التطهير العرقي في فلسطين
الخطة "دالت" و"النكبة" بحسب المؤرِّخ الإسرائيلي إيلان پاپه

 

إليـاس خـوري

 

أثير الكثيرُ من النقاش في إسرائيل حول أطروحة تيدي كاتس لنيل شهادة الماجستير من جامعة حيفا عن مذبحة الطنطورة (1999). لم يكن الصمتُ الذي فُرِضَ على الطالب الإسرائيلي مفاجئًا، ولا سحبُ شهادته الجامعية وطردُه، بعدما رفع جنودٌ سابقون من "لواء ألكسندروني" دعوى قضائية ضده بتهمة تشويه شهاداتهم التي أدلوا بها إليه. لكن ما أثارني هو الصمت الفلسطيني على هذه المذبحة!

عدت إلى رواية إميل حبيبي سعيد أبي النحس المتشائل، وحاولت أن أستنطق باقية، زوجة سعيد، الأمر. باقية، مثلما تصفها روايةُ حبيبي، امرأة من الطنطورة، كانت تعيش في الصمت كي تكتم سرَّها. لكن السرَّ سوف يقود ابنها ولاء إلى اكتشاف الكنز، وإلى الاختباء في الكهف حاملاً كنزه المؤلَّف من ذاكرته وسلاحه، مما سيدفع الأم إلى الالتحاق بابنها والاختفاء معه، ليصير سرُّهما الجديد جزءًا من السرِّ القديم. الطنطورية، في رواية إميل حبيبي، لم تروِ حكاية المذبحة الرهيبة التي حصلت في القرية الفلسطينية الساحلية في 22 أيار 1948، حيث أُعدِمَ أكثر من مئة قروي؛ إذ كان الصمتُ حجابَها، والخوفُ على السرِّ من الضياع همَّها، لذا أخذت السرَّ معها إلى المغارة. وهي في ذلك تشبه غالبية الفلسطينيات والفلسطينيين الذين ضربوا ستارًا من الصمت حول مأساتهم، وبقيت الحكاية متشظِّية في الكلام الشفهي وبعض النصوص القليلة.

في صيف 1978، عندما ذهبنا، إلياس صنبر وأنا، إلى مخيم اليرموك في دمشق من أجل زيارة قبر صديقنا عز الدين القلق، ممثل منظمة التحرير الذي اغتيل في باريس، استمعنا من والدته الطنطورية إلى حكاية المذبحة التي جرت في القرية؛ وهي الحكاية التي شكَّلت جزءًا من نصٍّ كتبتُه عن القلق بعنوان أو كهزيع من الليل ونُشِرَ في مجلة شؤون فلسطينية. لم تكن طنطورية إميل حبيبي تختلف عن والدة عز الدين إلا في أمر واحد: امرأة الرواية آثرت أن تموت مع ابنها في كهف السر، بينما لم يتسنَّ ذلك لامرأة الحقيقة، فنطقت بسرِّ المذبحة وكشفت الستار عن الرعب والخوف والمهانة.

رويتُ الحكاية للمؤرخ الإسرائيلي إيلان پاپه حين التقينا في الصيف الماضي [2007] في سالزبورغ، في إطار التدريبات التي كانت تجريها أوركسترا "الديوان الشرقي–الغربي" (تيمنًا بكتاب غوته الشهير) بقيادة دانيال بارنبويم. أسَّس هذه الأوركسترا الكاتب الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد مع صديقه الإسرائيلي بارنبويم كي تكون أرض لقاء بين موسيقيين شباب من إسرائيل وفلسطين والعالم العربي وإسپانيا. وبعد وفاة سعيد، الذي كان يدير نقاشًا ثقافيًّا وفنيًّا وسياسيًّا يوميًّا مع الموسيقيين الشباب، وقعت على عاتق مريم، زوجة سعيد، وعلى دانيال دعوةُ مجموعة من المثقفين للقيام بهذا الدور. في هذا الإطار الذي يجمع فتنة الموسيقى إلى حيوية الشباب، بقيادة فنان ساحر، التقيت إيلان پاپه وآڤي شلايم ورشيد الخالدي والروائي والشاعر الإسرائيلي إسحق لاور. كانت أيامًا ساحرة، حيث كنَّا نمضي النهار في التمتع بتدريبات الأوركسترا والتفرج على قائدها المدهش وهو يحرك بعصاه نبضات قلوبنا، ثم ننصرف في المساء إلى مناقشات جمعت السياسة إلى التاريخ والأدب. ومفارقة ذلك اللقاء أنه شهد إعلان پاپه هجرته من إسرائيل واستقالته من جامعة حيفا؛ كما كان أيضًا اللحظة التي سبقت منح الجنسية الفلسطينية للموسيقي الإسرائيلي.

صورة تجمع الراحل إدوارد سعيد إلى صديقه دانيال بارنبويم.

رويت لپاپه حكاية الفرق بين المرأتين الطنطوريتين، بعدما كنت أنهيت قراءتي لكتابه التطهير العرقي في فلسطين، الذي صدر بالإنكليزية[1]. وإذ قلت له إن الكتاب سوف يصدر بالعربية عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" في بيروت، أجاب أنه يعرف ذلك. وسألته متى يصدر بالعبرية، فابتسم بمرارة ولم يجب. فنقلت إليه اقتراح يائيل ليهرر بأن تقوم "دار الأندلس" في تل أبيب بنشر الكتاب باللغة العربية، وقلت مازحًا: "هكذا تنضم إلى قافلتنا الصغيرة من الكتَّاب العرب الذي ترجمتْهم ليهرر!" كنت أعرف أن الرجل عاش في ضائقة كبرى بعد الأزمة التي أثيرت حول أطروحة كاتس، لكني فوجئت به يقول إنه سيغادر للعمل في بريطانيا، وإنه قرر ترك إسرائيل، عازيًا ذلك القرار إلى مناخ العزلة الذي يحاصره في حيفا.

بعد رجوعي إلى بيروت، عدت إلى قراءة كتاب پاپه من جديد، وأذهلني مبناه الأخلاقي. فالكتاب – عدا عن كونه وثيقة تاريخية نادرة وصادمة – موقف أخلاقي ينطلق من أصالة البحث التاريخي، من الشعور بأن الحقيقة يجب أن تقال وبأن النكبة التي أصابت الشعب الفلسطيني يجب أن تُروى بوصفها "تطهيرًا عرقيًّا".

قبل أن أبدأ حواري معه، اختلفنا على مصطلح "النكبة". فپاپه أخذ الكلمة على دلالتها المباشرة، بوصفها تقوم بتجهيل الفاعل. قلت له إن المعنى الذي أراده قسطنطين زريق في كتابه معنى النكبة يختلف جذريًّا عن هذا المفهوم: فزريق، الذي ألَّف كتابه الصغير خلال أحداث العام 1948 الدموية، أراد أن يقرأ "نكبة" الشعب الفلسطيني بوصفها جزءًا من تعثُّر مشروع النهضة العربية، ولم يقصد دلالتها الحرفية؛ ثم إن الكلمة، بمفهومها الجديد، فقدت دلالاتها السابقة وصارت كلمة ملاصقة للتجربة المأسوية التي تعرَّض لها الشعبُ الفلسطيني، بحيث إنها دخلت في جميع لغات العالم. اعتراض پاپه على الكلمة يعبِّر عن هاجس الحقيقة الذي دفعه إلى توثيق الخطة "دالت" وإلى كشف آلياتها، بوصفها برنامجًا تطبيقيًّا لمشروع التطهير العرقي الذي أشرف عليه مباشرةً مؤسِّس الدولة العبرية ديڤيد بن غوريون.

"البيت الأحمر" و"البيت الأخضر"

بُني "البيت الأحمر" في شارع اليركون في تل أبيب في عشرينيات القرن الماضي كي يكون مقرًّا لمجلس العمال المحليين، لكنه تحول في أواخر العام 1947 مقرًّا للهاجاناه. في هذا المبنى الجميل، الذي ذهب ضحية التطوير المعماري ليصير موقفًا للسيارات مجاورًا لفندق شيراتون، وضعتْ مجموعةٌ من القادة الإسرائيليين، عصر يوم الأربعاء 10 آذار 1948، الخطة "دالت". ترأس الاجتماع ديڤيد بن غوريون شخصيًّا، وشارك فيه إيغال يادين وموشيه ديان ويتسحاق ساديه وإيغال آلون وآخرون. وكانت نتيجة تطبيق الخطة اقتلاع 800 ألف فلسطيني وتدمير 531 قرية وإخلاء 11 حيًّا مدينيًّا من سكانه.

من صور "نكبة" 1948: فلسطينيون مطرودون عملاً بالخطة "دالت".

الجديد في كتاب پاپه أنه يثبت، بالوقائع والوثائق، وجود خطة متكاملة لطرد "السكان الأصليين" من بلادهم. بنِّي موريس، الذي صكَّ عبارة "المؤرخين الجُدد" في إسرائيل، كان شبه حاسم في عدم وجود خطة متكاملة للتطهير العرقي، وصارت رؤيته هي الصيغة السائدة في أدبيات المؤرِّخين الجدد، إلى أن جاء كتاب پاپه ليقلب الصورة رأسًا على عقب، مقدِّمًا البراهين على أن "خطيئة إسرائيل الأصلية"، بحسب تعبير دومينيك ڤيدال في كتاب له بهذا العنوان، كانت جزءًا من مشروع سياسي وعسكري أُعِدَّ إعدادًا متأنيًا كي يؤسِّس لدولة شبه صافية عرقيًّا.

أردت أن أسأل پاپه عن العلاقة بين "البيت الأحمر" وبين ما يطلق عليه أساتذةُ جامعة تل أبيب اسم "البيت الأخضر"، الذي يُستعمَل ناديًا لأعضاء هيئة التدريس في الجامعة. هذا المبنى كان بيت مختار قرية الشيخ مؤنس التي دمِّرت. ويروي پاپه في كتابه أن "قائمة الطعام في مطعم هيئة التدريس والإدارة تشير إلى أن المكان بُني في القرن التاسع عشر، وأن مالكه كان شخصًا خياليًّا يدعى الشيخ مؤنس". هكذا يتم محو حقيقة أن جامعة تل أبيب نفسها بُنِيَتْ على أرض قرية مدمَّرة تمَّ تهجيرُ سكانها في العام 1948. ألا تثير هذه الحقيقة فضول الأكاديميين الإسرائيليين، أم أن طمس معالم النكبة هو شرط راحة الضمير الإسرائيلي؟! أثارت هذه الحقيقة غضب طالبة فلسطينية من قرية كفر برعم كانت تدرس الحقوق في الجامعة، فحاولت عبثًا أن تلفت نظر أستاذها إلى أن الصرح العلمي الذي يعمل فيه بُنِيَ على عذابات الآخرين.

-       "مَن أنت وماذا تريد؟"، سألتُه. قبل أن يجيبني، أحالني على فقرة من كتابه تقول:

"إني أتهم". لكني أيضًا جزء من المجتمع المُدان في هذا الكتاب، وأشعر أني جزء من الحكاية.

وروى پاپه حكايته:

-       ولدت في حيفا في العام 1952، لعائلة يهودية ألمانية حملتْ معها ذاكرة بلاد الغابات والبحيرات إلى جبل الكرمل. كان أبي يعيش في إسرائيل وكأنه لا يزال في ألمانيا، يسمِّي حديقة الصنوبر "غابة"، والبركة "بحيرة"، ويحاول التأقلم مع محيطه الجديد الذي صنعه اليهود الأشكناز في حيفا. كنت جنديًّا في حرب "يوم الغفران" في العام 1973 على جبهة الجولان، وعملت في الاستخبارات، حيث تعلَّمت قليلاً من العربية. الحرب غيَّرت حياتي، حيث صُدِمْتُ بالطريقة التي عامل بها الإسرائيليون الأسرى. بعد نهاية الحرب، انضممت إلى حزب مپام، أي صرت صهيونيًّا يساريًّا. وفي العام 1978، قررت متابعة دراستي في جامعة أكسفورد والعمل مع ألبرت حوراني، ومن خلال هذا العمل التقيت بالكثير من المثقفين العرب. بدأت أكتشف الحقيقة من خلال قراءة الوثائق الإسرائيلية. ما صدمني في هذه الوثائق كان الحقيقة الواضحة التي تقول بأن قسمًا من الفلسطينيين على الأقل طُرِدوا من بلادهم. وكان عملي مع مؤرخين إسرائيليين آخرين، من بينهم موشي أولمرت، شقيق رئيس الوزراء الحالي إيهود أولمرت، مناسبةً كي أفهم أنهم رأوا في ذلك "دفاعًا عن النفس"! اكتشاف المجازر والطرد هزَّ عالمي. في تلك الفترة أيضًا، بدأت أبحث عن تاريخ عائلتي في ألمانيا، ولم أستطع إلا أن أرى التوازي من حيث الطرد، على الرغم من أن الألمان رأوا أن طرد اليهود ليس كافيًّا، بل يجب إبادتهم. عدت في العام 1984 إلى إسرائيل بعد نيلي شهادة الدكتوراه عن أطروحتي حول السياسة البريطانية في فلسطين في العام 1948، وكنت أول مَن اكتشف العلاقة الأردنية–الإسرائيلية التي كتب عنها آڤي شلايم في ما بعد. السياسة البريطانية كانت واضحة في رفضها إنشاء دولة فلسطينية كانوا يطلقون عليها اسم "دولة المفتي". وعندما عملت على وضع كتابي صناعة الصراع العربي–الإسرائيلي[2]، اكتشفت أن حرب 1948 لم تكن بين أقلية يهودية وأكثرية عربية؛ إذ إن العرب لم يغادروا، بل طُرِدوا! كان هذا الكتاب في نظري بحثًا عن الروح. قلت لنفسي: إذا كان ما كتبناه صحيحًا فهذا ليس نهاية القصة، لأن الدولة كلَّها تكون قد بُنِيَتْ على جريمة. عند ذاك قررت أن أفعل شيئًا، فقررت الانضمام إلى "الجبهة التقدمية" (الحزب الشيوعي) في العام 1992، كي أعلن أني لست صهيونيًّا.

-       "وماذا عن الجامعة وموقعك الأكاديمي؟"، سألته.

-       بدأت مشاكلي مع الجامعة منذ انضمامي إلى "الجبهة". كنت أعطي درسًا عنوانه النكبة، الجذور والتاريخ، وكان أحد أكثر الصفوف شعبيةً في جامعة حيفا، يحضره طلابٌ من العرب واليهود. طلبت من طلابي الذهاب إلى أماكن إقامتهم كي يسجلوا أحداث العام 1948. أحد طلابي، تيدي كاتس – وكان يعيش في كيبوتس ماجال – اكتشف أن الكيبوتس بُنِيَ على أرض قرية زيتا الفلسطينية المدمَّرة. طلب من أعضاء الكيبوتس السماح لشيوخ من القرية، يقيمون اليوم في قرى وادي عارة، بزيارة أرضهم من أجل شجرتَي زيتون قديمتين، لكن أهالي الكيبوتس رفضوا. وعندما بدأ بحثه عن أحداث العام 1948، اكتشف مذبحة الطنطورة. اشتغل على الأرشيف، ثم جمع شهادات شفهية من أهل القرية الذين يقيمون اليوم في الفراديس وجسر الزرقا، وقابل جنودًا من "لواء ألكسندروني" ممَّن احتلوا القرية، وكانت المعلومات متطابقة. وعندما ناقش بحثه الجامعي بدأت الحكاية التي صارت معروفة اليوم. الجنود الإسرائيليون رفعوا دعوى قضائية ضده، الجامعة ضغطت كي يتراجع عن اكتشافه العلمي، وتمَّ طرده من الجامعة. وهنا بدأتْ حربُ الجامعة ضدي: ألَّفوا محكمةً جامعيةً خاصةً من أجل طردي، ثم تراجعوا. ووجدت نفسي مقاطَعًا، والترقية الأكاديمية صارت صعبة. صرت معزولاً، كمثقف وأكاديمي، واكتشفت أنه لم يعد في استطاعتي أن أقيم حوارًا مع مجتمع معبَّأ عقائديًّا. حاولت أن أعطيهم مرآة كي يروا، لكنهم كسروها! وهنا بدأ مسلسل التهديدات الهاتفية وعبر البريد الإلكتروني. ذهبت إلى مركز البوليس كي أقول إنهم يهددون أولادي، فأجابني آمر المخفر: "ماذا تنتظر غير ذلك، وأنت تحمل هذه النظريات؟"

من سعسع إلى الطنطورة

"العرب يجب أن يرحلوا"، كتب بن غوريون لابنه في العام 1937، "لكن المرء يحتاج إلى لحظة مناسبة كي يجعل الأمر يحدث، كأنْ تنشب حربٌ مثلاً."

الحرب التي نشبت في العام 1948 يمكن تلخيصها في ثلاث كلمات عبرية استعملتها القوات الإسرائيلية ككلمات رمزية للطرد – "ط.م.ب.": "طيهور"، التي تعني التطهير، و"مطاطي"، التي تعني المكانس، و"بيعور"، التي تعني اقتلاع الخبز المختمر أو التخلص منه قبيل عيد الفصح.

اجتياح قرية سعسع ليلة 14-15 شباط 1948 يضيف إلى الكلمات الرمزية الثلاث ما يمكن تسميته "سوء التفاهم القاتل"، الذي ينزع عن اللغة سمتها الرمزية ويحوِّلها أداةً للقتل المباشر. أصدر إيغال آلون، قائد الپالماخ في الشمال، الأمر بمهاجمة سعسع، التي تقع قرب المدينة الرومانية القديمة قيسارية ("قيصرية")، وكلَّف موشيه كاتسمان، نائب قائد الكتيبة الثالثة، تنفيذ المهمة. هوجمت القرية في منتصف الليل تقريبًا، ونشرت الـNew York Times في عددها الصادر بتاريخ 16 نيسان 1948 أن الوحدة لم تواجه أية مقاومة من سكان القرية عندما دخلتها وبدأت بتزنير البيوت بأحزمة الديناميت. وروى كاتسمان في وقت لاحق:

صادفنا حارسًا عربيًّا فوجئ بوجودنا إلى درجة أنه لم يسأل: "مين هادا؟" وإنما "إيش هادا؟" وأجابه أحد جنودنا ممَّن يعرفون العربية مازحًا: "هادا إيش" ["إيش" بالعبرية تعني النار]، وأطلق عليه رشقة رصاص. وتقدم جنود كاتسمان في الشارع الرئيسي، ونسفوا في شكل منهجي البيوت واحدًا تلو الآخر، بينما كانت العائلات القاطنة فيها لا تزال نائمة. وفي النهاية، خلَّفوا وراءهم 35 منزلاً مدمَّرًا وستين إلى ثمانين قتيلاً.

مشهد اجتياح سعسع لا يختلف عن مشاهد اجتياح عشرات القرى الفلسطينية – إلا في إدخاله الالتباس اللغوي واللعب على الكلمات كعنصر إضافي على المشهد! إذ إن المسألة تتعدى الأسماء الرمزية للعمليات العسكرية، لتصل إلى التلاعب بالكلمات. إيش – "ماذا" – تحمل جوابها في نفسها، لأن إيش تعني النار أيضًا! ومن يعرف اللغتين العربية والعبرية لا بدَّ أن يلحظ القرب الشديد بين اللغتين على مستويات متعددة، من بينها وجود عدد كبير من الكلمات المتشابهة لفظًا والمختلفة معنًى، في ما أطلق النحاةُ العرب عليه اسم "الأضداد". غير أن عبقرية الجريمة استطاعت أن تتفوق على الخيال! إذ بينما اكتفى الروائي الإسرائيلي أ.ب. يهوشع بالإشارة إلى التباس كلمتَي إيش (النار) وإيشا (المرأة) في قصته مواجهة الغابات، من ضمن البنية الرمزية لعمله الأدبي، فإن الجندي استعمل الكلمة في معنييها العربي والعبري معًا كي تكون وسيلته لقتل الفلسطيني!

الإشارة إلى قصة يهوشع أو إلى رواية عاموس عوز تأخذنا إلى "الفلسطيني الأخرس" (يهوشع)، أو الفلسطيني الذي لا يُرى إلا داخل مبنى رمزي مصنوع من تهويمات الاغتصاب، لكنها تشير إلى ضرورة إخراس الضحية الفلسطينية أو إضفاء طابع أنثروپولوجي رمزي عليها، كما في رواية ابتسامة الجدي لديڤيد غروسمان. غير أن الضجة التي أثيرت حول أطروحة تيدي كاتس عن مذبحة الطنطورة تشير إلى الوجه الآخر للمسألة، لأن إخراس الضحية الفلسطينية سوف يفرض أيضًا إخراس الإسرائيليين ومنعهم من قول الحقيقة.

لا تختلف مذبحة الطنطورة عن مذبحة سعسع إلا في تفاصيل الحكاية. فبينما اعترف كاتسمان بما جرى في سعسع، فإن كشف حكاية الطنطورة، من خلال بحث أكاديمي قدَّمه طالبٌ إسرائيلي في جامعة حيفا، أشار إلى صعوبات الكلام على وقائع النكبة في الثقافة الإسرائيلية السائدة.

المجزرة، كما رواها شهود عيان، تتلخص في تجميع القرويين على الشاطئ، وإعدام مجموعة من الشبان وصل عددهم إلى حوالى المئة شخص، ثم إجبار بعض أهالي القرية على تجميع الجثث ودفنها في حفرة. هاجم "لواء ألكسندروني" الطنطورة في 22 أيار 1948، بعد نجاحه في طرد سكان قريتَي كفرسابا وقاقون. وقد أورد پاپه وصف ضابط يهودي للإعدامات في الطنطورة على الشكل الآتي:

اقتيد الأسرى في مجموعات إلى مكان جانبي يبعد مئتي متر وقُتلوا رميًا بالرصاص. كان الجنود يأتون إلى القائد العام ويقولون: "ابن عمي قُتِلَ في الحرب." يسمع القائد ذلك ثم يأمر الجنود بأخذ مجموعة، يراوح عددها بين خمسة أشخاص وسبعة، وبإعدامها. وأتى جندي وقال إن شقيقه قُتِلَ في إحدى المعارك. من أجل شقيق واحد العقاب أشد! أمر القائد جنوده بأخذ مجموعة أكبر، وأُعدِمَتْ. وهكذا دواليك.

روى پاپه حكاية أطروحة كاتس عن الطنطورة بمرارة، وقال إنه يكتشف اليوم أنه يفضل أن يكون يهوديًّا وليس إسرائيليًّا:

-       أشعر أني يهودي يعيش في فلسطين، أحب البلاد ولا أحب الدولة، أحب أن أعيش فيها، لكني لا أعلم إلى الآن ماذا سيكون اسمها.

-       "ولكن لماذا تغادر؟"، سألته.

-       لا أريد أن أتماهى مع الصهيونية. إنها إيديولوجيا الخطأ. أقول لأصدقائي الفلسطينيين إني سأعمل ضد الجريمة التي ارتُكِبَتْ. أعرف أني أعيش في وطنهم وفي بيوتهم. أصدقائي الفلسطينيون يريدونني أن أبقى. أقول لهم إن النكبة لم تنتهِ بالعام 48. ففي نظر الإسرائيليين لن ينتهي المشروع إلا بعد أن تصير الدولة يهودية مئة في المئة. قلت لأصدقائي الإسرائيليين: "لا أفهم كيف تقبلون هذه الحياة؟!" قلت لهم إني أشعر بالفخر حين أرى إسرائيليين يناضلون ضد التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، لكن هذا الموقف يتلاشى حين يتعلق الأمر بإسرائيل. وهذا ما يجعلك تفكر، بوصفك إنسانًا وأبًا لولدين: هل أريد أن أعلِّم ولديَّ أن الظلم يتوقف عند حدود إسرائيل؟ هذا ما قاله بنِّي موريس، مبرِّرًا التطهير العرقي. مشكلتي ليست مع الفلسطينيين؛ مشكلتي: ماذا أفعل مع جيراني اليهود؟ يعتقدونني مريضًا، وأنا أعتقد أنهم مرضى! لذا لا أتكلم معهم عن الفلسطينيين.

طمس ذاكرة النكبة

يلخص إيلان پاپه علاقة الحركة الصهيونية بالقرى الفلسطينية بمقولتَي الاكتشاف والطمس. "الاكتشاف" بدأ مع مشروع اقترحه مؤرخٌ شاب يدعى بن تسيون لوريا من أجل إعداد سجلٍّ مفصَّل للقرى العربية في فلسطين، واقترح بأن يتولَّى "الصندوق القومي اليهودي" الإشراف على المشروع، "وهذا سيساعد في تحرير البلد"، كتب في رسالة إلى "الصندوق". كانت المحصلة النهائية لجهود الطوپوغرافيين والمستشرقين ملفاتٍ مفصلةً لجميع قرى فلسطين، عمل الخبراء على استكمالها في شكل تدريجي، بحيث اكتمل هذا الأرشيف في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي؛ وبلغ المشروع ذروته مع قرية للشبيبة تدعى شييڤيا بالقرب من قرية الفريديس الفلسطينية ومن مستعمرة زخرون يعقوب:

في هذا المكان بالذات كانت الوحدات الخاصة الموضوعة في تصرف مشروع ملفات القرى تتدرب في العام 1944، وتنطلق منه في رحلاتها الاستطلاعية.

اكتشاف القرى كان مقدمة لاحتلالها وتشريد سكانها وتدميرها. لذا كان لا بدَّ بعد انجاز المهمة من "طمس" معالم الجريمة. وهذا ما قامت، وتقوم به، الغابات في إسرائيل. هنا يتوقف الكتاب أمام ثلاث غابات يملكها "الصندوق القومي اليهودي": الغابة الأولى هي بيريا في منطقة صفد، وتغطي مساحة عشرين ألف دونم، وتخفي تحتها قرى ديشون وعلما وقديتا وعمقا وعين الزيتون وبيريا؛ الغابة الثانية هي حديقة رامات منشيه، وتغطي أنقاض كلٍّ من اللجون والمنسي والكفرين والبطيمات وخبيزة ودالية الروحاء وصبَّارين وبريكة والسنديانة وأم الزينات؛ والثالثة هي غابة القدس، التي تصل في إحدى زواياها الجنوبية إلى قرية عين كارم وتغطي قرية بيت مزمير وتمتد إلى أراضي قرى حورش وصوبا والجوزة وبيت أم الميس. واللافت أن هذه الأراضي زُرِعَتْ بالصنوبريات، مع رفض متعمد لزراعة الأشجار التقليدية التي كانت سائدة في هذه المناطق، وخصوصًا أشجار الزيتون، وذلك بهدف إضفاء مظهر أوروبي على البلد!

النكبة كانت في حاجة إلى معرفة القرى العربية في شكل دقيق، مما سهَّل على الپالماخ والهاجاناه عملياتهما العسكرية؛ ولعبت المعلومات التي جُمِعَتْ حول أهالي القرى، وخصوصًا حول المشاركين في ثورة 1936، دورًا كبيرًا في التصفيات الجسدية التي تمت بعد سقوطها.

غير أن الحقيقة تحتاج إلى حَجْب! وهذا ما قامت به الغابات والحدائق العامة في إسرائيل، وما تقوم به الإيديولوجيا الصهيونية من خلال تأكيدها الدائم على مقولة إسرائيل زنغويلي عن "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"! واختتم إيلان پاپه حوارنا قائلاً:

-       برهن كتابي على أن عدم تعامُل العالم مع ما حدث في العام 1948 بوصفه جريمة أتاح للإسرائيليين الاعتقاد بأنهم يستطيعون متابعة ما قاموا به. إسرائيل لا يريد حلاًّ. الفكرة الإسرائيلية الأصلية هي أن تأسيس الدولة يعبِّر عن عودة اليهود إلى أرضهم. كان بن غوريون يسمِّي الفلسطينيين "غرباء"، والإسرائيليون يتكلمون في أغنية "القدس الذهبية" عن مدينة يحتلها "الغرباء". لا أحد في فلسطين أو العالم يعي ذلك. إنهم لا يرون أنفسهم كمحتلين أو كمستوطنين، بل يشعرون أن الأرض أرضهم وأنهم يقاتلون "الغرباء"!

إيلان پاپه يعتقد أن الحلَّ الوحيد هو في دولة ثنائية القومية. لكني لم أُجِبْه بأن هذا يعني إنهاءً للمشروع الصهيوني وحروبًا لا نهاية لها. لم أجب، لا لأني لا أعرف، بل لأن في فمي ماءً، كما تقول العرب! فالمشروع الوطني العَلماني الفلسطيني، كغيره من المشاريع العَلمانية، يتهاوى تحت ضربات الاحتلال ووسط الجنون الأصولي، الذي تنامى مع الغزو الأمريكي للعراق، ووصل إلى ذروته مع محاولة قتل احتمال حلِّ الدولتين في "المقاطعة" التي حاصرها الإسرائيليون حتى موت ياسر عرفات.

"الأمل"؟ دانيال بارنبويم يقود أوركسترا "الديوان الشرقي–الغربي".

قلت لپاپه، ونحن نستمع إلى موسيقى أوركسترا "الديوان الشرقي–الغربي"، إن "الأمل في هؤلاء الموسيقيين"، فابتسم.

كنت أعلم أننا أضعنا الأمل، وأن علينا أن نعيد ابتكاره!

*** *** ***

عن النهار


 

horizontal rule

[1] Ilan Pappé, The Ethnic Cleansing of Palestine (Oxford: OneWorld Publications, 2007), 313 pp.

[2] Ilan Pappé, The Making of the Arab-Israeli Conflict, 1948-1951 (New York: I.B. Tauris, 1992), 324 pp.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود