في فضح عنصريَّتنا الكامنة

 

منى فياض[1]

 

عندما ابتدأ الاعتصام والتخييم في ساحات الـDowntown وأرصفته في الأول من كانون الأول من العام المنصرم [2006]، شعرت، كغيري، بخطورة هذا الخيار وبتسارع تعميق الشرخ المتنامي في بنيان الاجتماع اللبناني وبالانقسام الإضافي الذي سيتسبب فيه.

وتتابعتِ الأحداث، وتبيَّن أن الشرخ الذي نجم عن تلك الممارسات المتهورة، المتتابعة في لبنان منذ اغتيال الرئيس الحريري، وخاصة بعد حرب تموز الشهيرة، أدى إلى أخطر انقسام مذهبيٍّ عَرَفَه لبنان حتى تاريخ اليوم، خاصة في ظلِّ الوضع المذهبي المتدهور في العراق. فهذا الانقسام لم يعد يهدد لبنان والعراق فحسب، بل بدأ يعم العالمَ العربي، من عمان إلى القاهرة إلى عواصم أخرى.

أسمع تساؤل الكثير من الخطباء – ومن بينهم خطباء "حزب الله" بالطبع – مستغربين ما يحصل، مؤكدين أن الخلاف أو الاختلاف "سياسي" فقط، نافين عنه الطابع المذهبي، متسائلين في براءة: لماذا يراه العامةُ كذلك؟ ولماذا استُغِلَّ وحُوِّل إلى صراع مذهبي؟! يبدو واحدهم كأنه هبط لتوِّه في بلاد تنعم بأحسن علاقات المواطَنة، وتخضع للقانون وللمؤسسات في دولة القانون، وتجهل معنى "پسيكولوجيا الجماهير" psychologie des masses (غوستاڤ لوبون)، ولا تعرف معنى التحيز والتعصب ونبذ الآخر المختلف أو تحقيره، وصولاً إلى العنصرية التي هي الممارسة العملية لما سبق كلِّه.

يبدو واحدهم وكأنه نسي أن الخلاف أو الصراع الأساسي بين المذاهب الإسلامية المختلفة (وخاصة بين الشيعة والسنَّة) لم يكن سوى خلاف سياسيٍّ في الأصل. فعلامَ يختلف المذهبان؟ – أجيبوني، بالله عليكم! هل إن لكلِّ مذهب نسختَه الخاصة من القرآن؟ هل يختلفون على معتقدات جوهرية؟ أم أن الخلاف هو على مبدأ "الخلافة" نفسه ولمن أحقيَّتها؟ – أي على مبدأ الحق في السلطة بين تيارين كبيرين اتخذا دائمًا طابع الخلاف "الأسري" عامة!

والسؤال هنا هو: لماذا ينقلب الصراعُ في بلادنا من المستوى السياسي إلى المستوى الديني أو المذهبي والعكس؟ لماذا هذا التبادل في الأدوار؟ ربما ساعدنا إميل دوركهايم على فهم هذا التبادل. هو ذا، في كتابه عن الأديان، يكتب ما يلي:

تولِّد الحياةُ الجماعية، بعد أن تصل إلى درجة معينة من الكثافة [ما الذي يكثِّف الحياة الجماعية أكثر من الصراع السياسي والأزمات الناتجة عنه؟]، يقظةَ الفكر الديني، ذلك لأنها تحدِّد حالةً من الغليان تغيِّر من شروط النشاط النفسي. تحصل إثارةٌ فائضةٌ للطاقات الحيوية، ويصير الهوى أكثر اشتعالاً والمشاعر أقوى؛ وهناك مشاعر منها لا تنتج إلا في هذه اللحظة. لا يعود المرءُ يتعرف إلى نفسه ويصبح وكأنه قد تحوَّل، وبالتالي، يحوِّل البيئة التي تحيط به.

عندما يكون المنطق السياسي للصراع أضعف من أن يقلب الموازين لمصلحة أحد المتصارعين، تتكثَّف الحياةُ الجماعية، وتغلي المشاعرُ في النفوس، فيستيقظ الحس الديني، وينقلب الصراع إلى صراع ديني ومذهبي. كما أن اللجوء إلى الدين أو "الحق الإلهي" يمنح الشرعيةَ والأحقِّية، ويطبع الأمور بطابع منزَّه، مقدس، يُبعدها عن المفاهيم السلبية الملتصقة بكلِّ ما هو "سياسي"، المرادف عامةً للفساد وللانتهازية إلخ. ولمن يستغرب انقلاب الصراع السياسي في لبنان إلى صراع مذهبي، نذكِّر بالوقائع القريبة التالية:

"حزب الله" حزب ديني، يدين بالعقيدة الشيعية، خاصةً التي تعتمد فهمًا مخصوصًا للتشيع قائمًا على مفهوم "ولاية الفقيه". وهو حزب جاهَر بذلك في كتاباته السابقة، ويجاهر به الآن. كما أن القائمين على الحزب، في بدايات عملهم في لبنان على الأقل، لم يخفوا هدفهم في الوصول إلى مجتمع "الجمهورية الإسلامية". كما يقيم الحزبُ الشعائر التي يستتبعُها هذا الانتماءُ كلَّها، ويحشد أتباعَه ويؤلِّف فيما بينهم على أساس هذا الانتماء المجبول بالولاء، أولاً وأخيرًا. يتجلَّى هذا الأمر في جميع احتفالاته وشعائره واجتماعاته. وهو يفاخر بذلك ويشجع المنتمين إليه على هذا الانتماء/الولاء وعلى هذا التوجه: من الشعارات، إلى الألوان والطقوس والعادات الاجتماعية المستعادة، وحتى اللغة. ويتم التوجه إلى الموالين للحزب كفئة متجانسة، ملتحمة، متميزة، متعالية، لتمتُّعها بالفضائل التي تميزها عن غيرها. حتى الخُطَب لا تقام، في معظمها، إلا في المناسبات الدينية؛ وهي تستعيد مفرداتِ الصراع الأزلي السياسي–المذهبي منذ مئات السنين، فتنبشها من الماضي، وتعيد تكرار مشاهد هذا الصراع ورموزه، وتستعيد العباراتِ التي تستدر العواطف وتؤججها. ويتم التساؤل بعدئذٍ في براءة: لماذا نشهد هذا الاحتقان المذهبي في لبنان؟!

السؤال البديهي والموضوعي هو: كيف يمكن للمواطن الآخر، من دين أو مذهب مختلف، ألا يربط بين السياسة والدين عندئذٍ؟ كيف يمكن له ألا يستعيد، هو الآخر، ذلك التاريخ المحمَّل بألوان الصراع والفتن، فيعود بذلك الاحتقانُ والشقاقُ هو نفسه؟ هل "حزب الله" حزب سياسي فقط؟ أم أنه حزب سياسي–ديني؟ فلماذا الاستغراب عندما يختلط السياسي بالديني عند قراءة الآخرين – خاصة المذهب المنافس تقليديًّا – لتحركاته ومطالبه؟ لماذا يستغرب الحزب وممثلوه تحفُّز الشارع السنِّي وشعورَه بنفسه مستهدَفًا عندما يحتل هذا الحزب (مع شركاء له) الساحاتِ المواجهةَ للسراي، مطالبًا برحيل ممثل السنَّة في الحكومة الذي يحظى بدعم، لنقل، نصف اللبنانيين فقط، بينما يحتكر الحزبُ تمثيل طائفته ويمنع غيره – وحلفاءه حتى – من التكلم باسمها؟! ثم ألم تكن الانتخابات الأخيرة هي المؤسس بامتياز لهذا الانقسام الحاصل اليوم كلِّه؟ ألم تؤسس للخوف ولانحسار الطمأنينة ولشيوع الارتياب من الآخر، بحيث اعتبرت كل طائفة نفسَها مهدَّدة من الآخرين؟ لقد تم حشد الناس بالتحريض الطائفي، ووصل الأمر بالأطراف المتنازعة على المقاعد الانتخابية إلى اعتبار كلِّ طرف نفسَه الضمانةَ الوحيدة لـ"طائفته المهددة"!

وهنا لا يمكن لنا إغفال دور السياسيين، على مختلف فئاتهم وطوائفهم، في دفع الظاهرة المتفشية المتمثلة في مشكلة طغيان التعميم: نتوجه إلى الجميع وكأنهم صخرة صماء، لا مكونات فردية فيهم. فـ"حزب الله" هو الذي يقرر عن الطائفة الشيعية ككل، ويعدُّ الحكومةَ "غير ميثاقية" لأنها تُخِلُّ بتمثيل هذه الطائفة الشيعية المصادَرة نفسها – جزئيًّا على الأقل، خوفًا وقمعًا وتخجيلاً ومنعًا سافرًا –، ويريد المشاركة الحقيقية في الحكومة من طريق "الثلث المعطِّل".

والسؤال هنا هو: ماذا عن مشاركة سائر الأطراف في الطائفة الشيعية نفسها في القرار وفي الحكم؟ ماذا عن الذين لا يشاركون الحزب و"حركة أمل" في الرأي ولا يقبلون بهما ناطقَين حصريَّين باسم هذه الطائفة؟ كيف يمكن لهم تعطيل البلد من أجل المشاركة على صعيد الوطن، فيما تتم مصادرةُ أية مشاركة على صعيد تمثيل هذا الطرف الطائفي أو ذاك؟ – هذا الطرف الذي يجاهر، في الوقت نفسه، بـ"ديموقراطيته" ويصر أنه لا يعبِّر عن رأي طائفة، بل عن رأي فئات متنوعة من المجتمع اللبناني؟

ليس "حزب الله" وحده مسؤولاً عن هذه الظاهرة. فالآخرون يساهمون فيها، عن قصد أو غير قصد وعلى درجات متفاوتة، عندما يتوجهون إلى الشيعة خاصة (أو أية جماعة أخرى) كجماعة واحدة، ككتلة متجانسة لا تمايُز فيها. إن في هذا من التعسف ما فيه؛ لكن آثاره تتجاوز التعسف لأنها تعطي الذريعةَ للمزيد من تماسُك الجماعات وانغلاقها على نفسها. إن اعتراف الآخرين بمثل هذا الانتماء يشكل أفضل هدية معنوية واجتماعية تزيد من تماسُك هذا النمط الأشوه من النسيج الاجتماعي. وإذا كان في الانتماء إلى جماعة نوعٌ من تخلٍّ عن قدْر من الحرية، فإن ذلك يعوَّض عنه بإثبات الذات في شكلها الجماعي، أي إثبات الهوية الجماعية لهذا الانتماء والتعصب. ومن هنا فإن النسيج اللبناني، في مجمله، يتحمل وزر ما هو حاصل الآن من تحيُّز وتمييز.

لا يفسِّر الاصطفافات المذهبية والطائفية الحاصلة في لبنان سوى فهم غ. لوبون لپسيكولوجيا الجماهير:

يتجمع الجمهور على مستوى الطائفة أو المذهب، متناسين اختلافاتِهم وهمومَهم المهنية وجنسهم. يتجمعون في ظروف محددة، فتنطمس الشخصيةُ الواعيةُ لدى الفرد منهم، وتتشكل روحٌ جماعية تهيمن عِبْرَها الشخصيةُ اللاواعيةُ والتوجهُ الاجتماعي ضمن الخط نفسه بواسطة التحريض. ويصير سلوكُ الفرد آليًّا في الغالب الأعم، فتنعدم لديه الروحُ النقدية والرأيُ الشخصي، وينزلق إلى المبالغة في المشاعر.

وقد أشار لوبون، في معرض تفسيره لهذه الظاهرة، إلى أن أهمية الاندماج في مجموعة يكمن في جعل الجهلة يتحررون من الإحساس بدونيتهم وعدم كفاءتهم وعجزهم، فيصيرون مجيَّشين تجييشًا قويًّا هائلاً، ويصبحون أقوى وأصحاب غلبة. وهم يستمدون هذه القوة من اتِّباعهم لقائد "ملهَم"، فيتبعون الآراء التي يعتمدها. فالجماعة تمتلك قدرةً هائلةً على احتواء الفرد، لكنها أيضًا تستطيع خنق الهوية الفردية خنقًا لا يُتصوَّر. وهي تستطيع الوصول إلى السلطة المطلقة بمجرد أن تغذي الأفراد بالأوهام. إن الجماهير، في شكل عام، عبارة عن أفراد متعطشين إلى "رموز" يعلِّقون عليها آمالَهم. ويضاف إلى دور "القائد البطل" كونُ ظهوره بمثابة استجابة لهذه الحاجة الملحَّة. ويتجلَّى سلوك الأفراد حينئذٍ في الاتكالية والتعلق وفي الحاجة إلى الخضوع لتجنب الألم وتجنب قلق المسؤولية الفردية وحملها. فهذا القائد يبدو جاهزًا لتحمُّل كل مسؤولية عنهم بسبب ما يتمتع به من "قوى خارقة"! كما أن أهم ما يحصل على مستوى الأفراد في الجماعات وحشودها هو التفريغ، بحيث يصير جميع الأفراد جزءًا من الجمهور ويتخلصون عِبْرَه من اختلافهم، فيشعرون بأنفسهم "متساوين"، فتختفي المسافاتُ فيما بينهم. ومن هنا وَهْمُ محاكاة الأسلوب الديموقراطي: المساواة؛ لكنها "مساواة" منقوصة، لأنها تنحصر ضمن فئة واحدة فقط، وتعتمد التشابه، ولو بالقوة، وليس قبول الاختلاف واحترام الرأي الآخر المغاير. يسهل في ظلِّ هذا الوضع أن يسود التحيز والتنميط والتمييز العنصري، مكوناتُ اللاتسامح الثلاثة المرتبطة، لكن المتمايزة.

والتحيز هو حرفيًّا "الحكم المسبَّق" préjugé، أو ما نصدِّقه حول شيء أو شخص، مرتكزين على الظن والاعتقاد أكثر من الارتكاز على تجربة فعلية. إن التحيز قد يكون ضد شيء ما أو معه؛ لكن في الاستخدام الشائع يرجح النفورُ من مجموعة معينة بكاملها، أو من جزء منها، كجماعة عرقية أو إثنية أو مذهبية دينية أو كالجنس الاجتماعي gender أو فئة عمرية. لقد عرَّف السوسيولوجيون بالتحيز كـ"نفور مرتكِز على تعميم خاطئ وجامد". والتحيز موقف، وليس مجرد سلوك. وللتأكد من ذلك ليس عليكم سوى الاستماع إلى أحاديث أطفالكم (أطفال الغير!) والإنصات إلى اللغة التي يتكلمون بها التي كانت غريبة عنكم في طفولتكم! – اللغة التي تعود إلى الجذور التاريخية للصراع وإلى الصور الأثرية التي يكوِّنها كل فريق عن الآخر والتي استعيدت وانتعشت كأفضل ما يكون الانتعاش! إنهم مرآتكم التي تعجزون عن رؤية أنفسكم من دونها!

إنه "التنميط" stéréotype الذي يمكن تعريفه في بساطة كـ"تعميم جامد"، التنميط الذي يسود حياتنا. وهو يعتمد "تنسيب" relativiser بعض مزايا الأشخاص في بساطة على قاعدة انتمائهم لمجموعة ما. التنميط هو تبسيط مبالَغ فيه وجامد لصور ذهنية، قد تحتوي على بذرة من الحقيقة، لكنها تُحمَّل تعميماتٍ خاطئةً بُنِيَتْ حولها. وأحد الأشياء المثيرة للاهتمام حول التنميط أن الناس يظلون يصدقونه حتى بعد أن تقدَّم لهم أدلةٌ غير قابلة للدحض على غلطه. وغالبًا ما يقلل "المنمِّطون" من أهمية ملاحظاتهم الشخصية، فيشكِّكون فيها كما تفترض "توقعاتهم من القاعدة". إنهم يتبعون الجماعة وحسب! لذا يمكن للتنميطات أن تكون ثابتة في تطرُّف.

أما "التمييز العنصري" racisme، فهو، بعكس التحيز، يحيل إلى سلوك: إنكار الحقوق الأساسية و/أو الفرص لأعضاء بعض المجموعات على قاعدة متغيرات واسعة، مثل العرق والعمر والجندر والدين/المذهب أو الإعاقة. أفلا نجد في هذه التوصيفات ملخصًا لتاريخنا المذهبي والسياسي؟ – تاريخنا العنصري حيال مختلف الأقلِّيات والإثنيات وتعبيراتها الثقافية في منطقتنا[2].

ومن الأمثلة المحدثة على ما نسوقه ما أوردَه السيد إسماعيل هنية في خطابه يوم 06/10/2006، عندما أراد أن يدافع عن القوة التنفيذية التي شكَّلتْها "حماس" لتحل محلَّ القوى الأمنية الفلسطينية المشكَّلة بقرار منبثق عن اتفاق أوسلو، فحاول أن ينفي عن هذه القوة صفة "العصابات" أو "المليشيات"، قائلاً إنها ليست عصابات كالپشمرگة الكردية. ردًّا على ذلك، كتب مهند صلاحات تحت عنوان "من يعتذر من الشعب الكردي؟" ما يلي:

وعلى الرغم من أن الپشمرگة الكردية لا تمثل الشعب الكردي كلَّه، إلا أن وحدهم المخوَّلون توصيفَ هذه الحركة هم الأكراد أنفسهم [لاحظوا التحيز أيضًا!]، ولا يجوز التمادي من قبل مَن يعتبر نفسه ممثلاً للشعب الفلسطيني، يعاني كما يعاني الشعب الكردي من التشتيت والمذابح. فالأكراد ليسوا عصابات، وهم شعب أصيل متجذِّر كانت له دولة تاريخية أصيلة تمتد لأكثر من مئات السنين في هذه الأرض.

هذا صحيح، ما في ذلك ريب. لكن ما رأيكم بهذه "العنصريات" المتبادلة، ننتهجها كلَّ يوم دون أن ننتبه أو أن يرفَّ لنا جفن؟! كما أن العداء المتنامي ضد الإيرانيين والسياسة الإيرانية أيضًا، باللجوء إلى الموقف العنصري من "العجم" و"الفرس" و"المجوس" وما شابه من النعوت، مستمَد هو الآخر من التاريخ الدامي والعنصري السحيق لكي يستعيد صراعات أثرية، نأمل ألا تكون أزلية. فإيران، كما نعلم، ليست مكونة من "فرس" فقط، بل من إثنيات عدة مختلطة، بما فيها العرب! هذا ناهيكم عن رأي الفرس والإيرانيين بالعاربة وكل ما يستتبع ذلك من تحيز متبادل بين جميع هذه الإثنيات، عاينتُ بعضَه شخصيًّا.

هذا نموذج عن ممارسات سياسيينا الذين يستغربون فيما بعد الصراعَ والصدامَ بين مكونات شعوبنا المتعددة. رحم الله صدام حسين على كلِّ حال! أليس هو القائل: "عرب، أكراد، كلنا عرب"؟! هل فكَّرنا في ما يعنيه ذلك؟ رفض الآخر في اختلافه، وعدم الاعتراف به كمختلف، بل إلحاقه غصبًا بالعنصر المهيمن. ونشكو من أن الأمريكيين وإسرائيل يزرعون الفتنة في ما بيننا، ونجعلهم على كلِّ شيء قادرين!

تعترض الحركات "النسوية" féminisme على تحيُّز اللغة. ففي اللغة العربية تُستعمَل صيغةُ المذكر عند وجود ذكر واحد مقابل مئات النساء! يتم التوجه عند ذاك إلى الجمهور وكأنه كلَّه من الذكور! وجه الاعتراض على ذلك أنه يلغي وجود النساء ويغلِّب وجود العنصر الذكري. فكيف يمكن لنا أن نُجمِلَ الجميع من أجل واحد فقط ونُبرز وجود هذا العنصر الوحيد، فنتصرف وكأن النساء غير موجودات؟! لكن، في المقابل، ولأن اللغة متحيزة ضد المرأة، يحافظ هذا الفعلُ على خصوصية الذكر ويمنع انمحاء هويته عند وجود نساء! الحل هو إما في استخدام صيغة "محايدة" وإما في استخدام ما يُظهِر وجودَ تمايُز جندري (جنسي اجتماعي).

في المقابل، نشمل الطوائف والجماعات في وعاء واحد مضبوط متجانس لا يفلت منه أي فرد (لا نهتم لوجوده أصلاً)، فنقول "يرى الشيعة كذا" و"يريد الشيعة هذا الأمر"، أو المسيحيون الانعزاليون أو الأكراد أو سُنَّة العراق، وهكذا دواليك، فنلغي بذلك أيَّ تمايز وأية خصوصية لأيِّ فرد ضمن جماعته. فهل يُعقَل أن يكون لأتباع دين بعينه، أو لطائفة، أو لعرق، أو لإثنية، رأيٌ موحَّد في موضوع ما، أيِّ موضوع؟ أليس هذا مكمن التحيز؟ ولماذا تحافظ اللغة العربية على تمايُز فرد ذكر وتلغي خصوصية أفراد عديدين يصعب إحصاؤهم؟ لماذا يعبِّر عنهم موقفُ فئة بعينها فقط، مهما كان عديد هذه الفئة أو عدتها؟ هذا هو التحيز والتمييز الذي ينعكس ممارسةً فيما نسميه في صراحةً "التمييز العنصري". إنهما وجهان لتحيز واحد ولتمييز عنصري واحد بالمعنى العصري للتمييز والتحيز: فأن نلغي المجموع من أجل فرد والعكس، أي أن نلغي الأفراد من أجل المجموعات، هما وجها التحيز والتعصب والعنصرية.

لكن هذه الممارسات ليست قَدَرًا لا رادَّ له. لقد سبق أن عانت أوروبا من صراعات أكثر دموية، لكنها تخطَّتْ مشكلاتها عندما اعتمدت القانون مرجعًا وحيدًا للعلاقات بين الناس كمواطنين متساوين، وعندما فصلت بين الدين والدولة، وعندما نمَّتِ الإنسانَ وحسَّنت ظروف حياته على جميع الأصعدة، الرمزي منها والاجتماعي والاقتصادي، وأتاحت له تربية متوازنة منسجمة مع أهداف المواطَنة. لم يعد يكفي أن نقول إن زرع دولة إسرائيل تسبَّب في الكثير من المآسي – ومنها العنصرية (ولو أن هذا صحيح) – أو أن نقول إن أمريكا تزرع الفتنة بيننا؛ فالشيطان، سواء شخَّصناه في أمريكا أو إسرائيل، يغوينا ويراودنا عن أنفسنا قبل أن ينقضَّ علينا. فلماذا نجعل أنفسنا ضعافًا أمام غوايته؟!

علينا تخطِّي واقعنا وتحسينه. فلنستمع إلى النصائح اليابانية. إنها مجانية، لكنْ يمكن لها أن تحمل لنا أفضل الحلول التي لن تقدَّر بمال! ربما يتعين على "حزب الله" الاختيار بين السياسة والدين، بين "ولاية الفقيه" وبين المواطَنة اللبنانية وكل ما تستتبع. أما إذا كان "حزب الله" مصرًّا على الجمع بين الديني والسياسي، متنقلاً بينهما بحسب ما يحلو له، فهو إذ ذاك لا يستطيع منعَ الآخرين من إجابته بالمثل ويصر، في الآن نفسه، على النجاة "بريئًا من دم هذا الصدِّيق" (پيلاطس الپُنطي)!

*** *** ***


[1] أستاذة في الجامعة اللبنانية.

[2] أتيح لأحد محرِّري معابر يعمل في حقل التدريس أن يستمع مذهولاً إلى شكوى طالب أفريقي من بوركينا فاسو، درس الشريعة والأدب الفرنسي في جامعة دمشق، من هول المعاملة العنصرية التي لقيها من زملائه الطلاب السوريين! (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود