاط، أو يجعلنا، بنقيضٍ أكثر إمتاعًا، نغوص فيها؟ أين متواطئو الأيام الذهبية؟ أين فقراء كلِّ شيء إلا الحب، صاروا أغنياء كلِّ شيء إلا الحب؟ أين الأطفال، استفاقوا وصاروا وجهاء وموظفين؟ أين الجميلات، الساحرات، أستاذات الروح من فرط الجسد، مرشدات الصدفة، رائدات الشكل والجوهر؟ نهايات، نهايات... مغامرة مستمرة، تقول؟ لا تنتهي؟ تبدأ في الشعر ولا تنتهي فيه، بل تتعداه؟...

اعذرني لأني لم أجبْك عن السؤال. وهو، على كلِّ حال، جواب. وجواب جميل أرجو أن أستحقَّه!

دفاتر شعر

منذ خمس وعشرين سنة، تأسَّستْ مجلةُ شعر على أيدي عدد من الشعراء، أحدثوا تحولاً في الشعر العربي واللغة والأشكال الشعرية، كما خلقوا أنساقًا وأنماطًا شعرية مغايرة، ونظريات "حداثية"، بقي جزءٌ كبير منها مجرَّد كلام نظري. وبينما نادت شعر بالحداثة وحقَّقتْ ملامح منها، نرى أن القفزة الحقيقية لم تتم إلا من خلال شاعرين، استطاعا أن يمضيا بعيدًا في لعبة التجديد والتأسيس: أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا – على الرغم من اختلاف تجربتهما وتنوع سماتها...

ثلة من مجموعة مجلة شعر في العام 1957. من اليمين إلى اليسار:

محمد الماغوط (جالسًا)، يوسف الخال، أدونيس، أنسي الحاج، إدفيك شيبوب، جميل جبر.

كيف ينظر أنسي الحاج اليوم إلى مجلة شعر بعد خمس وعشرين سنة على تأسيسها؟ وهل يعتقد أن إعادة إصدار مجلة شعر سوف تشكِّل حَدَثًا، كما في الماضي، خاصةً مُذِ افترق شعراؤها واختلفوا اختلافًا جذريًّا: منهم مَن اصطدم بجدار اللغة، ومنهم مَن عاد إلى التراثية وغرق في التنظير الحداثي، ومنهم مَن واصل مسيرته الإبداعية؟

لكلِّ واحد ممَّن اصطُلح على تسميتهم "شعراء مجلة شعر" طريقٌ شعريٌّ خاص، مستقل عن طريق الآخرين. جمعت بيننا مجلةُ شعر وجوٌّ من الحرية في النقاش ومن الجدية والشغف في التعامل مع الهموم الشعرية. في ما عدا ذلك، وفي ما عدا، بالطبع، ميولنا أو إسهاماتنا التجديدية التي تارةً تُسمَّى – من باب التعميم الذي لا يعني شيئًا كثيرًا – "تجديدًا"، وطورًا "حداثة"، فإن كلَّ واحد منَّا مختلف عن الآخر اختلافًا كبيرًا. لذلك فإن أية محاولة لتقييم مجلة شعر بعد خمس وعشرين سنة لا بدَّ أن يمرَّ عبر تقييمٍ لدور كلِّ واحد من الذين ساهموا في تأسيسها وفي تطورها وفي تحولاتها. وهذا أمر متشعب، ليس الآن مجاله.

ثلة من مجموعة مجلة شعر في بيروت، أواخر الخمسينيات. من اليسار:

فؤاد رفقة، أنسي الحاج، أدونيس، بدر شاكر السياب، ليلى بعلبكي، جان أبو نعوم، يوسف الخال، شوقي أبي شقرا.

لم تكن مجلة شعر شيئًا غير قابل للتجاوز. بالعكس، إن نداءها هو إلى مَن يتجاوزها. ولم تكن تريد أن تصبح مشروعًا معصومًا عن الخطأ. بالعكس، كانت مجازفة. ومَن لا يجازف لا يخطئ. أما المجلة التي بحثنا في إمكان إصدارها، فليست مجلة شعر. مجلة شعر انتهت. وانتهت مرتين. ولا داعي لإنهائها مرة ثالثة. المجلة الجديدة ستُدعى دفاتر شعر. ويلتقي فيها بعضُ الذين التقوا في مجلة شعر وسواهم. وستكون مجلة لهم، ينشرون فيها، كلٌّ ضمن خطِّه، كلٌّ وراء هواجسه.

إن ما أرجوه هو أن تكون هذه المجلة لا لنشر القصائد فحسب، بل أن تكون حقلاً لتجارب لم تتَّسع لها، أو لم تكن تفتَّحتْ عليها مجلةُ شعر ولا غيرها، وأن تكون صفحاتُها منطقةَ التقاء لقوى يؤلِّف تلاقيها، على اختلاف عناصره، لا حدثًا شعريًّا، بل وعدٌ بإمكان بقاء شعلة ما حية، إلى جانب شعلات قليلة أخرى، في ظروف تشتد حلكتُها، وفي زمن يلتقي الخطرُ على الشعر بالخطر على الحياة، والتهديدُ لوجود الفكر والروح بالتهديد لوجود الجسد.

أعود، في سؤالي الأخير، إلى نقطة كان يجب أن أثيرها في بداية الحوار: الحرب! أنت، حين اندلعت الحرب اللبنانية أو الحرب على أرض لبنان، انكفأتَ إلى ذاتك، هاجرت، صمتَّ فترة طويلة، بل رفضتَ أن تكتب وأن توقِّع، حتى غدوتَ في صمتك ذلك وكأنك تعلن انسحابك! ماذا تحدِّثنا عن صمتك أو تواريك في وسط الحرب؟ ألم يكن الكلام ممكنًا من شاعر متمرِّد لم ينثنِ يومًا عن إعلان تمرده؟

لا، لم يكن الكلامُ ممكنًا. مازلت لا أريد الكلام على الحرب. أعتقد أنني تكلَّمتُ كثيرًا، معك، كثيرًا جدًّا... ولنتوقف الآن.

*** *** ***

حاوَرَه: عبده وازن

عن النهار، الأحد 23/1/1983

تنضيد: نبيل سلامة


 

[*] مرة أخرى، بعد مرات، لا يسعنا إلا أن نشكر صديقنا وصديق معابر، الشاعر جبران سعد، على وضع نصِّ هذا الحوار الهام تحت تصرفنا تعميمًا للفائدة. (المحرِّر)

[†] صَدَرا آنذاك عن المؤسَّسة الجامعية للدراسات والنشر. (المحرِّر)

[‡] جميع كتب أنسي الحاج الوارد ذكرها في هذه المقابلة صدرتْ طبعاتُها الأخيرة عن دار الجديد، بيروت. عنوان موقع الشاعر على الإنترنت هو: www.ounsielhage.com. (المحرِّر)

[§] كاتب عرائض فرنسي (1330-1418) وموظف في جامعة باريس؛ تزوج من أرملة ثرية، ونُسِبَ إليه، بسبب من بحبوحة عيشه، تدبيرُ الإكسير الأعظم الذي يحوِّل المعادن إلى ذهب. (المحرِّر)

[**] هو لقب الخيميائي والطبيب السويسري ثيوفراستوس بومباستوس فون هوهِنْهايم (حوالى 1493-1541)، أبو الطبابة الهرمسية؛ أساس مذهبه وجودُ توافُق بين العالم الأكبر (الماكروكوسموس) ومختلف أجزاء بنية الإنسان (الميكروكوسموس). (المحرِّر)

[††] لقب عالِم بالغيبيات وقبالي هرمسي فرنسي (1810-1875). (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود