العلم يواجه تخوم المعرفة
ندوة البندقية و"إعلانها": نحو رؤية عبرمناهجية للواقع

سمير كوسا

 

أمام التخصص والتشتت المتزايدين اللذين تظهر آثارُهما الخطيرة على مستويات الحياة كافة، الاجتماعية والفكرية والنفسية، يشعر كثيرون، من ناحية، بضرورة العودة إلى نظرة شاملة إلى الإنسان في الطبيعة والكون وإلى علاقاته مع سائر المنظومات. وقد أدت الاكتشافات الحديثة في مختلف فروع العلم ومناهجه، من ناحية أخرى، وخاصة في الفيزياء، إلى التدليل على أن مفاهيمنا المتعلقة بالطبيعة والحياة ليست سوى تقريبات فظة لحقيقة أعمق، الإنسانُ جزء منها.

فهل يمكن لنا، بفضل من العلم الحديث، أن نلقي أضواء جديدة على الحياة؟ وهل يمكن لما سُمِّي بالمعرفة "الحدسية"، و"الروحية" أيضًا، أن يكون له أي دور في النظرة الجديدة إلى الحياة؟ وإذا كان الجواب عن هذا السؤال بنعم، هل يمكن للمعرفة الحدسية، بدورها، أن تنير العلم، عِبْرَ حلقة، كل نقطة منها تستدعي النقاط الأخرى وتولِّدها؟

في هذا السياق، انعقدت ندواتٌ عدة جمعت عددًا من الأقطاب البارزين بين المفكرين والعلماء في هذين النوعين من المعرفة، أشهرها اثنتان: ندوة العلم والوعي: قراءتان للكون، التي انعقدت في قرطبة[1]. وقد مثَّلت هذه الندوة نقطة انطلاق لبعض الحركات الداعية إلى توحيد العقل والروح؛ إلا أن عددًا من العلماء رأوا فيها ارتدادًا للعقلانية. وقد تجلَّى هذا الرفض في وقائع ندوة تسوكوبا (1985)، المنشورة في كتاب العلم والرموز: طرق المعرفة[2]، حيث ظهر التعارضُ بين العلماء الغربيين ومضيفيهم في اليابان الذين رفضوا قطعيًّا، من منطلق عقلاني، التوفيق بين المنهج العلمي والنظريات الروحية والغيبية، الشرقي منها والغربي، لصالح ترسيخ المنطق العلمي الأرثوذكسي، معتبرين أن المقاربات "التوفيقية" لعلماء من نحو أوليڤييه كوستا دوبوروگار وفريتيوف كاپرا وسواهما فارغة من أيِّ مضمون متماسك.

أما ندوة البندقية، التي انعقدت في آذار (مارس) 1986 بإشراف اليونسكو، فقد نجحت، للمرة الأولى، في إصدار إعلان مشترك شارك في تحريره ووقَّع عليه المساهمون جميعًا، ونجحت – وإنْ في صورة حذرة – في طرح أسئلة حقيقية وملحَّة. وقد وزعت اليونسكو في كتاب[3] نسخة عن المحاضرات (باللغتين الإنكليزية والفرنسية).

أما الكتاب الثاني[4]، الذي يتناول وقائع الندوة والذي نكتفي هنا بالإشارة إلى صدور ترجمته إلى العربية عن وزارة الثقافة السورية[5]، فهو يضم بين دفتيه العديد من المناقشات التي دارت خلال الندوة وبعض البرامج الإذاعية التي خُصِّصَتْ لها. ونذكر من المشاركين فيها: محمد عبد السلام (حائز على جائزة نوبل في الفيزياء)، جان دوسيه (حائز على جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب)، بَسَراب نيكولسكو (فيزيائي)، دافيد أوتوسون (فسيولوجي ورئيس لجنة جائزة نوبل للفسيولوجيا والطب)، روپرت شلدريك (بيولوجي)، هنري ستاپ (فيزيائي)، وسواهم.

وخير الكلام على هذا المؤتمر هو في إيراد التصريح الآتي الذي انتهى إليه:

إعلان البندقية

إن المشاركين في ندوة "العلم يواجه تخوم المعرفة: توطئة لماضينا الثقافي"، التي نظَّمتْها اليونسكو بالتعاون مع مؤسَّسة جيورجيو تشيني (البندقية، 3-7 آذار 1986)، إذ تحدوهم ذهنيةٌ منفتحةٌ ومتسائلةٌ حول قيم عصرنا، وقع اتفاقُهم على النقاط التالية:

  1. إنَّا نشهد ثورة مهمة جدًّا في ميدان العلم، ناجمة عن العلوم الأساسية (الفيزياء والبيولوجيا بخاصة)، من خلال الانقلاب الذي أحدثتْه في المنطق، في الإپستمولوجيا، وكذلك في الحياة اليومية عِبْرَ التطبيقات التكنولوجية. غير أننا نعاين، في الوقت نفسه، وجود شقة واسعة بين النظرة الجديدة إلى العالم، المنبثقة من دراسة المنظومات الطبيعية، وبين القيم التي مازالت سائدة في الفلسفة وفي العلوم الإنسانية وفي حياة المجتمع الحديث. إذ إن هذه القيم تقوم، إلى حدٍّ كبير، على الحتمية الآلتية أو الوضعية أو العدمية. وإننا نستشعر هذه الشقة بوصفها مؤذية للغاية وتنطوي على تهديدات ثقيلة بتدمير الجنس البشري.
  2. وصلت المعرفة العلمية، بفعل حركتها الداخلية ذاتها، إلى تخوم يمكن لها فيها أن تباشر التحاور مع أشكال أخرى للمعرفة. بهذا المعنى، ومع إقرارنا بوجود اختلافات أساسية بين العلم والمنقول، نعاين أنهما ليسا متعارضين بل متكاملان. إن اللقاء غير المتوقع والمُغني بين العلم وبين مختلف منقولات العالم يجيز لنا التفكير في ظهور نظرة جديدة إلى الإنسانية، بل عقلانية جديدة حتى، من شأنها أن تقود إلى منظور ميتافيزيائي جديد.
  3. وفي حين نرفض كلَّ مشروع مُعَولِم وكلَّ منظومة فكرية مغلقة وكلَّ يوطوپيا جديدة، فإننا نقر، في الآن نفسه، بالحاجة الملحة إلى بحث عبرمناهجي بحق، في تبادل دينامي بين العلوم "الدقيقة" والعلوم "الإنسانية" والفن والمنقول. وبمعنى ما، فإن هذا المقترَب العبرمناهجي مكتوب في مخِّنا نفسه من خلال التفاعل الدينامي بين شطريه. بذا يمكن للدراسة المشتركة للطبيعة وللخيال، للكون وللإنسان، أن تقرِّبنا تقريبًا أفضل من الواقع وتتيح لنا أن نواجه تحديات عصرنا المختلفة مواجهةً أفضل.
  4. يحجب التعليمُ التقليدي للعلم، من خلال عرضه الخطِّي للمعارف، وجود القطيعة بين العلم المعاصر والنظرات القديمة إلى العالم. وإننا نقر بالحاجة الملحة إلى البحث عن طرائق تربوية جديدة تأخذ في حسبانها فتوح العلم التي باتت تتوافق الآن مع المنقولات الثقافية الكبرى التي يبدو صونُها ودراستُها دراسةً عميقة أساسيين. ويلوح لنا أن اليونسكو هي المنظَّمة المناسبة للترويج لأفكار كهذه.
  5. تلقي تحديات عصرنا – تحدي التدمير الذاتي لجنسنا، التحدي المعلوماتي، التحدي الوراثي، إلخ – ضوءًا جديدًا على مسؤولية العلماء الاجتماعية في المبادرة وفي تطبيق البحث في آنٍ معًا. وإذا كان العلماء غير قادرين أن يبتوا في أمر تطبيق مكتشفاتهم، فلا يجوز لهم أن يتفرجوا صاغرين على التطبيق الأعمى لهذه المكتشفات. وفي رأينا أن سعة التحديات المعاصرة تتطلب، من ناحية، إعلام الرأي العام إعلامًا دقيقًا ودائمًا، ومن ناحية أخرى، إيجاد أجهزة إرشاد، وحتى قرار، ذات طبيعة متعددة المناهج وعبرمناهجية.
  6. نعبِّر عن أملنا في أن تواصل اليونسكو هذه المبادرة عبر تشجيعها للتفكير الموجَّه نحو العالمية والعبرمناهجية.

المشاركون:
د.أ. أكييامپونغ (غانا)، أڤيشاي مرگليت (إسرائيل)، أوبِرَتان دامبروزيو (البرازيل)، يوجيرو ناكامورا (اليابان)، رونيه برجيه (سويسرا)، بسراب نيكولسكو (فرنسا)، نيكولو دالاپورتا (إيطاليا)، ديڤيد أوتوسون (السويد)، جان دوسيه (فرنسا، جائزة نوبل للفسيولوجيا والطب)، محمد عبد السلام (پاكستان، جائزة نوبل للفيزياء)، مايتريي ديڤي (الهند)، روپرت شلدريك (المملكة المتحدة)، جلبير دوران (فرنسا)، هنري ستاپ (الولايات المتحدة الأمريكية)، سانتياغو خينوفيس (المكسيك)، ديڤيد سوزوكي (كندا)، سوسانتا گوناتيلَكي (شري لنكا)

مراقبان ومحاضران:
ميشيل راندوم (فرنسا) وجاك ريتشاردسون (فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية)

Déclaration de Venise

Les participants au colloque « La science face aux confins de la connaissance : le prologue de notre passé culturel », organisé par l’UNESCO avec la collaboration de la Fondation Giorgio Cini (Venise, 3-7 mars 1986), animés par un esprit d’ouverture et de questionnement des valeurs de notre temps, sont tombés d’accord sur les points suivants :

  1. Nous sommes témoins dune très importante révolution dans le domaine de la science, engendrée par la science fondamentale (en particulier, par la physique et la biologie), par le bouleversement quelle apporte en logique, en épistémologie et aussi dans la vie de tous les jours à travers les applications technologiques. Mais nous constatons, en même temps, lexistence dun important décalage entre la nouvelle vision du monde qui émerge de létude des systèmes naturels et les valeurs qui prédominent encore en philosophie, dans les sciences de lhomme et dans la vie de la société moderne. Car ces valeurs sont fondées, dans une large mesure, sur le déterminisme mécaniste, le positivisme ou le nihilisme. Nous ressentons ce décalage comme étant fortement nuisible et porteur de lourdes menaces de destruction de notre espèce.
  2. La connaissance scientifique, de par son propre mouvement interne, est arrivée aux confins où elle peut commencer le dialogue avec dautres formes de connaissance. Dans ce sens, tout en reconnaissant les différences fondamentales entre la science et la tradition, nous constatons non pas leur opposition mais leur complémentarité. La rencontre inattendue et enrichissante entre la science et les différentes traditions du monde permet de penser à lapparition dune vision nouvelle de lhumanité, voire dun nouveau rationalisme, qui pourrait conduire à une nouvelle perspective métaphysique.
  3. Tout en refusant tout projet globalisant, tout système fermé de pensée, toute nouvelle utopie, nous reconnaissons en même temps lurgence dune recherche véritablement transdisciplinaire dans un échange dynamique entre les sciences « exactes », les sciences « humaines », lart et la tradition. Dans un sens, cette approche transdisciplinaire est inscrite dans notre propre cerveau par linteraction dynamique entre ses deux hémisphères. Létude conjointe de la nature et de limaginaire, de lunivers et de lhomme, pourrait ainsi mieux nous approcher du réel et nous permettre de mieux faire face aux différents défis de notre époque.
  4. Lenseignement conventionnel de la science, par une présentation linéaire des connaissances, dissimule la rupture entre la science contemporaine et les visions dépassées du monde. Nous reconnaissons lurgence de la recherche de nouvelles méthodes déducation, qui tiendront compte des avancées de la science qui sharmonisent maintenant avec les grandes traditions culturelles, dont la préservation et létude approfondie paraissent fondamentales. LUNESCO serait lorganisation appropriée pour promouvoir de telles idées.
  5. Les défis de notre époque – le défi de lautodestruction de notre espèce, le défi informatique, le défi génétique, etc. – éclairent dune manière nouvelle la responsabilité sociale des scientifiques, à la fois dans linitiative et lapplication de la recherche. Si les scientifiques ne peuvent pas décider de lapplication de leurs propres découvertes, ils ne doivent pas assister passivement à lapplication aveugle de ces découvertes. À notre avis, lampleur des défis contemporains demande, dune part, linformation rigoureuse et permanente de lopinion publique, et dautre part, la création dorganes dorientation et même de décision de nature pluri- et transdisciplinaire.
  6. Nous exprimons l’espoir que l’UNESCO va poursuivre cette initiative, en stimulant une réflexion dirigée vers l’universalité et la transdisciplinarité.

Participants :
D.A. Akyeampong (Ghana)
Avishai Margalit (Israël)
Ubiratan d’Ambrosio (Brésil)
Yujiro Nakamura (Japon)
René Berger (Suisse)
Basarab Nicolescu (France)
Nicolo Dallaporta (Italie)
David Ottoson (Suède)
Jean Dausset (France, Prix Nobel de Physiologie et Médecine)
Abdus Salam (Pakistan, Prix Nobel de Physique)
Maitreyi Devi (Inde)
Rupert Sheldrake (Royaume-Uni)
Gilbert Durand (France)
Henry Stapp (États-Unis d’Amérique)
Santiago Genovès (Mexique)
David Suzuki (Canada)
Susantha Goonatilake (Sri Lanka)

Observateurs intervenants :
Michel Random (France) et Jacques Richardson (France, États-Unis d’Amérique)

مؤسف، أخيرًا، تعدُّد الأخطاء التي وردت في الكتاب الثاني فيما يخص أسماء العلماء: فالخلط دائم بين بوهم Bohm وبوهر Bohr وغيرهما؛ وهذا عامل مشوِّش للقارئ. غير أني لا أستطيع إلا أن أبدي إعجابي بكلِّ مبادرة تهدف إلى توحيد البشر على المستويات كلِّها وإلى توحيد الفرد ذاته.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


[1] Science et conscience : les deux lectures de l’univers, Colloque de Cordoue, Michel Cazenave, dir., Éd. Stock/France-Culture, Paris, 1980.

[2] Science et symboles : les voies de la connaissance, Colloque de Tsukuba, Albin Michel/France-Culture, Paris, 1986.

[3] La science face aux confins de la connaissance : le prologue de notre passé culturel, Rapport final, Colloque de Venise, UNESCO, Venise, 1986.

[4] La science face aux confins de la connaissance, préface dYves Jaigu, Michel Random, dir., Éditions du Félin, Coll. « Science et connaissance », Paris, 1987.

[5] العلم يواجه تخوم المعرفة (وثائق ندوة البندقية المنعقدة بمبادرة من اليونسكو في آذار 1986)، بترجمة محمد حسن إبراهيم، منشورات وزارة الثقافة في ج.ع.س.، سلسلة "علوم"، رقم 17، دمشق 1994.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود