|
الحوار
بالموسيقى أم بالقنابل؟ الصورة
مازالت في الذاكرة البعيدة... تومض فجأةً حين
نقرأ عن تلك المغامرة الجريئة التي خاضها منذ
سنين ابن فلسطين، المثقف إدوارد سعيد،
والإسرائيلي، قائد الأركسترا وعازف البيانو
دانيال بارنبويم – ويقينهما أن أركسترا تجمع
تحت جناحها عازفين إسرائيليين وفلسطينيين لا
بدَّ من أن تدفع الحوارَ الذي لم تستطع
السياسةُ إنجاحَه. وعلى الرغم من رحيل إدوارد
سعيد، ظل بارنبويم يواصل حلمَهما المشترك،
مناضلاً لإيصال المنطقة إلى السلام المرجو
بالحوار بين الكمنجات والأبواق. والصورة
الآتية إلى البال من سنين عديدة خَلَتْ هي
لإدوارد سعيد، رجل العلم والأدب والمحاضر
العالمي، يعزف على البيانو سوناتا لبيتهوفن
وعلى أحد أطراف البيانو وردةٌ حمراء. الذاكرة الشحيحة سَهَتْ
وأنا أحرِّر موضوعي هذا عن المؤسسة التي
استضافت إدوارد سعيد في تلك المناسبة التي
أراد فيها التعبيرَ عن نضاله في سبيل إحقاق
معايير الحق بلغة الموسيقى، التي وحدها قادرة
على قول الحق. ثم رحل إدوارد سعيد، تاركًا
لصديقه دانيال بارنبويم مسؤوليةَ الاستمرار
في ما أسَّساه معًا، مراهنَين على الموسيقى
حين الحوار بالكلمات عداء واتهامات! بيد أن هذا الرهان المحفوف
بالانتقادات من الجانبين الفلسطيني
والإسرائيلي لم يردع إيمان هذين "الحالمين"
بالوصول إلى بعض أمل في هذه الأزمة المصيرية
المعقدة منذ أكثر من نصف قرن. في مدينة فايمار الألمانية
ولدت في العام 1999 فكرةُ أركسترا "الديوان
الغربي–الشرقي" المؤلَّفة من ثمانين
عازفًا عربيًّا وإسرائيليًّا تراوحت
أعمارُهم ما بين 13 و26 عامًا، على أنْ تلتئم
مرة كلَّ شهر لتتمرن على برنامج مرصود للتجول
بقيادة بارنبويم في أنحاء البلدان الأوروبية
ونشر أجمل رسالة سلام وحوار بين الأمم. وفايمار خيار رمزي: فهي
مدينة غوته والشاعر شيللر. أما عنوان
الأركسترا فمستوحى من ديوان شعر غوته: الديوان
الغربي–الشرقي الذي وَضَعَه في العام 1819،
وهو بحث في الأخلاق العالمية من خلال
الشعر الفارسي. الجولات الأولى للأركسترا
جرت في أوروبا. بيد أن هدف بارنبويم كان منذ
الأساس حمل الأركسترا إلى الأرض التي ينتمي
إليها العازفون، من فلسطينيين وإسرائيليين
ومصريين وإسبان. كان إدوارد سعيد مازال
حيًّا حين قدمتْ أركسترا "الديوان"
حفلةً محمَّلة بالمعاني الإنسانية في شيكاغو
بعد فايمار. أما المقر الذي اختير نهائيًّا
لها فمدينة إشبيلية، بدعم ماديٍّ من الحكومة
الأندلسية واعتبار حاكمها أن هذه الخطوة لا
بدَّ من أن تعيد إلى العرب واليهود الكنوزَ
التي أثْرَوا بها الأندلس على الصعيدين
الثقافي والإنساني. واعترافًا بجميل
صنيعهما، منحتْ الدولةُ الأندلسية الثنائي
سعيد وبارنبويم "جائزة أمير أستوريا
المميز"، معتبرةً العمل نضالاً حقيقيًّا
من أجل السلام. الخطوة
بعد الفراق في العام 2005، سجلتْ
الأركسترا خطوةً كبيرة في إحيائها حفلةً في
رام الله، تخلَّلتْها "السمفونية الجدلية"
للآلات هوائية لموتسارت و"السمفونية
الخامسة" لبيتهوفن ونقلتْها للعالم قناة ARTE
الفرنسية–الألمانية وإذاعة France
Inter.
وبما أن الفرصة كانت مؤاتية، بثت قناة ARTE
الوثائقي الإنساني فلنحاول للتخفيف من
الأحقاد لبو سمازني. وعشية الحفلة، عقد بارنبويم
مؤتمرًا صحافيًّا في "المقاطعة"، مقر
القيادة الفلسطينية – هذا المكان الذي
عُزِلَ فيه ياسر عرفات طوال أشهر. وعلى إثر
المؤتمر، الذي حَضَرَه صحافيون من العالم
كلِّه، علَّق الصحافي إيف ريزل قائلاً: كان
بارنبويم، في وقفته الجريئة هذه، أشبه بمصارع
يريد أن يعيد العالم إلى المنطق والحوار. وفي مدينة رام الله، كان
الثنائي سعيد وبارنبويم قد شيَّدا حديقةً
موسيقية للأطفال لتشجيع المواهب المنتمية
إلى عائلات متواضعة للنهل من هذا الفن الراقي.
فما كان من بارنبويم إلا أن شيد نموذجًا
توأمًا آخر لهذه الحديقة في برلين. دانيال
بارنبويم يقود أركسترا "الديوان" في رام
الله. لكن ماذا كانت ردة فعل
المسؤولين في رام الله إزاء هذه الليلة
الخارقة التي أُعِدَّ لها في قصر الثقافة في 21
آب؟ الكلام للسياسي مصطفى البرغوثي،
المقرَّب من إدوارد سعيد، الذي وصف سعيد
وبارنبويم بـ"الرؤيويَين". فوقف
بارنبويم والتأثر بادٍ عليه، ورفع عصاه أمام
700 مشاهد من الشخصيات الفلسطينية، مدنيين
وعسكريين بلباس الميدان وأعضاء من الكنيست
الإسرائيلية. وحين طُلِبَ إلى بارنبويم أن
يعلِّق على هذا الحدث الفريد قال: لسنا
هاهنا في صدد إبراز المهارات التي حقَّقها
العازفون في سمفونية بيتهوفن، بل ما تكتنزه
هذه السمفونية من دروس إنسانية. فعندما كانت
الكمنجات الإسرائيلية تتحاور مع الأوبوا
المصري المنفرد، كان المعنى الحقيقي
للسمفونية البيتهوفينية يعلو في رام الله
نشيدًا داعيًا إلى الأخوة والسلام. بيد أن مبدأ جولة أركسترا
"الديوان" في إسرائيل مرفوض حتى هذه
الآونة كليًّا. ولا غرو وورقة السلام مرمَّدة
في الوجدان السياسي الإسرائيلي المراهِن على
إقامة دولة بين الأشواك! ومن هذا الواقع المر،
قال دانيال بارنبويم: إن
اعتقادي راسخ بأنه ما من حلٍّ عسكري لهذه
النزاعات. هذه الأرض لشعبين، وليست أرضًا
لشعب واحد. وما يؤلمني هو أن تكون الضمائر
مقفلة على هذه الحقيقة! ***
*** *** عن
النهار، الثلثاء 18 تموز 2006
|
|
|