|
المنهج
التاريخي في الأدب قراءة
نقدية المنهج،
لغةً، هو "الطريق الواضح"، واصطلاحًا،
هو خطوات منظمة يتخذها الباحث لمعالجة مسألة
أو أكثر ويتتبَّعها للوصول إلى نتيجة. وبناءً
عليه، فالمنهج التاريخي للأدب هو المنهج الذي
يصار فيه إلى دراسة الأديب وأدبه أو الشاعر
وشعره من خلال معرفة سيرته ومعرفة البيئة
التي عاش فيها ومدى تأثيرها في نتاجه الأدبي
أو الشعري؛ في عبارة أخرى، هو المنهج الذي
يُعنى بدراسة الأديب، بمعرفة العصر الذي عاش
فيه والأحداث العامة والخاصة التي مرَّ بها،
وبدراسة النص في ضوء حياة ذلك الأديب وسيرته
والظروف التي أثَّرت عليه. أي أن الأحداث
التاريخية وشخصية الأديب يمكن لها أن تكون
هنا عوامل مساعِدة على تحليل النص الأدبي
وتفسيره. ولهذا نرى أن هذا المنهج يعمل على
إبراز الظروف التاريخية والاجتماعية التي
أُنتِجَ فيها النص، دون الاهتمام كثيرًا
بالمستويات الدلالية الأخرى التي يكشف عنها
هذا النص ودراسة مدى تأثيره على القارئ، بعكس
النظريات النقدية الحديثة، كالبنيوية
والتفكيكية، اللتين أعطتا السلطةَ للقارئ
وجعلتاه سيدًا على النص الأدبي لا ينازعه
منازع. يتخذ المنهج التاريخي، إذن،
من الحوادث التاريخية والاجتماعية والسياسية
وسيلةً لتفسير الأدب وتعليل ظواهره وخصائصه،
ويركِّز على تحقيق النصوص وتوثيقها باستحضار
بيئة الأديب والشاعر وحياتهما؛ فهو، في قول
آخر، قراءة تاريخية في خطاب النقد الأدبي
تحاول تفسير نشأة الأثر الأدبي بربطه بزمانه
ومكانه وشخصياته. أي أن التاريخ هنا يكون
خادمًا للنص؛ ودراسته لا تكون هدفًا قائمًا
بذاته، بل تتعلق بخدمة هذا النص. في مثل هذه الحالات، لا بدَّ
للناقد من التحقق من صحة الرواية الأدبية
بالشك فيها، من حيث إن مبدأ الشك مبدأ
علمي يجب أن يستعان به من أجل البحث عن
الحقيقة وتوثيقها (في المرويات التاريخية
والتراثية في شكل خاص) ومن أجل التحقق من مكان
حدوث ظاهرة ما وزمانه، وصولاً من خلال ذلك إلى
الحقيقة واليقين، وخاصة في الأدب الشفاهي. من
ناحية أخرى، يتعامل هذا المنهج مع النص
الأدبي كوثيقة تاريخية، فلا يلتفت إلى القيم
الجمالية والفنية كثيرًا، أي لا يبحث في النص
من حيث شكله الفني ومعماريَّته الجمالية
وإيقاعه. ويذهب المنهج التاريخي في
النقد، في شكل خاص، إلى التنبيه إلى أهمية ما
هو خارج النص ومعرفة سياقاته. وبهذه الطريقة،
لجأ النقاد إلى استنباط القيم من الواقع
الخارجي ومما هو متخصص من الأبحاث للتوصل إلى
مجموعة من التراكيب والتأويلات، حتى وصل
الأمر بأنصار المنهج إلى حدِّ الإسراف
والمغالاة في الجمع بين البيئة والأدب، إذ
جعلوا من هذا الأخير بمثابة "ظل" ينساق
وراء ركب البيئة. وقد شوهت هذه "الظلال"
الكثير من الأمور الإبداعية لدى الأدباء
والشعراء معًا. المنهج التاريخي، كما
رأينا، يعول كثيرًا على دور البيئة والتاريخ
في الأدب والشعر. وقد اعتمد عليه عددٌ من
النقاد العرب القدماء لدراسة الأدباء
والشعراء في بيئاتهم، أمثال عبد العزيز وعبد
القاهر الجرجاني وابن سلام وغيرهم ممَّن
توصلوا بحسِّهم السليم إلى أثر بيئة البادية
في شعر العرب مثلاً، فقالوا إن شعر البادية
يمتاز بالخشونة والجفاف، – بعكس شعر الحَضَر
الذي يغلب عليه طابعُ الرقة واللين، – تبدو
على سيمائه آثار قسوة الطبيعة وعنفوانها، كما
أن آثار الديار المهجورة ورسومها المندثرة
التي كادت الرياح والأمطار تمحو معالمها
تذكِّر الشاعر العربي على الدوام بحبِّه
القديم وتحفزه على قول النسيب الحزين الذي
تُستهَل به القصيدة العربية القديمة عادة.
بالمثل، فسَّروا قلة الشعر في الطائف بقلَّة
الحروب والمنازعات التي كانت ترخي العنان
لألسنة الشعراء وخيالهم الخصب في التغنِّي
بالبطولة والأبطال وبمآسي الحروب وتبعاتها
المريرة. وأقصد هنا بـ"الأدب"
كلاًّ من الشعر والقصة والرواية والحكاية
والمسرح إلخ. فالأدب من وظائفه الإسهام في كشف
جوانب غامضة من الواقع وفي إعادة التوازن بين
الأنا والآخر. وأداته اللغة التي هي لفظ
ومعنى، دال ومدلول: دال هو الصورة الصوتية
للكلمة، ومدلول هو الصوت الذي اصطلح الناس
على معناه ومغزاه؛ وهي مجمل الفكر البشري
معبَّرًا عنه بالأسلوب الفني. إن ما ينشده أصحاب المدرسة
التاريخية في الأدب يجدونه منقوشًا على حروف
اللغة وكلماتها. يقول فردينان دو سوسور (1857-1913)
إن اللغة "نظام إشارات تعبِّر عن الأفكار"؛
أي أن اللغة تحمل الفكر وتنقله من المرسِل إلى
المرسَل إليه أو المتلقي. بينما يرى ابن جني
الطبيعة الاجتماعية للُّغة، إذ هي لديه "أصوات
يعبِّر بها كلُّ قوم عن أغراضهم". ولكني أرى
أن اللغة أكثر من مجرد ناقل للأفكار، بمعنى أن
للُّغة جانبَها السرِّي: هي مهمة مكتوبة بـ"حبر
سرِّي"، لا يفك رموزها سوى خبير متمرس. فقد
تراكم على حروفها غبار التاريخ، وعبق البيئة
الطبيعية، وأساطير الناس، ولوحات حياتهم
الاجتماعية، وإبداعاتهم التراثية أيضًا،
وحتى الجوانب النفسية، مسجَّلة كلها على
أشرطة اللغة، بنغمات حروفها، وجرْس كلماتها
الجميلة والمعبِّرة في آن. ولهذا يمكن للنصِّ
اللغوي سدُّ الكثير من الثغرات العلمية: أي
يمكن لنا من خلاله استخلاص الكثير مما نريد
التعرف إليه من العناصر. فالنص اللغوي يحمل
دومًا في طياته إيحاءاتٍ جغرافيةً وتاريخيةً
واجتماعيةً وبيئيةً وتراثية، كما يحمل
فضاءات النفس البشرية، وصورةً عن العقلية
والمفاهيم الشعبية الدارجة – وهذه كلها تأتي
بعد بحث واستقصاء مفيدين، وبعد وضع النص في
إطاره الزماني والمكاني اللذين أُنتِجَ
فيهما، أو ما يُعرَف بمتابعة التطور الدلالي
للنص. فللشاعر القدرة على استحضار وقائع
التاريخ وشخصياته، يضيف إليها بُعدًا يستجلي
من خلاله صورةَ العصر وما فيه من أحداث، فينفخ
فيها من روحه وذاته، من خلال النص الأدبي الذي
تحكمه معايير نقدية نابعة من صلبه. ممارسة النقد، من هذا
المنظور، ينبغي أن تبقى رهينة رصد عملية
الإفراز الدلالي للنص، ومتابعة منعرجاته
وتضاريسه؛ بينما كانت المفاهيم النقدية
العربية القديمة تقوم على الحُسْن والقبح،
وهما مفهومان قيميان تراعى فيها إجادةُ
الصنعة ورداءة السبك. فالنقد، من هذا
المنظور، هو وسيلة التغيير والبحث الدؤوب عما
سكت عنه النص، لأن اللغة، كما هو معلوم في
الدراسات الأدبية التأويلية، هي فضاءات
الوظيفة النقدية الفسيحة. ولذلك أصبحت الكلمة، بحسب
النقود الحديثة، قطعة من الوجود وحضور كيان
وجسم، ووجهًا من وجوه التجربة الإنسانية،
وأصبح لها طعم ومذاق خاص، كما في قصيدة "نكروما"
للشاعر السوداني محمد الفيتوري التي يقول
فيها: كلماتي
أجساد ضحايا مصلوبين على الطرقات كلماتي
أحشاء حبلى تتلوى تحت الطعنات كلماتي
أصوات حياة لا تعرف موت الكلمات هاهنا، كما نرى، تتماهى
الكلمةُ في جلاء مع الوجود والجسد البشري
تمامًا. وبما أن اللغة هي مادة
الأدب، فهي ليست مجرد مادة هامدة كالحجر،
وإنما هي ذاتها من إبداع الإنسان؛ ولذلك فهي
مشحونة بالتراث الثقافي لكلِّ مجموعة لغوية.
وبذا يذهب الناقد الفرنسي هيپولت تين (1828-1893)
في كتابه تاريخ الأدب الإنكليزي (1864) إلى
حدِّ القول بأن باستطاعة المؤرخ أن يفسر آداب
الشعوب والأفراد في ضوء ثالوث العِرق والبيئة
والعصر؛ وبهذه العناصر الثلاثة حاول أن
يفسِّر الاختلاف بين أدب الإنكليز وآداب
الآخرين غيرهم. وقد انتقد منهجَه التعميمي
هذا غوستاف لانسون (1857-1934) الذي قال بأن على
مؤرخي الأدب التمييز بين تاريخ الأدب
والتاريخ العام، لأن تاريخ الأدب يدرس ماضيًا
مستمرًّا في الحاضر، ولأن الأعمال الأدبية
تحوي قيمًا جمالية وإنسانية باقية، في حين أن
التاريخ العام يدرس ماضيًا منقطعًا عن
الحاضر، فلا يُنتفَع منه. ولهذا دار خلافٌ بين
النقاد، عربًا وغير عرب، بين رأيين في المنهج
التاريخي لدراسة الأدب والشعر: الرأي الأول
يرى وجوب معرفة الأديب من أدبه والشاعر من
شعره، بينما الرأي الثاني يرى وجوب معرفة
الأديب أو الشاعر من خلال بيئته التي نشأ فيها
وما يحمله من غبارها وآثارها. الرأي الأول
يمثِّل له العديد من دارسي الأدب والشعر في
العالم، ومنهم الناقد الفرنسي سانت بوف
(1804-1869) الذي يرى وجوب أن "يؤخذ من دواة كلِّ
مؤلِّف الحبرُ الذي يُراد رسمُه به"؛ في
عبارة أخرى، يحاول سانت بوف الوصول إلى شخصية
المؤلِّف من وراء عباراته بحيث يفهمه قراؤه. من مؤيِّدي هذا الرأي في
العالم العربي عباس محمود العقاد، الذي
تميَّز بمناداته بالحرية والفردية في الأدب.
وقد ذهب العقاد إلى حدِّ القول بأن الأديب يجب
أن يُعرَف من أدبه والشاعر من شعره، وليس
العكس، فقال: "إن الأديب الذي لا يمكن
العثور على شخصه الفرد الأصيل في أدبه لا
يستحق أن يدرسه الدارسون." ولهذا ألَّف
كتابه عن ابن الرومي بعنوان ابن الرومي:
حياته من شعره. وقد سار معه على هذا المنوال
جماعة "الديوان"، كعبد الرحمن شكري
وإبراهيم عبد القادر المازني وغيرهما – وإنْ
كان العقاد قد ناقض نفسه، فعاد مرة ليقول إن
معرفة البيئة ضرورية في نقد كلِّ شعر في كلِّ
أمة (مندور، النقد والنقاد المعاصرون). بينما يمثل الرأي الثاني
الشاعر والناقد الإنكليزي صموئيل كولريدج
(1772-1834)، الذي كان يقيم على الدوام العلاقةَ
بين الكاتب وبيئته، بما معناه أن الكاتب يحمل
في سيمائه آثار البيئة التي نشأ فيها، مما
يمكِّننا من معرفته من خلالها تمامًا. وقد ذهب
مذهبه طه حسين بمنهجه القائل بضرورة معرفة
الشاعر والأديب من بيئتهما. ولهذا كان طه حسين
يحرص دومًا على التأكيد على دور الذوق في
النص الأدبي، لأن الذوق يُعَد عاملاً من
العوامل التي يعتمد عليها الناقد التاريخي في
دراسة الظاهرة الأدبية، ولأن التاريخ الأدبي
لا يستطيع أن يكون بحثًا موضوعيًّا بالكامل،
إذ هو شيء وسط، فيه موضوعية العلم وفيه ذاتية
الأدب؛ وبالتالي، فليست هناك معرفة أدبية
تغني عن الذوق التأثُّري. فالنقد الذي يتبع
المنهج التاريخي لا يستطيع أن يعتمد مناهج
البحث العلمي البحت وحده، وإنما يضطر معه إلى
دراسة الذوق – هذه الملكة الشخصية الفردية –
للوصول منها إلى الكثير من النتائج التي
يتوخاها. هذا، وعلى الرغم من واقعية
الرأي الأول القائل بوجوب معرفة الشاعر من
شعره، إلا أن هذا الرأي يُظهِر، بدوره، ضيق
أفق في نظرته قليلاً، لأنه قد لا يمكن معرفة
الشعراء كلهم من شعرهم ولا الأدباء كلهم من
آدابهم (هوميروس الإغريقي مثلاً)؛ ولكنه يبقى
من المناهج المفضَّلة في دراسة الأدب والنصوص
التراثية. فمنطق هذه الدراسة هو أن الأديب أو
الشاعر لا يتأثر بكلِّيته بالبيئة، وإنما
هناك في دواخل كلِّ شاعر وأديب أحاسيس وأشياء
تتمرد على البيئة وعلى قوانينها مما لا يمكن
لها التحكم بها أبدًا. على حين يرى معظم
النقاد أن المنهج الأكثر صوابًا وحكمة هو
المنهج الذي تتفاعل فيه شخصية الأديب مع
الظروف التاريخية، حتى نصل، من خلال هذا
التماهي، إلى معرفة شخصية الأديب الحقيقية.
فعلى الناقد الذي يتصدى لقراءة النص قراءةً
نقدية أن يغوص في النص ويندمج معه اندماجًا
روحيًّا وعقليًّا وفنيًّا، تمامًا كما غاص
فيه مُنشِئُه ومبدعُه، ليصل إلى اكتناه جوهره
الحقيقي وما يشير إليه من قيم ومفاهيم. كذا فلا يحق للناقد
التفكيكي أن ينظر إلى النص من خلال رؤيته
النقدية الحديثة، بل عليه أن يحكم عليه من
خلال المعيار الفنِّي الذي ساد في عصر النص
والبيئة التي أنتجه. فعلى سبيل المثال، يذهب
النقد الحديث إلى وجوب النظر إلى "الوحدة
العضوية" للقصيدة العربية القديمة. وهذا ما
قال به ابن رشيق القيرواني، وقال به العقاد
أيضًا، متأثرًا بكولريدج، الذي أطلق مصطلح organic
structure، أي "البنية
العضوية" للقصيدة. كما نظرت البنيوية إلى
النص بالمنظار نفسه، ورأت أن تفتيت عناصر
النص كلٍّ على حدة ينجم عنه فقدان قوام النص
بأكمله: فكل عنصر لا يتحقق وجوده إلا في
علاقته مع العناصر الأخرى، ثم في علاقته
بالكلِّ البنائي للنص الأدبي (الوائلي، تدفق
الينبوع). وهو صحيح إلى حدٍّ ما، مع أنه قد
ثبت أن ذلك لا يمكن تطبيقه إلا في الألوان
الأدبية التي لها مقدمة ووسط وخاتمة، كالسرد
القصصي والرواية والمسرحية والشعر القصصي
والمسرحي كذلك (في الوقت الذي كان النقاد
العرب القدماء يفضلون في القصيدة العربية
استقلالية البيت الواحد، ولم يعدوا في ذلك
عيبًا، وخاصة في قصائد الشعر الجاهلي). ولهذا
نقول إن وحدة الغرض هو المعيار الأصح
والتعبير الأنسب عن مضمون القصيدة العربية (الجاهلية
منها خاصة)، لأن القصيدة العربية القديمة –
بخلاف الحديثة – أصابها التفكك من جراء
استقلالية البيت الواحد وتنوع أغراض القصيدة
الطللية ما بين الوقوف على الأطلال أو البدء
بالنسيب كمقدمة للقصيدة، يليها الغرض
الرئيسي للقصيدة ومبتغاها، كالمدح أو الذم
مثلاً. وهذا ما لا يمكن محاسبة الشاعر الجاهلي
عليه بحسب نظرية "الوحدة العضوية"
بمقاييسنا الحالية. وقد وقع أحمد شوقي نفسه في
مأزق هذا التفكك حينما قلَّد القدماء بقصيدة
يمدح فيها خديوي مصر فقال: خدعوها
بقولهم حسناء والغواني
يغرُّهن الثنـاء ثم تابع مديحَه للخديوي.
نقول هنا إن شوقي وقع في مأزق، لأن تقليد
الشعر الجاهلي، بمحاكاة تشبيهاته واستعاراته
وتعبيراته وأساليبه، يُعَد أسلوبًا مرفوضًا
لدى النقاد، حيث يؤدي ذلك بالشاعر إلى أن يعيش
ويتنفس برئات الآخرين وأنفاسهم، وليعيش في
عصر ليس عصره. فإذا طبَّقنا معايير النقد
الحديث على الشعر العربي الجاهلي نكون أجحفنا
بحقِّ هذا الأدب، لأن النقد الحديث يدرس
القصيدة من خلال "الوحدة السياقية" في
القصيدة وكلِّيتها وتماسُكها وتكاملها،
بينما تتنوع الأغراض في القصيدة الجاهلية،
والشاعر ينقل ما يراه حوله، وليس ما نراه نحن.
لذا فإن الناقد، حين يمارس نقده، عليه أن يعمد
دومًا إلى استنطاق العناصر الفنية للنص في
ضوء المناهج النقدية والعلوم المساعدة، من
جهة، وفي ضوء ما يملكه من أدوات ذاتية
وموضوعية تعيد إنتاج النص في شكل جيد، دون أن
يهمل دلائله التوثيقية، من جهة أخرى. وهنا يتنازع النص مفهومان:
مفهوم القيمة التاريخية، ومفهوم النقد
المنهجي المنفتح على دلائل كثيرة، لأن الشعر،
في شكل خاص، يواكب التطورات التاريخية
والفكرية. يقول ابن طباطبا العلوي: اعلم
أن العرب أودعت أشعارَها من الأوصاف
والتشبيهات والحِكَم ما أحاطت به معرفتُها
وأدركه عيانُها ومرَّتْ به تجاربُها [...]. وهنا نلمس في الشعر حِكَمًا
ومعارف وتجارب وخبرات منفتحة على الحياة لعصر
معيَّن يمكن لنا استخلاصها منه بدراسة نقدية
جادة وهادفة. وقال أبو عمرو بن العلاء: "كان
الشعر علم قوم، لم يكن لهم علم أصح منه."
ولهذا كثيرًا ما اتخذ الجغرافيون والمؤرخون
الشعرَ مصدرًا يستقون منه معلوماتهم. فهذا هو
الجانب الذي يجب أن يُعتَد به، إلى حدٍّ ما،
في الدراسة المنهجية التاريخية للأدب: أي أن
نستدل من قراءة النصوص على شخصية مبدعيها
وروح العصر ونفس الشعب، وليس العكس، على
الرغم من المحاذير الكثيرة لهذه المقاربة: إذ
علينا ألا نجعل التاريخ حَكَمًا على النص، بل
أن نستنطق النصَّ ونستخلص منه ما يتعلق به من
مفاهيم وإيحاءات تفيدنا في إعطاء معلومات قد
تغْني معارفنا العلمية قليلاً أو كثيرًا
وتفيد في دراسة وتصوير جوانب الحياة
الإنسانية وبيئتها، كما واختلاجات قلب
الشاعر وشاعريته، لأن النصوص هي مسارح أنفاس
المبدع ودلائل معاناته. على الرغم من هذا، فقد
انتقصت الدراسات الحديثة من دور البيئة التي
تدخل ضمن المنهج التاريخي في النقود الأوربية
الحديثة. وقد أعلن بعضهم في الغرب مؤخرًا
إفلاس المنهج التاريخي في الدراسات الأدبية
بسبب المعايير التي سنأتي على ذكرها لاحقًا،
حتى طالَبَ بعض النقاد العرب ودارسو الأدب
بحرق جميع الكتب المدرسية العربية التي
تتناول تاريخ الأدب العربي لأنها ترسم
للآخرين صورًا مشوهة عن العرب في جزيرتهم
العربية. وأعتقد أن هذا رأي مبالغ فيه كثيرًا! وقد ذهب آخرون إلى القول
برفض تاريخ الأدب لأنه يستعير مبادئه من
التاريخ، ولأنه يسعى إلى أن يزوِّده بطرائق
للبحث تتفق وصور العلم التي كانت سائدة لدى
الأقدمين العاملين في حقل التاريخ، كما فعل
الفرنسي فردينان برونوتيير (1849-1906)، خصم
المدرسة الطبيعية اللدود، الذي ثار على إقحام
النظريات العلمية في الأدب، فقال إن المواعظ
الدينية هي التي تطورت فأنتجت المذهب
الرومانسي. بالمثل، رفض التقيد بطرائق
التاريخ؛ إذ يؤدي هذا التقيد إلى دراسة الأدب
بموجب منهجيات قديمة ومستعارة لا تنطلق من
جوهر المادة الأدبية ولا تؤدي إلى مقدمات
ونتائج سليمة. غير أن هناك محاذير في
المنهج التاريخي قد تسيء إلى عملية دراسة
معرفة الشاعر وروح العصر من الأدب والشعر. ففي
الأدب العربي (في الشعر خاصة) نصادف على
الدوام إشارات غنية، يتوزَّعها المعنى
الغريب والطرفة الضاحكة والوصف المبتكر. غير
أننا يجب ألا نغترَّ بهذه المنعكسات التي
ترين على سيمائها بصماتُ قصور السلاطين
والمتنفذين وروائح نواديهم وملاهيهم
وندمائهم الأثيرين، في معزل عن الحياة
الاجتماعية للسواد الأعظم من الناس. فإذا
اقتصرنا على مثل هذه الإشارات في الأدب
التاريخي نكون قد وقعنا في لعبة التعميم
الخاطئ الذي يضيع من جرائه المسكوت عنه في
لجَّة الكلمات المعبِّرة عن حياة السلاطين
وندمائهم، دون أن نرى شيئًا من منعكسات
الحالة الاجتماعية الأدنى مستوى، إلا في ما
حواه الأدب العامِّي في الروايات والقصص.
وهذه الازدواجية في الأدب تشكِّل ظاهرة غير
صحية أمام مهمة الأدب التاريخية والاجتماعية. في ضوء هذه الدراسة
التاريخية، نشأ ما يُعرَف بـ"تاريخ الأدب
العربي" الذي استحوذ على اهتمام عدد من
الرواد من العهد الإسلامي، كأبي الفرج
الأصفهاني مثلاً في كتابه الأغاني، الذي
يروي فيه النصوص روايةً متسلسلة عن الرواة؛
ومثله أبو علي القالي في كتابه الأمالي
والثعالبي في يتيمة الدهر. وفي العصر
الحديث، تجلَّى المنهج التاريخي لدى حسين
توفيق العدل في كتابه تاريخ الأدب، وفيه
يعتقد الرجل أن التاريخ الأدبي للغة تابع
للدين والسياسة في آنٍ واحد؛ ثم أحمد
الإسكندري وكتابه الوسيط، وأحمد حسن
الزيات وكتابه تاريخ الأدب. وبعد هؤلاء،
كان هناك عدد من الأدباء، منهم جرجي زيدان
الذي ألَّف العديد من الروايات التاريخية
وكتابه الشهير تاريخ آداب اللغة، ثم طه
حسين في ذكرى أبي العلاء وفي الأدب
الجاهلي إلخ. إلا أن مقومات المنهج
التاريخي لدى هؤلاء بقيت تدور في أُطُر ضيقة
محصورة في بوتقة التاريخ وحده، ولم تستطع
الإفلات منه لتخرج إلى ميادين البحث التي
سيطرت على المناهج الغربية، كما هي الحال لدى
غوستاف لانسون، بل بقيت تعتمد الانتقائية
التي جرَّدتها من الروح العلمية التي كانت
تسعى إليها التاريخيةُ في الأدب مؤخرًا.
أولئك جميعًا ابتعدوا كثيرًا عن توجيه النصوص
الوجهة الصحيحة. ففي حين اعتمد غوستاف لانسون
على الاستقصاء التفصيلي في دراساته الأدبية (وهو
ما تميزت به الدراسةُ التاريخية في الغرب)
بالابتعاد عن إطلاق الأحكام النهائية
والقاطعة، اعتمد الأدباء عندنا على مواقف
انتقائية وعلى الجزم والقطع، فعمَّموا ذلك
على عصر بكامله، كما فعل طه حسين، مثلاً،
حينما انكب على دراسة شعر المجون في العصر
العباسي، فجعل من ظاهرة المجون روح العصر
بكامله! ومن تأكيداته القاطعة ننتقي العبارات
التالية: إن
الترجمة من الهندية أوجدت الزهد، نظرًا لورود
الكثير من الإشارات الدينية البراهمية لدى
المتصوفة المسلمين. اتساع
نفوذ الفرس أوجد المجون، نظرًا لانتشار
الحضارة لدى الفرس وميلهم نحو الترف والنساء. عزلة
الحجاز سياسيًّا أوجدت الغزل. كثرة
الجواري أوجدت الغناء، لأن الجواري كان بعضهن
يتقن الغناء في موطنهن، كما تعلَّم بعضهن
الغناء للترفيه عن الخلفاء وأسيادهن. وهي كلُّها أحكام قاطعة في
حاجة إلى استقصاءات وبحوث تاريخية مستفيضة.
ومن سيئات القراءة المنهجية للتاريخية في
الأدب أيضًا أنها قد لا تلتفت إلى "الذات"
التي أنتجت النص، بل إلى ما قيل فيه النص، لأن
الشاعر أو الأديب قد لا يكون لهما وجود إلا من
خلال السلطان؛ ولذلك تتغاضى عن عملية الإبداع
نوعًا ما. وهناك عائق آخر أمام تلك الدراسات
التاريخية، بسببه ربما أعلن النقد الحديث أن
المنهج التاريخي للأدب قد مُنِيَ بالإفلاس،
وهو إهماله الحاسم للمكان في النص. وفي هذا
الصدد كثيرًا ما أعلن أبو نواس عن تبرُّمه من
استمرار الشعراء في الوقوف على الأطلال حتى
في العهد الإسلامي (وقد رأينا كيف وقع شوقي في
هذا المطب أيضًا!)، حيث كان الشعراء يقفون
أمام أبنية متهدمة بدلاً من الأطلال،
ويصوِّرون الخرائب تصويرًا في غاية الروعة
والجمال. وبذلك علا صوت النقاد بالاحتجاج على
ما يحصل للأدب هنا، بالإضافة إلى أن التاريخ
تحول، في هذه الحال، من وصف الأشياء إلى
الحُكم عليها. كما تملَّقت التاريخيةُ
السياسةَ وجعلت الأدب تابعًا للسياسة تبعية
مبالغًا فيها، بعكس الحقيقة التي تقول بأن
الأدب هو مفجِّر الثورات والممهد لها، كما هي
الحال مع أدباء فرنسا الذين عجَّلوا
بكتاباتهم في قيام الثورة الفرنسية (1789).
وبذلك كانت متابعة الأدب للسياسة تشكِّل
هاجسًا لدى النقاد ودارسي الأدب، الذين
سيقرون سلفًا ببعض الآراء؛ بل إن نصوصها
زودتْهم بآراء قد لا يحسون بتسلُّلها إليهم
وسلطانها عليهم. وكمثال على ترابُط الماضي
بالحاضر وفوائد النصوص التراثية والتاريخية
واستخلاص النتائج منها، سأورد – على سبيل
المثال – نموذجين اثنين من التراث العربي:
الأول هو قول النابغة في الملدوغ الذي كانت
العرب تسميه سليمًا: ويسهد
من ليل التمام سليمها
لحليِّ النسـاء في يديه قعاقع لاحظوا هنا ما نستخلصه من
خلال القراءة التاريخية المختصرة من هذا
البيت ومغزاه التاريخي: البيت يشير في وضوح
إلى عادة عربية قديمة تتمثل في معالجة
الملدوغ الذي كانوا يضعون في يديه ورجليه
الأساور والحلي والأجراس لئلا ينام، لأنهم
أدركوا أن السمَّ أسرع انتشارًا في الجسم في
حال النوم منه في حال اليقظة (وهذا ما أثبته
العلم الحديث اليوم). صحيح أننا لم نذكر الصور
الفنية أو الموسيقى والإيقاع في هذه العجالة،
فاكتفينا بإبراز العادة العربية الجاهلية،
لكننا استطعنا أن نستخلص هنا، من خلال
معرفتنا بالتاريخ والتراث العربيين، معنى
كلمة "سليمها"؛ أي استدللنا من البيئة (كأحد
عناصر المنهج التاريخي) على مغزى الكلمة
ومعناها، وتجاهَلنا الشاعر، قائل هذا البيت
وصاحبه. فلو وضعنا هذا البيت أمام ناقد يجهل
تراث المنطقة وبيئتها لاحتار في دراسته
ومعناه ولما توصل في هذه الحالة إلى نتيجة
مرضية، مهما طبَّق عليه من مناهج بنيوية أو
تأويلية أو تفكيكية حديثة؛ إذ سيكتفي منها إذ
ذاك بالعموميات. وفي مثل هذه الحالات – وليس
في الحالات كلِّها – قد يفيدنا المنهج
التاريخي، بهذا الشكل أو ذاك – لكن مع الحذر
الشديد لئلا يأخذنا المنهج إلى أحد مطبَّات
التاريخ! مثال آخر يكشف عن عادة عربية
قديمة قد يفيد أيضًا في توضيح المنهج
التاريخي، وهو قول الربيع بن زياد حينما قُتل
أخوه مالك في إحدى غزوات القبائل المستمرة
آنذاك: قد
كنَّ يخبِّئن الوجـوهَ تستُّرًا
فالآن حيـن برزن للنـظَّـار يضـربن
وجوههنَّ على فتى
عفِّ الشَّـمائل طيِّب الأخبـار وفي
هذا نلاحظ أيضًا إشارة إلى عادة تاريخية لدى
العرب، وهي أنهم كانوا يمسكون عن ندب قتيلهم
حتى يأخذوا بثأره، وعندما يثأرون له، يسمحون
للنادبات بالندب وللباكيات بالبكاء على
القتيل وتعداد مناقبه وفضائله. وهذا هو مضمون
البيتين تحديدًا. وهكذا فقد علمنا معنى
البيتين المعجمي في سهولة؛ لكن السؤال الأهم
هو: لماذا كانت النسوة "يخبِّئن الوجوه
تسترًا" ثم "يبرزنها للنظار الآن"؟ لا
شك أنه لا يمكن لنا معرفة السبب من البيتين
وحدهما مطلقًا، فلجأنا إلى التاريخ والتراث
معًا لتوضيح هذا السبب. هذا الأمر كان يثني
النقاد العرب القدماء عن البحث كثيرًا عن
الصور الفنية وجماليات التلقِّي في قصائد
شعرائهم، بخلاف المناهج الحديثة التي كانت
غائبة عنهم. علينا أن ندرك أن الأدب –
وفي شكل نسبي، وأشدد هنا على كلمة "نسبي"
– يمثل تاريخ أهله وخطابهم الفكري
والاجتماعي والفني وحاجاتهم المتنوعة الأخرى
في كلِّ مرحلة من مراحل تطورهم. أي أن الشعر
والأدب يحويان سمةً جماليةً ودلاليةً
تاريخيةً في آنٍ واحد. وهنا أرى أن أفضل
النقود لدراسة مثل هذه النصوص هو استخدام منهج
النقد التكاملي الذي يجمع بين مناهج نقدية
مختلفة في دراسة خلال نصٍّ واحد، حتى نأتي على
جميع جوانب النص وما تحمله من قيم إبداعية
وفنية وجمالية وبيئية وتاريخية. ***
*** *** المصادر
والمراجع -
إسماعيل،
عز الدين، الشعر العربي المعاصر: قضاياه
وظواهره الفنية. -
بلوحي،
محمد، آليات الخطاب النقدي. -
دراسات
في الأدب العربي. -
السيوطي،
المزهر في علوم اللغة. -
علامات
(مجلة) في النقد، 54، المجلد 14. -
مندور،
محمد، النقد والنقاد المعاصرون. -
الوائلي،
كريم، تدفق الينبوع. -
الوائلي،
كريم، في الشعر الجاهلي. |
|
|