|
ثقافة
التَّسامُح في
أربعة كتب جديدة عن
"مركز دراسات فلسفة الدين" في بغداد صدرت
الكتبُ الآتية في سلسلة "ثقافة التسامح": 1.
رسالة
في التسامح
لجون لوك؛ 2.
التسامح
ومنابع اللاتسامح: فرص التعايش بين الأديان
والثقافات
لماجد الغرباوي؛ 3.
في
الاجتماع المدني الإسلامي: أحكام الجوار في
الشريعة الإسلامية
للمغفور له الشيخ محمد مهدي شمس الدين؛ و 4.
عيال
الله: أفكار جديدة في علاقة المسلم بنفسه
وبالآخرين
للدكتور محمد الطالبي. و"ثقافة التسامح"
سلسلة كتب دورية يرأس تحريرها د. عبد الجبار
الرفاعي، صدر أول كتاب منها في مطلع العام 2005؛
وبطباعة هذه المجموعة، يكون ما نُشِرَ منها
حتى كتابة هذه المراجعة اثنا عشر كتابًا. وفي
ما يلي عرضٌ موجز لأهم الأفكار الواردة في
كلٍّ من هذه الكتب الأربعة: رسالة
في التسامح ألَّف هذه الرسالةَ
باللاتينية الفيلسوف جون لوك (1632-1704). وقد تم
طبعُها في هولندا في العام 1689، وتُرجِمَتْ في
العام نفسه إلى الإنكليزية؛ وبعد طباعتها
نفدت في فترة وجيزة، ثم كرَّر الناشرُ
طباعتها. وقد ترجَمَها عن اللاتينية مع مقدمة
مستفيضة وتعليقات د. عبد الرحمن بدوي. وتتلخص
دعوةُ جون لوك إلى التسامح بقوله: ليس
لأيِّ إنسان السلطةُ في أن يفرض على إنسان آخر
ما يجب عليه أن يؤمن به أو أن يفعله لأجل نجاة
نفسه هو، لأن هذه المسألة شأن خاص ولا تعني
أيَّ إنسان آخر. إن الله لم يمنح مثل هذه
السلطة لأيِّ إنسان ولا لأية جماعة، ولا يمكن
لأيِّ إنسان أن يمنحها لإنسان آخر فوقه
إطلاقًا. ويرجع هذا، بحسب لوك، إلى
سببين: -
الأول: هو أن الناس في الدول كلِّها
معرَّضون للخطأ، سواء كانوا حكامًا أم
محكومين، علماء أو أساتذة؛ فليس من المعقول
أن يوضع الإنسانُ تحت التوجيه المطلق لأولئك
الذين يمكن أن يقعوا في الخطأ في مسألة بهذه
الخطورة – الخطورة الأبدية: إنهم إنْ أساءوا
إرشادنا فلن يستطيعوا تعويضنا. -
والثاني: هو أنه لا فائدة من استعمال
القوة لحمل الناس على سلوك الجادة المستقيمة
نحو النجاة، وذلك لأنه لا يمكن لأيِّ إكراه أن
يجعل إنسانًا يؤمن بضد ما يقتنع به في ضوء
عقله واقتناعه، وإنْ كان قد يحمله على
الإقرار باللسان. لكن الإقرار باللسان غير
المقترن بالإخلاص لن يدفع بالإنسان إلى أيِّ
مكان غير ذلك الذي يتقاسمه مع المنافقين، ولن
يفعل شيئًا في عبادة الله مَن لا يحكِّم
ضميرَه في أنه العبادة التي يتطلَّبها الله
ويقبلها. لهذا لا يجوز إرغامُ أحد على الدخول
في مشاركةٍ يحكم هو، في أعماق ضميره، بأنها
مضادة لما يراه الغرضَ من الدخول في هذه
المشاركة، أي نجاة نفسه. ويمكن إيجاز أفكار جون لوك
الأساسية عن التسامح بمفاهيم رئيسية هي: 1.
لا
بدَّ من التمييز الدقيق بين مهمة الحكومة المدنية
وبين مهمة السلطة الدينية، ومن اعتبار
الحدود بينهما ثابتة لا تقبل أيَّ تغيير. 2.
رعاية
نجاة نفس كلِّ إنسان أمرٌ موكول إليه هو وحده،
لا يمكن له أن يعهد بها إلى أية سلطة، مدنيةً
كانت أم دينية. 3.
لكلِّ
إنسان السلطة العليا المطلقة في الحكم لنفسه
في أمور الدين. 4.
حرية
الضمير حقٌّ طبيعي لكلِّ إنسان. 5.
يجب
ألا تُتَّهم المذاهبُ المخالفة للمذهب
السائد في الدولة بأنها بؤر لتفريخ الفتن
وألوان العصيان. 6.
من
أسباب التآمر والفتن استبدادُ الحاكم
ومحاباته لأتباعه ولبني دينه. التسامح
ومنابع اللاتسامح: فرص التعايش بين الأديان
والثقافات مؤلِّف هذا الكتاب الشيخ
ماجد الغرباوي، الباحث العراقي الذي أمضى ما
يقارب الربع قرن تلميذًا وأستاذًا في الحوزة
العلمية، وصدرت له مجموعةُ مؤلَّفات وترجمات
وتحقيقات. يقيم حاليًّا في سدني بأستراليا،
وقد اشتهر باجتهادات ورؤى تجديدية جريئة؛ وهو
أحد المسكونين بهاجس إصلاح النظام التقليدي
للتعليم الديني، كما نلاحظ ذلك في كتابه
الهام إشكاليات التجديد الذي صدر في
العام 1999 في سلسلة كتب "قضايا إسلامية
معاصرة". وقد تحدَّث في صراحة في تصدير
كتابه التسامح ومنابع اللاتسامح: لم
يبقَ أمام الشعوب الإسلامية خيارٌ للحدِّ من
ثقافة الموت والاحتراب والعداء والإقصاء
المتفشية في كلِّ مكان سوى تبنِّي قيم
التسامح والعفو والمغفرة والرحمة والأخوة
والسلام، لنزع فتيل التوتر وتحويل نقاط
الخلاف إلى مساحة للحوار والتفاهم، بدل
الاقتتال والتناحر. وهو عمل صعب يستدعي
جهودًا يتضافر فيها الخطابُ الإعلامي مع
الخطاب الثقافي والديني والسياسي والتربوي،
ويتطلب تعاوُنَ الفرد مع المجتمع، والشعب مع
القانون، والدولة مع الدستور. إنه عمل جذري
يستهدف البُنى الفكرية والعقيدية للمجتمع،
وإعادة صياغة العقل والأولويات والوعي،
وتقديم فهم عصريٍّ للدين والرسالة والهدف،
ونقد للمفاهيم والقيم والسلوك، ورسم مستقبل
جديد للفرد والشعب والوطن، وقراءة متفهمة
للتراث والتاريخ، وعودة إلى القرآن والعقل،
والتخلِّي عن العنف والتنابذ، والتمسك
بالاحترام والتسامح، وفهم آخر للحياة والعمل
الصالح. إن
ما نشاهده اليوم من مظاهر عنف واحتراب يستدعي
العودةَ إلى الذات لمراجعتها ونقدها،
والوقوف على مواضع الخلل فيها لتقويمها
ومعالجتها، ثم الارتكاز إلى قيم جديدة تستبعد
الكراهية والحقد، وتنفتح على قيم الإنسانية
والدين. وهذا يتطلب الغوص في أعماق الفكر
والعقيدة بحثًا عن جذور المشكلة. في
الاجتماع المدني الإسلامي: أحكام الجوار في
الشريعة الإسلامية مؤلِّف هذا الكتاب هو
الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الفقيه
والمفكر المجدد. ولم يُنشَر كتابُه هذا في
حياته. وقد عالج فيه جانبًا من جوانب فقه
الاجتماع الإسلامي في شأن الجوار – وهو حقل
من حقول الفقه الإسلامي لم يُبحَث بحثًا
مستقلاً ومركزًا؛ ذلك أن ما يتعلق بفقه
الاجتماع الإسلامي مبثوث في أبحاث فقهية
كثيرة في صورة عَرَضية وثانوية. وكما هو الشأن
في مجالات فقهية أخرى، كفقه البيئة مثلاً
وغيرها، فإنه يفتقر إلى جهد يفرز مفرداتِ هذا
الحقل وموضوعاتِه عن الحقل الفقهي العام،
ويبلور مجالاتِه ليتناوله المختصون من
الفقهاء بالبحث والتمحيص. وبذلك يكون الإمام قد أظهر
وجهًا من وجوه الفقه الإسلامي الغني، وكشف عن
بُعد من أبعاده الثرية، ليساهم في إغناء
النهضة الإسلامية المعاصرة والوعي الإسلامي
عند الأجيال الشابة وعلى مستوى الأمَّة
الإسلامية. عيال
الله: أفكار جديدة في علاقة المسلم بنفسه
وبالآخرين يتضمن هذا الكتاب حوارًا
مطولاً أجراه د. شكري مبخوت وآخرون مع د. محمد
الطالبي. ومحمد الطالبي أستاذ جامعي ومؤرخ
ومفكر تونسي؛ والمرجعية التي يستند إليها في
بيان علاقة المسلم بالآخر هي مرجعية قرآنية،
إذ هو يتشبث بالقرآن في كلِّ ما يستنبطه من
مفهومات. غير أنه يقدم تأويلاً جديدًا للنص،
يواكب العصرَ ولا يتغافل عن الميراث الإسلامي
الواسع الذي ينتقي منه ما ينسجم مع آرائه. فمثلاً، يشدد محمد الطالبي
على أن قاعدة الانطلاق هي قبول الغير كما يريد
أن يكون. والقاعدة في ذلك هي أن لا يكون
الحوارُ مفاوضات، نقوم فيها بتنازلات
متوازية كي نصل إلى قاعدة مشتركة: لا!
أنا أرفض أن يكون الحوارُ مفاوضةً، لأنه
يستحيل على أيِّ إنسان أن يتفاوض على حساب ما
يعتقده حقًّا. يستحيل عليَّ أن أقوم بتنازلات
في ما أعتقد أنه حق في صلب اعتقاداتي الدينية.
وهذا يصح كذلك بالنسبة للمسيحي، وحتى بالنسبة
لغير المعتقدين. الغاية من وراء الحوار هي أن
يشمل في يوم من الأيام كامل الأديان، وأن
يعمَّ أيضًا غير المعتقدين – وكل ذلك على
مراحل، في نطاق تلك النظرة إلى الإنسان كفرد
من عائلة كبرى هي: "عائلة الله". ويجب أن
يعمَّ في هذه العائلة الحوارُ والتآخي على
قاعدة قبول التعددية وقبول الاختلاف. ذلك
هو مقصد الحوار: أن نجد سبيلاً، في نطاق
الاحترام المتبادل، إلى قبول الغير كما هو
وكما يريد أن يكون، وأن نجد، في الوقت نفسه،
سبيلاً للتبادل، ولاكتشاف الفروق التي لا
جدال فيها ويستحيل علينا التغلب عليها.
وعلينا ألا ننسى أنه يمكن لنا أيضًا أن نكتشف
القيم المشتركة – وهي عديدة وأساسية – التي
تلتقي حولها وفيها كاملُ الأديان على صعيد
واحد: محبة الله ورفض العنف، محبة العدل ورفض
الظلم، الاعتقاد بأن الإنسان لا تقتصر حياتُه
على الأرض، بل هو في الأرض ومن الأرض، وفي
الوقت نفسه يتجاوز الأرض، لأن له مصيرًا
آخر يجعل حياتَه تمتد إلى ما وراء الحياة
الأرضية. ويسعى الطالبي إلى استقراء
نصوص الأديان والتنقيب فيها لاكتشاف "القاعدة
الذهبية" التي تضبط التعامل بين الناس
والتي هي: -
"هذا
مجمل الواجبات: لا تُعامِلِ الغيرَ بما إذا
عوملتَ به آلمَك." (البرهمنية، مَهابهارَتا،
5: 1517) -
"لا
تؤذِ الغيرَ بسلوكٍ تجده أنت بنفسك مؤذيًا لو
سُلِكَ معك." (البوذية، أودانا–فارقا،
5: 18) -
"هذا
حقًّا مثل المحبة اللطيفة: لا تُعامِلِ
الغيرَ بما لا تريد أن يعاملوك به." (الكونفوشية،
ديوان، 15: 23) -
"الشيء
الذي تبغضه، لا تُعامِلْ به صحبَك: هذا مجمل
الناموس، وكلُّ ما تبقى شروح." (اليهودية، التلمود،
شباط: 31-أ) -
"فكل
ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم
أيضًا بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء."
(المسيحية، إنجيل متى، 7: 12) -
"لا
يكون المؤمن مؤمنًا حتى يحبَّ لأخيه ما يحب
لنفسه." (الإسلام، حديث نبوي شهير
متواتر) ويستنتج د. محمد الطالبي أن
الأديان كلَّها تتفق هكذا على حب الخير
للغير كما يحبه المرءُ لنفسه: هذا ما أرسل
الله به رُسلَه إلى الناس كافة، في القارات
كلِّها والأزمان كلِّها. لقد أحسن د. عبد الجبار
الرفاعي انتخابَ عناوين هذه المجموعة
المميزة ونَشْرَها في سلسلة "ثقافة
التسامح" ببغداد، في وقت يشهد العراقُ
استقطابًا طائفيًّا حادًّا، وتشنجًا صاخبًا
في التعبير عن المواقف، وتوترًا شاملاً،
واستهدافًا للفكر الحرِّ والمثقفين
والسياسيين الوطنيين، وتصفياتٍ غامضةً
للنخَب الأكاديمية والعلمية، واحتقاناتٍ
عصبوية، تكاد أن تقوِّض بنيةَ المجتمع
العراقي وتفتِّت النسيجَ الاجتماعي في هذا
البلد الذي ظل صامدًا مئات السنين أمام
العواصف ومحاولات التفتيت. ***
*** ***
|
|
|