الثقافة والمقاومة

إدوارد سعيد: "جسر" بل "نصٌّ مفتوحٌ على العالم"

 

سليمان بختي

 

غالبًا ما تُعتبَر الحواراتُ والمقابلاتُ التي تُجرى مع المفكرين والفلاسفة والشعراء امتدادًا لخطابهم وصياغات جديدة لأفكارهم أو تنويعات على المغزى. في كتاب الثقافة والمقاومة[1] لإدوارد سعيد – وهو عبارة عن حوارات أجراها ديفيد بارساميان [مؤسس ومدير الراديو البديل (كولورادو) وصاحب الكتب الحوارية مع سعيد ونعوم تشومسكي وطارق علي] مع المفكر الفلسطيني الكبير – تتجلَّى هذه الحقيقة، ومعها حقائق شاملة، مثل الارتباط الشمولي بالعالم، والوعي النقدي لقضاياه، ومسؤولية الأمل.

يتوزع الكتاب على فصول: "حل الدولة الواحدة"، "انتفاضة العام 2000"، "ما يريدونه هو صمتي"، "أصول الإرهاب"، "منظور فلسطيني حيال الصراع مع إسرائيل"، "على موعد مع النصر"، إلخ.

يشدد إدوارد سعيد في أجوبته على دور الثقافة، لما لها من فاعلية كبيرة في تحصين أصحابها وحمايتهم من الذوبان والهيمنة الخارجية، فيجعلها تنفتح على المدى العالمي وعلى تداخُلاتها مع غيرها من الثقافات، لتشكل عنصر إغناء وثراء. وفي رأيه أنها أداة للمقاومة، وشكل من أشكال الذاكرة في مقابل النسيان، وتقوم بالمساءلة والبحث عن بدائل. وما دور المثقف، إذن؟ الجواب: أن "يعارض"، وأن يفتح عقول الناس على مصادر وبدائل جديدة للأمل.

تضيء هذه الحوارات على خطاب سعيد من زاويتين: الشمولية وتداخُل الأدب والفلسفة والسياسة والدين والتاريخ. وعِبْرَ ذلك، يرتقي بالتزامه القضية الفلسطينية إلى مراتب فاعلة تتخطى الإقليمية والزمنية. ومن خلال الأسئلة والأجوبة ثمة وقفة المفكر والمثقف الملتزم أمام الحدث، لبعث خلفياته وأبعاده وأسبابه ونتائجه وإظهار جوهره. صحيح أن الحوادث مرتبطة بتواريخ أو ظروف معينة، لكنها تحتفظ بألقها ونضارتها.

يدعو سعيد إلى الدولة الثنائية القومية كحلٍّ للمسألة الفلسطينية، ويقدم جملة تبريرات لدعوته: منها أن المكان صغير، وأن الإسرائيليين يقومون بتشغيل الفلسطينيين في اقتصادهم، وأن التفاعل يتسم بالكراهية والعداء، وأن الطرفين موجودان فيزيائيًّا في المكان عينه، مما ينبغي أن يفضي إلى شكل من التسوية السِّلمية، وخصوصًا أن هناك جيلاً من الفلسطينيين هم أيضًا مواطنون إسرائيليون، فضلاً عن الواقع الديموغرافي المواتي للفلسطينيين في إسرائيل بحلول العام 2010.

تثير أفكارُ سعيد النقاشَ والتحاورَ لأنها تنطلق من أساس واقعي وتنتج عن معاناة ذاتية. يحاول طرح وعي نقدي جديد، ويدعو إلى التغيير بالوسائل الذاتية، منتقدًا افتقار مثقفينا إلى الإحساس بالمواطَنة. وفي حديثه عن الوسائل الذاتية في التغيير، يشير إلى مواجهة الواقع ومعرفة العدو ودراسته، وإلى استخدام الوسائل التواصلية الجديدة خارج الإعلام الرسمي. كما يدعو العرب للذهاب إلى فلسطين ومساعدة الفلسطينيين في بناء مؤسَّساتهم على أرضهم وبيئتهم.

يتوقف بارساميان أمام إدوارد سعيد وحيويته وحماسته، وكيف أن ذلك يضفي على الأخذ والردِّ نكهةً رائعة، راويًا كيف أن المفكر لم يسيطر على توتُّره ولم يبدأ بالإجابة عن الأسئلة في أريحية إلا عندما قرأ بارساميان بعض مقاطع من شعر محمود درويش أمامه، فانطلق في الإجابة في تلقائية وبلا مراجعة: كأنه أدرك أن مُحاوِرَه مطَّلع على ثقافة القضية أيضًا. يذكِّره بارساميان بالحجارة التي أطلقها على إسرائيل من "بوابة فاطمة" في جنوب لبنان، فيرد على منتقديه: إنهم مليئون بالفكاهة و"الأخلاط الأربعة"!

إدوارد سعيد (1935-2003) يطلق في العام 2000 من "بوابة فاطمة" في جنوب لبنان حجرًا رمزيًّا باتجاه إسرائيل تضامنًا مع الشعب الفلسطيني وتذكيرًا بـ"انتفاضة الحجارة".

لكن كيف تغيَّر العالم؟ وما الذي بعث هذه الجرأةَ في الإمبرياليين اليوم؟ الجواب:

1.    فشل الطبقة المثقفة؛

2.    فقد القدرة على رؤية الهدف الحقيقي؛ و

3.    فشل الديموقراطية التمثيلية.

لكن، على الرغم من ذلك، يبقى الأمل – الرسالة الموجهة إلى العالم اليوم: التعايش والإيمان بالعقلانية والعَلمانية وتجنب القوة العسكرية، والأمل في المجتمع المدني لتمتعه بحرية نسبية. أما رسالته إلى طلابه فهي المعرفة والقراءة، ثم الاستنطاق والاستكشاف والمساءلة والتحدي وعدم الاكتفاء – "رسالة" مثقف عميق الالتزام على مستويي القضية والإنسانية.

يزيح إدوارد سعيد النقاب الحاجب، وينطلق نهضويًّا تنويريًّا نحو الحرية والوعي، بعد أن تنجح الأسئلة في الوصول إلى الذات والموضوع وتفتح الكلام. اسمعْه يقول في جوابه الأخير عن سؤال حول علاقته بالمكان، حيث يلتقي الفكرُ والشعرُ والواقع:

إني كثرة من الأشياء المختلفة منضمَّة معًا، ولست أحاول الموازنة بينها. وأنا لا أرى نفسي شخصًا يحاول أن يصلح حال ما فيه من اختلافات، وإنما العيش في التفارُقات. (ص 169)

لعل هذا ما دعا إدوارد سعيد أن يكون أحد الجسور المهمة بين الثقافة والمقاومة في العالم. ولعل هذا ما دعا جورج شتاينر إلى القول: "إن ادوارد سعيد نصٌّ مفتوح على العالم."

*** *** ***

عن النهار، الخميس 26 كانون الثاني 2006


[1] إدوارد سعيد، الثقافة والمقاومة، حوار ديفيد بارساميان، بترجمة علاء الدين أبو زينة، دار الآداب، بيروت 2006، 186.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود