من ثقافة العنف إلى ثقافة اللاعنف

مقدِّمة للتحوُّل الديموقراطي

 

معقل زهور عدي

 

في الصراع بين الدول ثمة، في كلِّ حرب، انتصار وهزيمة. وتأتى الحرب "امتدادًا للسياسة بوسائل أخرى"، على حدِّ قول كلاوزفيتس. ويبرِّر المنتصرُ لشعبه ويلاتِ الحرب وفظاعاتِها بالانتصار وما يجلبُه من مكاسب. أما في الصراعات الاجتماعية، فالأمر مختلف: العنف هنا لا يأتي أبدًا امتدادًا للسياسة، بل قَطْعٌ لها وبديلٌ عنها. وبغضِّ النظر عن الطرف المنتصر، يبدو أن المجتمع، في كثير من الأحيان، هو الخاسر الأكبر.

والعنف موضوع هذا المقال ليس العنف الاضطراري الذي تدافع به الشعوبُ عن حقوقها ومصائرها، بل هو العنف داخل المجتمع الواحد وبين مكوِّناته البنيوية. إذ ليس العنف وقفًا على تيار فكرى أو سياسي محدد: فلدى التيارات الفكرية والسياسية كافة قابليةٌ للتحول إلى العنف حين يوجد مَن يستفيد من حالة الأزمة والكبت التي يمر بها المجتمع بين مرحلة وأخرى، فيقوم بإنهاء منطق الحوار والعقل وقطع الطريق عليه وتسويق العنف.

فالتيار الاشتراكي يمكن له أن ينخرط في العنف ويبرِّره بأن يضفي عليه صفة "العنف الثوري"؛ والتيار القومي يمكن له أن ينزلق إليه بإثارة التعصب القومي وتحويل مفهوم "الأمَّة" إلى هوية تناحرية؛ وكذلك التيارات الدينية يمكن أن تنزلق إلى العنف على منزلق التكفير وإثارة التعصب؛ وهناك تيارات أخرى تفتقر إلى الفكر، ولكنها لا تفتقر إلى القدرة على تعبئة الناس ودفعهم إلى العنف!

أول ضحية للعنف هو المنطق والعقل: فحين يزدهر العنف، تنمو أسوأ الدوافع الغريزية والأنانية على حساب التفكير السليم. ومع صعوده، يحمل العنف مخزوناتِ الانقسامات والتناقضات الموروثة كلَّها، وأكثر أشكال الوعي تخلفًا وشراسة. ولكي يتمكن العنف من البقاء، يعمل باستمرار على الحطِّ من إنسانية الإنسان: الحضارة والثقافة، الروح الدينية الحقيقية، التسامح والمحبة – كل تلك القيم العظيمة يجري تحطيمها على مذبح العنف؛ ومن أشلائها يستمد العنف غذاءه للاستمرار والتمدد.

على امتداد عدة عقود، دفعت المجتمعاتُ العربية ثمنًا باهظًا لدورات من العنف أثبتتْ عقمها وعبثيَّتها وانعدام وجود أيِّ منطق متماسك يسوِّغها. وحده كان الخيار في فتح باب العنف كافيًا لتدمير مالا يقدَّر بثمن من الأرواح والممتلكات والعودة إلى نقطة الصفر – أو ما تحتها!

إن وجود التناقضات الاجتماعية لا يبرِّر العنف، كما أن العنف ليس نتيجة بسيطة لوجودها؛ بل إن هنالك مصدرًا آخر للعنف هو ثقافة العنف. وسواء أتت هذه الثقافة محمولة على نظريات جاهزة (كالعنف الثوري ونظريات التكفير)، أو أتت عبر تدفق متفرق من أفكار ذات مصادر متعددة، كالتعصب القَبَلي والمذهبي والقومي أو البربرية المستعادة تاريخيًّا، فإن ثقافة العنف تلعب الدور الحاسم في قلب التناقضات الاجتماعية السِّلمية إلى تناقضات عنيفة، لا تتوقف حتى تدمِّر طاقة المجتمع وتُهلِك الحرث والنسل.

ليست هذه محض تأملات، ولكنها عِبرةُ تجارب مريرة مرَّتْ بها مجتمعاتُنا خلال العقود السابقة. وإن كانت المحنة الجزائرية آخر درس قاسٍ لنا جميعًا، فعسى أن تكون الأخيرة، وأن يستيقظ وعيٌ جديد لمرحلة جديدة – وعي يقوم بإنجاز قطيعة تامة مع ثقافة العنف، بعد تعريتها من جميع أقنعتها وتجلِّياتها، وإدانتها في وضوح ودون تردد، ومن بعدُ الانتقال إلى ثقافة اللاعنف.

ثقافة اللاعنف لا تعنى تجاهُل التناقضات الاجتماعية، سواء كانت بين فئات اجتماعية أو بين شرائح طبقية أو بين قوميات إلخ، ولكنها تعني اعتماد أسلوب سِلميٍّ في حلِّ جميع تلك التناقضات، مبني على اللاعنف، ومناهضة أية توجهات عنيفة داخل المجتمع.

والدولة هنا معنية بهذا التحول أيضًا. فداخل كلِّ دولة تتجمع بؤرٌ لا تحصى لثقافة العنف آتية من المجتمع ومتراكبة مع آليات السيطرة والقمع، حيث يتحول العنف إلى قوانين ومؤسَّسات ونزعات تنتظر الفرصة للانفلات من عقالها.

ثقافة اللاعنف لم تعد ترفًا فكريًّا، ولا دعوة برجوازية حالمة. لقد أصبحت ضرورة مصيرية، ومقدمة لإنهاء دورات العنف المغلقة المهلِكة، وفتح طريق التطور السِّلمي والتحول الديموقراطي. ولا يمكن لمثل هذه الثقافة أن تنتشر وتتوطد من دون بذل جهود مضنية في خلايا المجتمع الحية كلِّها لإقامتها على أنقاض ثقافة العنف، من البيت، إلى المدرسة، إلى الأحزاب السياسية والفعاليات الفكرية، إلى الدولة بجميع مؤسَّساتها.

إدانة ثقافة العنف، وتحريم اللجوء إليه داخل المجتمع، مهما كانت المبررات – تلك هي رسالة ثقافة اللاعنف. إذ لم تعد الأوطان تتحمل دورات جديدة من العنف لا تُحصَد منها غير الكوارث.

*** *** ***

عن نشرة كلنا شركاء في سورية، 6/1/2004

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود